آخر الأخبار

أبطال مهملون.. قصة المقاومة الشعبية في نوى السورية

شارك

"وأنا أرفع قاذف الآر بي جي، قلت لزملائي: حين أقف لضرب المصفحة الإسرائيلية، قوموا بتغطيتي ببنادقكم"، كانت هذه آخر عبارة قالها أسامة محمود العودة الله لجاريه الأخوين عبد الله وهاشم بطحة. "في تلك الأثناء، رن هاتف عبد الله، فلمع ضوء هاتفه، وكانت الزنانات وطائرة مروحية تحلق فوقنا، فكشفنا الضوء، فأرسلوا علينا قذيفة". كان هذا بعض ما جرى في الثاني من أبريل/نيسان الماضي في ريف درعا الغربي.

في الشهر الماضي، شهد ريف درعا الغربي، فجر الخميس الثالث من أبريل/نيسان 2025، توغلا عسكريا إسرائيليا هو الأعمق منذ سنوات، حيث تقدمت قوة مدرعة داخل حرش سد الجبيلية بين مدينتي نوى وتسيل، وتصدى لها شباب مدينة نوى، فانسحبت بعد ساعات. وجاء القصف والاشتباكات في درعا بالتزامن مع ضربات جوية إسرائيلية استهدفت مواقع إستراتيجية في العاصمة دمشق و حمص و حماة .

بدت لي التقارير الإخبارية غائمة بشأن حيثيات ما حدث تلك الليلة في درعا بعد تقدم الجيش الإسرائيلي في ريفها، فقررت زيارة المدينة والوقوف على تفاصيل مبادرة المقاومة الشعبية للتوسع الإسرائيلي في سوريا.

مصدر الصورة مظاهرة في حرستا قرب دمشق يوم 11 أبريل/نيسان الماضي تضامنا مع الفلسطينيين ضد هجمات الاحتلال الإسرائيلي (الأوروبية)

زيارة حوران

"هذا جبل الشيخ ؟" سألت السائق، وأنا أنظر من النافذة بعد أن خرجنا من دمشق متجهين جنوبا.

"نعم، انظر إلى الثلوج، ما زالت عليه ونحن في بدايات الصيف"، أجاب السائق الأربعيني الذي لم يغادر سوريا قط.

"يبدو أن تسميته بجبل الشيخ منطقية إذن، فهذه العمامة من الثلج تلف رأسه طوال العام، كشيخ متأنق"، قلت معلقا.

إعلان

"هل يرانا الإسرائيليون الآن وهم فوقه إذا لوحت لهم؟"، قال زميلي المرافق ممازحا السائق.

"الله يهدهم"، قالها سائقنا الدمشقي بتذمر واضح، دون أن يبتسم، مخالفا بروتوكولات اللطافة الشامية التي تقتضي أن نكتة الزبون مضحكة دائما.

يعدّ جبل الشيخ (حرمون) أحد أكثر المواقع الجغرافية حيوية في منطقتنا العربية، حيث يجمع بين الأهمية العسكرية والاقتصادية والدينية. يقع عند تقاطع حدود سوريا وإسرائيل ولبنان، مما يجعله نقطة مراقبة إستراتيجية تكشف دمشق وتتحكم في تحركات القوات في المنطقة.

كما يشكل الجبل خزانا مائيا، حيث تنبع منه أنهار رئيسية مثل نهري الأردن وبانياس، بينما تجتذب ثلوجه الشتوية السياح ومحبي التزلج. ويحمل الجبل بُعدا دينيا وتاريخيا عميقا، حيث يرتبط بتراث ديني قديم ويحوي آثارا رومانية وبيزنطية. كل هذه العوامل لا تجعله مجرد جبل، بل نقطة صراع وجذب تتجاوز حدوده الجغرافية.

وتعتبر الصهيونية الدينية الجبل من "أرض إسرائيل التاريخية" وفقا للمفهوم التوراتي، إذ يصف الحاخام دوف ليئور، وهو أحد أبرز ممثلي التيار الديني القومي، الجبل بأنه "بوابة الأرض المقدسة" التي يجب أن تظل تحت السيطرة اليهودية.

وفي خطاب عام 2019، أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن "هضبة الجولان -ومنها جبل الشيخ- ستبقى إلى الأبد تحت السيادة الإسرائيلية"، مستندا في تصريحه إلى "الحق التاريخي والديني" كما ورد في النصوص المقدسة.

مصدر الصورة

المزيريب

حين وصلنا إلى بلدة المزيريب التي يكثر فيها وجود اللاجئين الفلسطينيين، كان مضيفنا الذي انتظرنا بعد خروجه من صلاة الجمعة واحدا منهم، ليصحبنا إلى موقع الحادثة في نوى بعد تنسيقه مع وجهاء البلدة.

"لقد جئنا من صفد بعد النكبة، ومنذ ذلك الوقت ونحن في المزيريب. في ليالي الصيف ننام على السطح ونرى أنوار مدينتنا التي سنعود إليها يوما ما"، قال لي أبو أيمن ذو الـ75 عاما، وهو يدعونا لركوب السيارة للانطلاق إلى نوى.

إعلان

أغلب سكان هذه البلدات مزارعون، فحوران هي سلة غذاء سوريا، حيث توفر جزءا كبيرا من إنتاج البلاد من القمح، والشعير، والخضروات، والفواكه، خاصة الزيتون والعنب والرمان. وبحسب تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، كان إقليم حوران قبل عام 2011 يساهم بأكثر من 20% من الإنتاج الزراعي السوري الإجمالي. وحوران أيضا موطن رئيسي لتربية الأغنام والأبقار، مما جعلها مركزا مهما لإنتاج اللحوم والألبان ومشتقاتها. وبحسب إحصاءات وزارة الزراعة السورية (قبل الثورة)، تتركز نحو 18% من الثروة الحيوانية السورية في محافظتي درعا والسويداء اللتين تشكلان قلب حوران.

في ضيافة رجال المقاومة

بصوت خفيض يقطعه نفس ثقيل من آلام المعركة، يحكي أسامة قصته -وهو ممدد فوق سريره- كوردة قطفت من رأسها، فقد أصيب إصابة أودت بكلتا رجليه.

"قبيل منتصف الليل بقليل، سمعنا بدخول الإسرائيليين إلى منطقة سد الجبيلية. اتصلت بأصدقائي أبناء بطحة، عبد الله وهاشم، وشاب من الطياسنة ندعوه أبا جانتي. أخذنا بنادقنا، وأخذت معي قاذف آر بي جي، وانطلقنا على دراجتنا النارية. وصلنا إلى المنطقة، ورأينا المسيّرات وقافلة من العربات المصفحة. كمنّا في الحرش، وأردنا أن نضرب إحدى العربات المصفحة التابعة لقوات الاحتلال المتوغلة في أراضينا".

مصدر الصورة أثناء زيارتنا لأسامة العودة (يسار) الذي استهدفته قذيفة إسرائيلية (الجزيرة)

"أوقفنا دراجاتنا بالقرب، ودخلنا سيرا على الأقدام. أردنا أن نضرب إحدى المصفحات المتقدمة. كان بيننا وبينها 150 مترا. قلت للشباب أن يغطوني برشاشاتهم لأضرب المصفحة. في تلك اللحظة، اقتربت زنانة استطلاعية، بعد أن رن هاتف عبد الله. وفجأة نزلت علينا قذيفة، أصابت الشاب الذي كان يحمل قذائف الآر بي جي، فتطايرت أشلاؤه، واستشهد الثاني معه على الفور. ثم أطلقوا قذيفة ثانية فاستشهد الثالث. أخذت أزحف بحثا عن ساتر، فأطلقوا قذيفة ثالثة، فبترت قدمي. واصلت الزحف إلى أن اختبأت بين صخرتين. ظللت أنزف من الساعة الثانية عشرة إلى الثانية صباحا، حينها وصل الشباب وأسعفوني إلى المشفى".

إعلان

وسألته: "هل أرسلت لك الحكومة أحدا لتكريمك وعلاجك، أو عرضت عليك أطرافا صناعية؟".

"لم نر مسؤولا واحدا. أخي يعمل في الأمن العام، ومع ذلك لم يلتفت إليه أحد. لقد خرج للدفاع عن سوريا، وحكومة سوريا ليست مهتمة به"، قال محمد، شقيق أسامة بانفعال شديد، قبل أن ينفجر بالبكاء حزنا على أخيه الذي فقد أطرافه في مقتبل شبابه.

في ضيافة أبي الشهداء

أمام بيت حجري متواضع في مدينة نوى، توقفت السيارات. كان أبو الشهداء عطا الله السقر (أبو بسام) يقف أمام مضافته. شيخ سبعيني نحيل الجسد، أكلت الأحزان من جسده، لكنها لم تحنه. جلسنا في المضافة التي علق على أحد جدرانها صورا لأبنائه الأربعة الذين استشهدوا، وعلى الجدار المقابل تقويم عليه صورة المسجد الأقصى، بينما سائر الحيطان المقشرة من الطلاء بسبب الرطوبة كانت خالية من أي زينة.

بعد أن تأكد من أن جميع الزوار قد أخذوا أماكنهم في مجلسه، جلس أبو بسام في طرف المجلس بجانب الباب، والشمس مسلطة عليه. أوسع له الجميع ليغير مكانه، لكنه قال بلهجته الفلاحية الأصيلة: "أحب هذا المكان، أريد أن أبقى تحت الشمس".

مصدر الصورة عطا الله السقر أبو الشهداء (الجزيرة)

بدأت التعازي تنهال عليه من كل زوايا المجلس، وهو يردد: "الحمد لله، الحمد لله". فلما سكت المجلس، أشعل سيجارة وقال: "فداء للأمة العربية والإسلامية، هذا شرف لنا أن يستشهد ابني في حماية أرضه وعرضه من الإسرائيليين. لم يكن الأول، فقد سبقه إخوته الثلاثة وهم يقاتلون النظام الأسدي".

كان أبناؤه موسى وأحمد ويحيى قد انضموا إلى الجيش الحر في الثورة السورية . استشهد أحمد في "عاصفة الجنوب"، وهي حملة عسكرية شنها الجيش السوري عام 2018 بدعم من الحلفاء (روسيا وإيران والمليشيات الموالية) لاستعادة السيطرة على مناطق في جنوب سوريا، وخاصة محافظتي درعا والقنيطرة، من سيطرة الفصائل المعارضة. أما يحيى، فقد جاءت عناصر موالية للنظام واغتالته وهو يفلح أرضه، إذ كان قائد فصيل.

إعلان

وتابع أبو بسام "اتصل أحد أصدقاء عيسى به وأخبره أن مجموعة شباب خرجوا إلى الحرش ليتصدوا لتوغل الإسرائيليين. لم يفكر كثيرا، بل حمل بندقيته وخرج. بعد ساعات بلغنا خبر استشهاده، فحمدنا الله. في يوم التشييع خرجت درعا كلها، وجاء الناس من كل المحافظات يعزون ويهنئون. كانت المسيّرات بعشرات الآلاف".

"حين تابعت التشييع الشعبي، رأيت الناس يطلقون على الشهداء لقب (إخوة السنوار).. من الذي أطلق عليهم هذا؟"، سألته.

"نحن شعب واحد، أطلق الناس هذا الاسم وانتشر. في وعي أهل درعا نحن وغزة شعب واحد، والمقاومة للاحتلال واجب يجمعنا"، أجاب أبو بسام.

ودعنا أبو بسام وهو يعتذر لنا بأنه لم يقدم لنا سوى الشاي والماء، وقال إنه كان يجب أن يطعمنا.

مصدر الصورة معاينة أثر الحفرة التي خلفتها القذيفة (الجزيرة)

في موقع العملية

في موكب من السيارات تتقدمه حافلة صغيرة تقل وجهاء نوى، وينتهي بسيارتنا العائلية، أخذنا نخوض طريقا غير معبدة في منطقة زراعية يسميها أهل البلاد "الحرش"، وهي منطقة أشجار حراجية لا تفلح، مليئة بأشجار الكينا.

"إلى أين يأخذوننا؟ السيارة لا تستطيع أن تواصل في هذا الطريق الوعر"، قال سائقنا متذمرا. بعد دقائق توقفت السيارات بالقرب من سد الجبيلية، بجوار تل الجموع.

في أرض فضاء مليئة بالأشجار تطل على السد، اتخذها السكان متنزها عاما، تحلقنا حول حفرة عميقة في الأرض. قال لنا مرشدنا، أبو عبادة ياسر المسلم، أحد أعيان نوى: "هذا أثر القذيفة من المروحية التي أصابت الشباب الذين جاؤوا في الدفعة الثانية لإسعاف الشباب الأربعة الذين وصلوا أولا".

وأضاف أبو الوليد، الرجل الذي أسعف أسامة وأخذه إلى المشفى: "عندما وصلنا كان عددنا 11 رجلا، رأينا الشباب وقد قتل منهم 3 وبقي أسامة، أردنا إسعافه، فجاءتنا هذه القذيفة، فأصابتني شظاياها في ظهري وبطني، وقتل 6 أشخاص منا".

أثر القذيفة (الجزيرة)

أخذ الفريق المصاحب لنا يجمع شظايا القذائف وبقايا الشهداء من الملابس وحاجياتهم. بعض الشهداء جُمعوا أشلاء، لم يكونوا قطعة واحدة.

إعلان

لقد كمن الجنود الإسرائيليون لفترة في مبنى مهجور قريب كان مخصصا للواء "أهل العزم"، يبعد 150 مترا عن موقع الاشتباك.

"وجدنا بقايا طعام ومعلبات وأعقاب ذخائر ولفافات من الأسلاك الشائكة تركتها قوات العدوان الإسرائيلية بعد انسحابها من المنطقة"، قال لي إسماعيل أبو خشريف.

كان التقدم الإسرائيلي قادما من الغرب، من جهة القنيطرة التي اعتاد الإسرائيليون اقتحامها بدوريات عسكرية منذ سقوط النظام، بحثا عن الأسلحة وتقديم المساعدات للقرى.

"مؤخرا جمع أهل القنيطرة المساعدات الإسرائيلية وقاموا بإحراقها، في رسالة رفض لتطبيع العلاقات مع الجيش الإسرائيلي"، يقول أبو خشريف.

احتلت إسرائيل القنيطرة في حرب 1967، ثم استعادت سوريا معظمها في حرب 1973، لكنه كان استردادا منقوصا، إذ بقيت منطقة منزوعة السلاح بموجب اتفاقية عقدت عام 1974.

بعد سقوط النظام، احتلت إسرائيل 235 كيلومترا من جنوب سوريا على شكل قمع بطول 80 كيلومترا، يضيق جنوبا حيث يبدأ عرضه بـ200 متر، وينتهي بعرض 10 كيلومترات.

من بقايا ملابس الشهداء (الجزيرة)

تركز القصف الإسرائيلي مطلع الشهر الماضي على تل الجموع المشرف على المنطقة، والذي يمكن أن يكون نقطة لتأمين السهل المحيط به.

"لقد قصفوه بـ40 قذيفة"، يقول أبو عبادة. ولتل الجموع ذاكرة تاريخية عظيمة عند أهل المنطقة، فعند هذا التل جمع خالد بن الوليد جيوش المسلمين قبل معركة اليرموك (15 للهجرة/636 للميلاد) التي وقعت على هذه الأراضي، وانكسر بعدها الوجود الرومي في الشام، واستولى المسلمون على مدن دمشق والقدس وحمص تباعا، وتراجعت الإمبراطورية البيزنطية إلى أقصى الشمال السوري عند الحدود التركية.

تشييع شهداء نوى (الجزيرة)

حوران بوابة دمشق

منذ فجر التاريخ، كان طريق الجيوش إلى دمشق والقدس يمرّ عبر حوران. منها عبر الفرس حين استولوا على الشام والقدس من الإمبراطورية البيزنطية في القرن السابع الميلادي، ومن هنا مرّ المسلمون في فتوح بلاد الشام.

إعلان

فحوران بوابة دمشق، فهي تمثل الدرع الأول للعاصمة السورية بفضل موقعها الجغرافي الحيوي، الذي يجعلها خطا دفاعيا أماميا ضد أي تهديدات قادمة من الجنوب، حيث تشكل حاجزا طبيعيا يحمي العاصمة من الهجمات البرية. وهي شريان إمداد للعمق العربي، لكونها ممرا رئيسيا يربط دمشق بالمملكة الأردنية ودول الخليج عبر شبكة طرق حيوية. كما أنها نقطة مراقبة إستراتيجية، إذ توفر مرتفعاتها مواقع متقدمة لرصد التحركات العسكرية في جنوب سوريا وهضبة الجولان.

تسعى دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى بسط نفوذها على حوران بالسيطرة على تلالها ومرتفعاتها، ومنع أي وجود عسكري أو وجود حالة مسلحة بين سكانها، وتعمل بجد لتحقيق هذين الهدفين.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا