آخر الأخبار

أسطورة الشطرنج بوبي فيشر.. البيدق الأميركي الذي هزم السوفيات ووطنه ونفسه

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

في العام 1950، وصل إعلان غريب إلى صحيفة "بروكلين إيغل" الأميركية، أرسلته امرأة تبحث عن أطفال في سن ابنها البالغ 7 سنوات من أجل مشاركته لعبة الشطرنج. استغرب المسؤولون عن قسم الإعلانات في الصحيفة من محتوى الإعلان وعجزوا عن تصنيفه، وكان الحل بالنسبة لهم هو تجاهله. لم يعلم المسؤولون عن قسم الإعلانات في الصحيفة أن الفتى الذي بدا من الإعلان أنه غارق في وحدةٍ دفعت والدته إلى كتابة إعلان تبحث له عن رفيق يلاعبه الشطرنج؛ هو روبرت فيشر، المعروف باسم بوبي فيشر، الذي سيصبح بعد أقل من عقدين من الزمن بطل العالم في الشطرنج، ليس ذلك فحسب، بل الرجل المحارب دون ذخيرة في أوج لهيب الحرب الباردة، والذي حمل نياشين وألقابا استحقها: العبقري المجنون.

وُلد بوبي فيشر عام 1943، في أوج الحرب العالمية الثانية، وعاش طفولته وكهولته في ظلّ الحرب الباردة التي خاضها بوبي فيشر بطريقته. حاكت له الصدف ميدانا مختلفا لمعارك خاضها وانتصر فيها ببسالة، وهو ميدان الشطرنج، ولكنه في المقابل لم يفز في معارك أخرى، ربما لأن النصر فيها لم يعنِ له شيئا: عائلته وصحته ووطنه.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 متحف اليمن الوطني.. صرح تاريخي طاله التخريب الإسرائيلي
* list 2 of 2 أيادي الشباب تعيد نسج خيوط التراث المنسي في "بيت يكن" بالقاهرة التاريخية end of list

كان بوبي فيشر لغزا عصيًّا على الفهم، عجز مؤرخو سيرته عن فكّ شيفراته، وأدرك البعض أن الكتابة عن فيشر لا تزيده إلا غموضا، حتى أولئك الذين أسقطوا عليه قواعد علم النفس لفهم كل خطوة تَقدّمها أو عادها إلى الوراء، يقرون أنه ما من تفصيل جديد سيضيفه ذلك العلم الذي لم ينجح إلا في تثبيت صفة واحدة؛ هي أن بوبي فيشر كان عبقريا بما يكفي ليخلّده التاريخ.

مصدر الصورة بوبي فيشر، أصغر أستاذ دولي كبير في تاريخ الشطرنج، وهو يلعب جولة تدريبية مع الأستاذ السوفياتي الكبير تيغران بتروسيان، في نادي الشطرنج المركزي بموسكو في الاتحاد السوفياتي، في يونيو/حزيران 1958 (أسوشيتد برس)

الوصفة المثالية لعبقرية بوبي

في أحد مستشفيات شيكاغو على ضفاف بحيرة ميشيغان، يوم 9 مارس/آذار 1943، همست ريجينا فيشر للطبيب في المستشفى لتعلن عن اسم مولودها الذي وُلد مساء ذلك اليوم: روبرت فيشر، واسم الأب هو جيرهارد فيشر. منذ تلك اللحظة، قُدّر لروبرت، أو بوبي كما أصبح يعرف لاحقا، أن يعيش في دائرة من الريبة وصلت حد الشك المرضي، فحياته بدأت بكذبة نسَبه، حيث يُجمع كتّاب سيرته الذين تسللوا إلى محيط عائلته أن جيرهارد لم يكن الأب الحقيقي لبوبي، بل نسبه يعود إلى عالم فيزياء يدعى بول نيميني.

إعلان

يقول الباحث جوزيف بونتيروتو في دراسة بعنوان "بوبي فيشر.. الحرب الباردة والانتشار العالمي للسيَر النفسية": "يعتقد معظم كُتاب سيرة فيشر أن بول نيميني هو الأب البيولوجي لبوبي، ورغم أنه ساهم في إعالة ريجينا وطفلتها جوان وطفلها بوبي ماديا، فإنه لم يتزوج هو وريجينا قط. يعتقد الباحثون أن ريجينا لم تخبر بوبي أبدا باسم أبيه الحقيقي، خوفا من الوصم الاجتماعي الذي يمكن أن يطالها في أوائل أربعينيات القرن 20 لأنها أنجبت وليدها خارج إطار الزواج. في الواقع، أوعزت ريجينا إلى طبيب الولادة بإدراج جيرهارد فيشر كوالد لبوبي في شهادة ميلاده. يمكن لأسرار عائلية كهذه أن تُعزز مشاعر عدم الثقة وانعدام الأمان في حياة المرء، وهي مشاعر ظلت ملازمة لبوبي طيلة حياته".

كان نسب بوبي فيشر متشابكا، فأمه ريجينا فيشر وُلدت في سويسرا، لكنها كانت من أصول بولندية يهودية، هاجرت صحبة عائلتها إلى الولايات المتحدة عام 1914، ثم انتقلت إلى الاتحاد السوفياتي، وكانت تزور برلين باستمرار، حيث التقت بزوجها جيرهارد هناك قبل أن يفرا من ألمانيا في أواخر الثلاثينيات خوفا من النازيين، ويختارا الاستقرار في الاتحاد السوفياتي.

مصدر الصورة ريجينا فيشر، والدة بوبي فيشر (شترستوك)

أثّرت إقامة ريجينا فيشر في موسكو -قبل ولادة ابنها- في حياتها وفي بوبي منذ أن كان طفلا، ففي الوقت الذي كان لريجينا ارتباط بالاتحاد السوفياتي حيث آمنت بالفكر الشيوعي، تحمّل بوبي الطفل عبء أيديولوجيا اعتنقتها والدته في أوج العداء البارد بين القطبين الشرقي والغربي.

خلال إقامتها في موسكو، قدم الاتحاد السوفياتي فرصة لريجينا كي تلاحق حلمها، وكان له الفضل في دراستها الطب، حيث التحقت بالمعهد الطبي الأول في موسكو، وحين عادت إلى الولايات المتحدة عام 1939، شحنت معها فكرا شيوعيا غامرت باعتناقه، خاصة حين انضمت إلى الحزب الشيوعي الأميركي عام 1945. في تلك الفترة، كانت ريجينا هدفا لبحث معمّق قام به مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي إدغار هوفر، الذي عرف عنه أنه كان يجمع تقارير سرية عن شخصيات أميركية. خضعت ريجينا للرقابة طيلة 30 عاما بدأت من العام 1943 إلى غاية العام 1972، وجمع مكتب التحقيقات الفيدرالي ملفا يخص ريجينا فيشر يحوي 994 صفحة.

لم تعتقل والدة بوبي ولم تعتبر جاسوسة سوفياتية، لكنها كانت محلّ رقابة شديدة جعلتها تعيش في حذر وخوف دائميْن نقلتهما إلى ابنها بوبي.

لم يمرّ ذلك الظرف دون أن يترك أثرا في شخصية بوبي فيشر، حيث أدخلت ريجينا ابنها في دوامة الشك والخوف دون رغبته ودون قصد منها أيضا، ويذكر وثائقي بعنوان "بوبي فيشر ضد العالم" للمخرجة ليز غاربوس، أنه "عندما كان فيشر فتى، حذرته والدته من التحدث إلى أشخاص غرباء قد يكونون عملاء لمكتب التحقيقات الفيدرالي يحاولون جمع معلومات عن والدته".

سددت ريجينا فيشر ثمنا باهظا مقابل ميولها الشيوعية، حيث أغلقت أبواب العمل في وجهها، وحين ولد بوبي، كانت تمرّ بوضع مالي صعب، وعانت العائلة خلال السنوات الأولى من حياة بوبي، واضطرت والدته للعمل في وظائف مختلفة خارج اختصاصها، وتنقلت من العمل على آلة كاتبة إلى العمل في أحواض بناء السفن زمن الحرب العالمية الثانية. وقبل ذلك، لم يحظ بوبي الطفل عند ولادته بمنزل ليستقبله، حيث عاش صحبة والدته في "منزل سارة هاكيت للأمهات العازبات".

إعلان

تذكر دراسة بعنوان "عبقرية بوبي فيشر وجنونه.. حياته من منظور سيرة ذاتية نفسية" للباحثيْن جوزيف بونتيروتو وجاسون رينولدز، أنّ طفولة بوبي فيشر لم تكن سهلة، حيث يقول الكاتبان إن "فيشر، الذي نشأ بلا أب، ودون أم منذ سن المراهقة، هو رجل لم ينجح، وفشل فشلا ذريعا في كل شيء باستثناء الشطرنج. وبالتالي، فإن الفوز في الشطرنج بالنسبة له، يجب أن يُشبع جميع أنواع الرغبات الانتقامية، التي ينتقم فيها من جميع الأشخاص الذين أذلوه طوال حياته. وبالمثل، تُعيده الهزيمة إلى وضع الصبي الصغير المهجور العاجز الذي كان يشعر بتعاسةٍ شديدة".

رغم أن بوبي فيشر لم يكن محاطا بعائلته فعليا، فإنه لا يمكن لأحد إنكار فضل والدته التي بسطت له مرتين -ودون أن تدرك- طريق المجد في ميدان الشطرنج الذي لا يتقنه إلا العباقرة، المرة الأولى حين قررت الانتقال من أريزونا إلى نيويورك معقل عظماء الشطرنج في الولايات المتحدة، والثانية حين نشرت إعلانها الغريب في صحيفة "بروكلين إيغل"، والذي وجد طريقه إلى أحد أبطال أميركا في الشطرنج، وكان سببا في اكتشاف العالم عبقرية بوبي.

مصدر الصورة لاح نجم بوبي فيشر وأشعّ بقوة، وعرف الجميع موهبته حين تنافس على بطولة الولايات المتحدة للهواة في مايو 1955 (شترستوك)

المحارب الصغير في طريقه إلى موسكو

في العام 1951، كان بوبي فيشر في سنّه الثامنة، وأتيحت له فرصة لمواجهة ماكس بافي بطل أسكتلندا. صمد الطفل 15 دقيقة أمام البطل الأسكتلندي قبل أن يُهزم، لكنه رغم الهزيمة، أبهر الجميع بأدائه.

في تلك الفترة، تحقق هدف روجينا فيشر في إيجاد رفيق دائم للعب مع ابنها، حين قبِل رئيس نادي بروكلين للشطرنج أن يلعب مع بوبي من خلال تقديم دروس له، حينها لم تدرك السيدة فيشر أن ابنها سيغرق أكثر فأكثر في لعبة الشطرنج حتى تصبح هوسه.

انضم بوبي إلى نادي بروكلين للشطرنج، وطيلة السنوات القليلة التالية، لم يكن يغيب عن أي أمسية للعب، وكانت أول بطولة شارك فيها هي بطولة نادي بروكلين للشطرنج عام 1953، حين كان عمره 10 أعوام وحلّ في المرتبة الخامسة.

بدأ بوبي فيشر يتعرف بعمق على عالم الشطرنج، وكان يدرك جيدا أن السوفيات هم عباقرة اللعبة، لذلك لم يفوّت فرصة مشاهدة جولات مباريات الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عام 1954، وكان يحلم دون شك أن يكون منافسا لأحد أفضل لاعبي العالم من السوفيات.

لاح نجم بوبي فيشر وأشعّ بقوة، وعرف الجميع موهبته حين تنافس على بطولة الولايات المتحدة للهواة في مايو/أيار 1955، قبل أن يحصد بطولة الناشئين عام 1956، حينها لم يكن يتجاوز عمره 13 عاما، وبذلك أصبح بوبي أصغر لاعب يفوز بتلك البطولة. وفي العام 1958، تُوّج ببطولة الولايات المتحدة قبل بضعة أشهر من بلوغه 15 عاما.

يقول كتاب "بوبي فيشر.. نبذة عن موهبة عبقرية": "قبل فوزه ببطولة أميركا للشطرنج، كان اسم بوبي يُتداول في جميع أنحاء العالم، حتى في الاتحاد السوفياتي. نشرت مجلة شاخماتي بيوليتين مباراته مع دونالد بيرن، كما فعلت معظم نشريات الشطرنج الأخرى في العالم. تلقى الاتحاد الأميركي للشطرنج دعوة رسمية لبوبي لزيارة روسيا في العام 1957، لكن لم يتم الاتفاق على تمويل الرحلة وألغيت، ولم يثن ذلك فيشر على البحث عن فرص أخرى لزيارة الاتحاد السوفياتي في وقت لاحق".

مصدر الصورة بوبي فيشر خلال مباراة شطرنج في 1957 وعمره 14 عاما (شترستوك)

في العام 1958 تحقق حلم فيشر بالذهاب إلى موسكو، حيث لعب مع أبرز لاعبي نادي موسكو المركزي للشطرنج. ويذكر كتاب "بوبي فيشر.. نبذة عن موهبة عبقرية" أنه في العام ذاته "أصبح فيشر أصغر الأساتذة العظام في تاريخ الشطرنج، بعد حصوله على المركز الخامس في بطولة المناطق في بورتوروز اليوغسلافية. وفي مسيرته نحو بطولة العالم للشطرنج، هيمن فيشر لأول مرة على بطولة المناطق عام 1970 في بالما دي مايوركا بإسبانيا، ثم هزم أساتذة كبارا مشهورين مثل مارك تايمانوفوبنت لارسن، وديكران بتروسيان، في مباريات عدة. وبذلك، أصبح مؤهلًا لمنافسة بطل العالم آنذاك، اللاعب السوفياتي بوريس سباسكي، على لقب بطل العالم في الشطرنج".

رقعة ساخنة في حرب باردة

في بداية سبعينيات القرن الماضي، كانت الحرب الباردة تلقي بظلالها على كل الميادين، بما فيها ميدان الشطرنج، ففي الوقت الذي بنى فيه الروس إمبراطورية الشطرنج في الأربعينيات وهيمنوا على ألقاب تلك اللعبة حتى أصبحت مفخرة الاتحاد السوفياتي، ظهر بوبي فيشر ليهدد عرشهم. كان صعوده الصاروخي نحو ذلك العرش يمثل خطرا على سمعة إمبراطورية بأكملها، في فترة يتصارع فيها قطبان عالميان على الهيمنة على كل شيء، بما يشمل مجال الرياضة.

إعلان

بدأ السوفيات يستشعرون التهديد الحقيقي حين فاز بوبي فيشر ببطولة المناطق عام 1970، وكان من بين ضحاياه اللاعب السوفياتي ديكران بتروسيان. وفي الوقت الذي بدأ العد التنازلي لمشاركة فيشر في بطولة العالم التي توّج بها في السابق السوفياتي بوريس سباسكي، بدأت حرب تصريحات بين فيشر والروس. وينقل الكاتب فرانك برادي في كتابه "بوبي فيشر.. نبذة عن موهبة عبقرية" أنه "قبل مباراته مع بتروسيان، كان فيشر قد قدّم حصته السنوية من الإهانات للروس، ووصف لاعبي الاتحاد السوفياتي بأنهم مجرد موظفين في الدولة، وأنهم لا يملكون شخصيات مستقلة، متهما إياهم بالفوز بكل طريقة ممكنة، وبأنه ليس لديهم حس رياضي. سارع الروس إلى الرد، وذكرت صحيفة سوفياتسكي سبورت أن فيشر لم يكن أفضل لاعب شطرنج في العالم خلال السنوات 10 الماضية، ولم يُثبت ذلك بعد، وردّ بوبي فيشر: سيتعين عليهم الانتظار واللعب بشروطي".

بعد عامين من ذلك، أي بحلول موعد بطولة العالم للشطرنج، طبّق بوبي وعيده حرفيا حتى أصبح حديث العالم بأسره.

مصدر الصورة فيشر في مواجهة سباسكي ضمن بطولة العالم للشطرنج في آيسلندا عام 1972 (أسوشيتد برس)

انتظر الساسة والمحترفون والصحافة وحتى الهواة مباراة حسم بطولة العالم للشطرنج بين بوبي فيشر وبوريس سباسكي. كانت تلك المنافسة بمثابة إحدى المعارك الحاسمة لحرب واسعة. في ذلك العام، حدد الاتحاد الدولي للشطرنج تاريخ 31 يناير/كانون الثاني 1972 باعتباره آخر موعد كي يقدم المتنافسان قائمة تتضمن المدن التي سيتم اختيار إحداها لاحتضان المنافسة، ورشح سباسكي مدينة ريكيافيك وأمستردام ودورتموند وباريس، في حين رشح فيشر بلغراد وسراييفو وبوينس آيرس ومونتريال. لم يكن ضمن قائمتي اللاعبين أي مدينة مشتركة، لذلك أعطى الاتحاد الدولي موعدا جديدا ينتهي يوم 10 فبراير/شباط من ذلك العام للاتفاق على مدينة تحتضن المنافسة، قبل أن يتخذ رئيسه قرارا بنفسه، لكن أصرّ كلا المتنافسين على اختيار مدينة من القائمة التي تقدم بها.

كان بوريس سباسكي مصرّا على مدينة ريكيافيك الآيسلندية، لكن فيشر وصفها بأنها مدينة صغيرة وبدائية، ورفض المشاركة في حال اختيارها، لكنه في الأخير خضع للأمر الواقع بعدما أقرّ الاتحاد الدولي ريكيافيك مدينة احتضان المنافسة العالمية. وحسب فرانك برادي، كاتب سيرة فيشر، فإن فريستين ثوربيرغسون، وهو آيسلندي وأحد معارف فيشر، هو الذي أقنعه باللعب في آيسلندا نظرا لأهمية ذلك سياسيًّا. كان ثوربيرغسون مناهضا للشيوعية، وقد زار فيشر في الولايات المتحدة وكتب لاحقا مقالا مفاده أن فوز فيشر سيكون ضربة للقبضة الدعائية للشيوعيين.

وافق بوبي فيشر على اللعب في آيسلندا، لكن مفاجآته لم تنته. ففي الأول من يوليو/تموز 1972، أقيم حفل افتتاح بطولة العالم للشطرنج بين بطل العالم السوفياتي بوريس سباسكي وبوبي فيشر، وخُصص مقعدان في الصف الأول من أجل المتنافسين، وفي الوقت الذي ظهر فيه سباسكي أمام الجمهور استعدادا لخطابه قبل أقل من 24 ساعة من انطلاق المنافسة، كان بوبي فيشر في لونغ آيلند شرق نيويورك. يقول كتاب "بوبي فيشر.. نبذة عن موهبة عبقرية": "ظل مقعد في الصف الأمامي -والذي كان مقررا أن يكون لفيشر- شاغرا بشكل واضح وموحش. وبينما أُلقيت الخُطب باللغات الإنجليزية والروسية والآيسلندية، كان الجمهور في حالة من التوتر، منتظرين بفارغ الصبر أن يدخل فيشر بفخر في أي لحظة، لكن ذلك لم يحدث".

تسبب غياب فيشر عن حفل الافتتاح في غضب روسي شديد، حيث قال سباسكي "برفضه حضور حفل افتتاح المباراة، انتهك فيشر قواعدها. وبالتالي، أهانني شخصيا وأهان البلد الذي أمثله وأهان الرأي العام السوفياتي".

بوريس سباسكي يجلس وحيدا منتظرا قدوم بوبي فيشر في نهائيات بطولة العالم (مواقع التواصلي)

لم يكن لأحد أن يتوقع أنه بعد حل مشكل المدينة المستضيفة لبطولة العالم للشطرنج، ستطفح مشكلة أخرى قبل ساعات من الموعد المفترض للمباراة الأولى بين سباسكي وفيشر، فغياب الأخير لم يكن بسبب مرضه كما ادعى صديقه الذي أرسل برقية يُعلن فيها تعذر قدوم بوبي، بل كان السبب -كما أسر بذلك فيشر نفسه لأحد الصحفيين لاحقا- هو عدم استجابة المنظمين لمطالبه بترفيع قيمة جائزته في حال فوزه بالبطولة. ولحسن الحظ، تدخل ثري بريطاني وتبرع بمبلغ 125 ألف دولار، أضيف إلى الجائزة لتصل قيمتها إلى 250 ألفا. وقبل ذلك، هدد الاتحاد الروسي للشطرنج باعتبار بوبي فيشر خاسرا للمباراة إذا لم يظهر قبل منتصف نهار يوم 4 يوليو/تموز، لكنّ عرض البريطاني سبق ذلك القرار.

إعلان

بعد 10 أيام من الموعد المحدد للمباراة، جلس فيشر قبالة سباسكي وتصافح المتنافسان، وبدأ العدّ التنازلي لأكبر المعارك التي أدارت الأعناق في تلك الفترة. وبالفعل وفّى بوبي فيشر بوعده بأنه سيفتكّ لقب بطل العالم للشطرنج، وفاز في 7 مباريات من بين 19 مباراة خاضها ضدّ سباسكي، ولم يخسر سوى مرة واحدة، بينما تعادل في 11 مباراة أخرى، وأصبح بالتالي بطل العالم وأزاح السوفيات عن عرشهم.

البيت الأبيض على خط المواجهة

رغم أن بوبي فيشر سعى بثقة العباقرة إلى الفوز بلقب بطل العالم في الشطرنج، فإنه بدا كأنه اقتيد غصبا لمواجهة سباسكي، فقد رتّب حزمة من الشروط للمشاركة، وكادت المباراة أن تلغى قبل ساعات من بدء البطولة، لولا رغبة جامحة من البيت الأبيض في دفع فيشر للمشاركة، وهي رغبة فاقت على الأرجح بوبي نفسه في خوض المباراة.

في تلك الفترة، وتحديدا في 22 مايو/أيار 1972، زار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الاتحاد السوفياتي، وكان الهدف تقليل حدة التوتر بين القطبين، لكنه في المقابل لم يكن مستعدا لإطفاء لهب المنافسة مع موسكو نفسها في ميدان الشطرنج. يقول الكاتب لويس مينان في مقال نشرته صحيفة "نيويوركر" تحت عنوان "نظرية اللعبة": "مع استمرار المباراة، انخرط نيكسون في لعبة شطرنج يائسة لإنقاذ منصبه الرئاسي". كان ريتشارد نيكسون مقبلا على انتخابات رئاسية جديدة أواخر ذلك العام، ويمكن أن يحصد فوزا خاصّا به إذا حصدت الولايات المتحدة نصرا على الاتحاد السوفياتي في بطولة العالم للشطرنج. وعند بداية المنافسة، بلّغ نيكسون رسالة إلى بوبي فيشر حملها المصور هاري بنسون، قال فيها إنه من أشد المعجبين به وإنه يبلي حسنا في البطولة، ولم يتردد في سرد إعجابه به لأنه مقاتل، حسب وصفه.

في المقابل، سعى مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض هنري كيسنجر، إلى دفع بوبي فيشر للعب ضد بوريس سباسكي، وينقل الكاتبان ديفيد إدموندز وجون إيديناو في كتابهما "بوبي فيشر يخوض الحرب.. أشهر مباراة شطرنج على مر العصور"، أن كيسنجر هاتف فيشر ليحثه على الذهاب إلى ريكيافيك، قائلا "أنت رجلنا في مواجهة الشيوعيين". لقد كانت تلك المباراة سياسية أكثر منها مجرد بطولة للعالم، والمنتصر فيها ليس شخصا بل أمة، لذلك تلقى فيشر آلاف الرسائل والبرقيات تحثه على خوض المباراة، حسب الكاتب فرانك برادي، وجاء اتصال هنري كيسنجر ليكون ضمن تلك الرسائل، حيث شجع بوبي على اللعب بدافع وطني محض.

في أوج المواجهة، كشفت مجلة "التايم" أن كيسنجر اعترف بأنه قاد مفاوضات من أجل إقناع فيشر بالمشاركة في البطولة. وتقول الصحيفة في مقال لها بعنوان "معركة الأدمغة" يوم 31 يوليو/تموز 1972: "كشف المستشار الرئاسي هنري كيسنجر الأسبوع الماضي أن المفاوضات كانت تسير على نحو سيئ للغاية، لدرجة أنه شعر بأنه مضطر للتدخل لصالح البلاد. لم يكن كيسنجر يقصد مناوراته السرية الأخيرة من أجل السلام في فيتنام، بل كان يتحدث عن السلام في ريكيافيك بآيسلندا، والمواجهة بين بوبي فيشر من الولايات المتحدة وبوريس سباسكي من الاتحاد السوفياتي على بطولة العالم للشطرنج. بعد أسابيع من الصراعات الداخلية، تطورت المواجهة العاصفة بين الشرق والغرب، بين بوريس البطل الظريف والمهذب، وبين بوبي المتحدي سريع الغضب والمتطلب، إلى حدث دولي. ولتجنب الجمود، اتصل كيسنجر، وهو لاعب شطرنج، بفيشر وتوسل إليه باللعب. وافق فيشر، ولكن بترددٍ عابس وقال: إذا طلبتُ شيئا ولم أحصل عليه، فلن ألعب".

في الواقع، لم يكن البيت الأبيض وحده الجالس على صفيح من النار، فقد عمل الاتحاد السوفياتي أيضا على أن يحتفظ بتاجه العالمي للشطرنج، ونزل بكامله ثقله حتى أصبحت المنافسة بين سباسكي وفيشر بمثابة مخبر للجوسسة، وهذا ما ذكره الباحث دانيال جونسون في كتاب "الملك الأبيض والملكة الحمراء.. كيف تم خوض الحرب الباردة على رقعة الشطرنج"، إذ يطرح جونسون فرضية وجود عدد كبير من عملاء الاستخبارات السوفياتيو (كي جي بي) في المباراة، ويقول إنه من المرجح أن أحدهم تمكن من زرع جهاز تنصت في الكرسي الذي استخدمه فيشر، في حين يقول الكاتب فرانك رادي إن السوفيات وضعوا مختبرا سريا تكوّن من علماء نفس وأساتذة شطرنج عملوا جنبا إلى جنب من أجل دراسة فيشر.

ومع الغوص أكثر في تفاصيل المنافسة، يتبيّن أن الأمر أشبه بمسلسل جوسسة خيالي، خاصة حين تذكر صحيفة "النيويوركر" أن السوفيات كانوا ينقلون العصير الذي يُقدم لبوريس سباسكي من آيسلندا إلى موسكو من أجل تحليله، وحين خسر سباسكي البطولة اتهمه السوفيات بعدم نضجه أيديولوجيًّا واشتبه في "خيانته" وكان تحت الرقابة.

بوبي ضد الجميع

بعد حصوله على بطولة العالم للشطرنج، كان بوبي فيشر وفيا لعاداته الغريبة في مفاجأة كل من يتتبع أخباره، لكن لم يكن لأحد أن يتوقع أن البطل العبقري سينغمس من جديد في عزلة طويلة. تقول دراسة بعنوان "عبقرية بوبي فيشر وجنونه.. حياته من منظور سيرة ذاتية نفسية" للباحثين جوزيف بونتيروتو وجيسون رينولدز: "بداية من منتصف سبعينيات القرن الماضي وحتى أواخر الثمانينيات، عاش فيشر في عزلة نسبية، كان قليل الحديث مع الأشخاص ولا يثق بهم.

خلال هذه الفترة، أنهى علاقاته مع العديد من أصدقائه السابقين وزملائه في الشطرنج الذين اعتقد أنهم خانوه بالكتابة عنه أو التحدث إلى الصحفيين عن حياته. خلال سنوات عزلته، عانى فيشر من ضائقة مالية، وكان غالبا ما يسكن في فنادق صغيرة أو مساكن مستأجرة تشبه السراديب، وفي مايو/أيار 1981، ألقي عليه القبض من قبل شرطة باسادينا في كاليفورنيا بتهمة التشرد، وقضى يومين في السجن".

دامت عزلة بوبي فيشر 20 عاما كاملة بعد فوزه ببطولة العالم للشطرنج، قبل أن ينتفض من جديد بعد نهاية الحرب الباردة، ليشعل حربا جديدة، لكن هذه المرة ضدّ بلده. ففي العام 1992، كسر فيشر عزلته حين قرر لعب مباراة غير مرخص لها من قبل الاتحاد الدولي للشطرنج ضد بوريس سباسكي في يوغسلافيا التي كانت قد مزقتها الحرب، وسلطت عليها الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية.

في تلك الفترة، تلقى فيشر تحذيرا من مسؤولين كبار في البيت الأبيض، حيث طُلب منه عدم خوض المباراة في يوغسلافيا لأنه يخرق بذلك قرارات وزارة الخزانة الأميركية، وبالتالي فهو معرّض للملاحقة القانونية، لكن فيشر تجاهل تحذيرات بلده وخاض المباراة يوم 23 سبتمبر/أيلول 1992، وأصدرت واشنطن فورا أمرا باعتقاله. منذ ذلك التاريخ، لم يعد بوبي فيشر إلى الولايات المتحدة مجددا، بل عاش في المجر وألمانيا والفلبين واليابان.

بوبي فيشر ضد سباسكي في يوغسلافيا عام 1992 في المباراة التي عرضته للملاحقة القانونية من الولايات المتحدة (الفرنسية)

في 13 يوليو/تموز 2004، كان بوبي فيشر في مطار طوكيو في رحلة نحو الفلبين، حين ألقي عليه القبض بتهمة محاولة السفر بجواز سفر أميركي غير صالح للاستعمال، وأمضى عدة أشهر في سجن ياباني. وفي المقابل، بدأت الولايات المتحدة إجراءاتِ ترحيله لمحاكمته، لكن أصدقاءه وعائلته سبقوا قرار الترحيل بتأمين حصوله على جنسية أخرى، حيث عرضت عليه آيسلندا الجنسية، وفي 24 مارس/آذار 2005، غادر بوبي فيشر السجن على متن طائرة متجهة إلى ريكيافيك، المدينة الآيسلندية التي فاز فيها ببطولة العالم، حيث قضى بقية حياته.

في عملية شبه انتحارية، قاطع بوبي فيشر الجميع وحتى صحته الجسدية، وتحدى الموت الذي واجهه برضاه يوم 17 يناير/كانون الثاني 2008. يقول جوزيف بونتيروتو وجيسون رينولدز إن فيشر توفي بسبب فشل كلوي، بعد رفضه كل أشكال التدخل الطبي لعلاج مرضه المتفاقم.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار