عند الحديث عن أدب اليوتوبيا، نجد أنها تنقسم إلى نوعين رئيسيين: اليوتوبيا المثالية، التي تصور الإنسان في أكمل صورة وتثق بخيره وطبيعته المعطاءة، وتقيم فردوسها الأرضي على أساس من المثل الأخلاقية والروحانية. واليوتوبيا العلمية، التي تقوم على أساس علمي وتقيم سعادتها المنشودة على ركائز تكنولوجية تبشر بمزيد من الإنجازات العلمية المسخرة لتوفير رفاهية الإنسان وهنائه المعاصر.
وبين اليوتوبيا المثالية، المتخوفة على مصير الإنسان الحيوي، واليوتوبيا العلمية، المتبنية للمذهب الميكانيكي في الإنسان والآلة على حد سواء، انقسم العلماء والمفكرون والكتاب. وظهر في المجتمع الصناعي المتقدم تيار بارز لليوتوبيا المثالية، وقف في وجه الفلسفة المادية الميكانيكية التي تحلم بتوفير السعادة لبني الإنسان.
واليوتوبيا المثالية تيار فلسفي قديم ممتد عبر تاريخ البشرية، من أرسطو والفارابي إلى شوبنهاور وهنري برغسون ولويد مورغان. غير أن الإمعان في التكنولوجيا، الذي أفرزته الثورة الصناعية ، والمبالغة في تطويرها والتدليل على قدرتها على توفير السعادة الدنيوية، انطوى على محاذير وأخطار وتخوفات. وقد دفعت هذه التوجهات دعاة اليوتوبيا المثالية إلى الوقوف في وجه المغالاة التكنولوجية، التي رفعت الإنسان إلى قلب "غابة إلكترونية موحشة"، حولت الآلة الصناعية إلى سلطان يسيطر على هذه الغابة ويتحكم بمصيرها.
ولعل الكاتب المسرحي التشيكي كارل تشابيك يقف في طليعة الكتاب الرواد الذين تصدوا لظاهرة اليوتوبيا العلمية، المبشرة بسعادة الإنسان والمهددة لحاضره ومستقبله في آن واحد. وتعد مسرحيته "الإنسان الآلي" نموذجا حيا لهذا الاتجاه الفكري المناهض لحركة اليوتوبيا العلمية المتغطرسة.
في هذه المسرحية، التي تدور حول "إنسان روسوم الآلي"، يتصدى "تشابيك" للحلم التكنولوجي القائم على تطوير ميكانيكية الآلة الصناعية، ويكشف بأسلوب درامي ما يمكن أن ينطوي عليه هذا الحلم من كوابيس وأخطار.
ولكي يدير الكاتب المسرحي دفة الصراع، يضعنا أمام فريقين متضادين في الموقف والاتجاه:
"خلال 10 سنوات، سيقوم إنسان روسوم الآلي بإنتاج الكثير من القمح والقماش، وسيحصل كل فرد على ما يريد، وبهذا لن يكون هناك فقر… والأشياء ستصبح من دون ثمن".
"لقد كان في العمل لذة جميلة يا دومين… كان العمل شيئا عظيما في الإنسانية… آه! لقد كان هناك نوع من الفضيلة في الكدح والتعب".
وببراعة في نسيج الحوار وعرض الحدث المسرحي، يخص الكاتب كارل تشابيك الفصل الأول من المسرحية بالكشف عن محاولات العلماء لتحقيق الفردوس الآلي، ويتماشى بحيادية مع حلمهم اليوتوبي الجميل الذي يراود عقولهم. لدرجة أننا نرى آنسة مندفعة تدعى "هيلينا جلوري"، يدفعها إعجابها بالإنسان الآلي إلى إنشاء جمعية خيرية للرفق به. وتزور مصنع روسوم من أجل هذا الغرض، لكنها تصطدم بواقع تكوين هؤلاء "الناس الآليين" القابلين للتفكيك والتركيب، والمجردين من العاطفة والإحساس. وسرعان ما تفزع الآنسة هيلينا مما تكتشف، ولا تخفي اشمئزازها من هذه الظاهرة التي كانت غائبة عن بالها.
ينقل الكاتب المصنع الآلي برمته إلى خشبة المسرح، وبعد أن يعرض حلم العلماء في الطبيعة، يبدأ بالتدريج في الانفصال عن حلمهم، ليبرز الوجه القبيح والشاذ لمشروعهم اليوتوبي. ولا يخلو الحوار من التهكم على طريقة تفكير هؤلاء العلماء، وعلى أسلوب علاقاتهم الإنسانية؛ فمثلا، يعرض السيد "دومين" الزواج على الآنسة "هيلينا جلوري" بطريقة آلية مثيرة للضحك، فيقول وهو ينظر إلى ساعته:
"لـ3 دقائق أخرى… إذا لم تتزوجيني، فعليك أن تتزوجي واحدا من الخمسة الآخرين!".
ورغم موافقة هيلينا على الزواج من دومين، فإن الفصول الثلاثة التالية تكشف عن موقف المؤلف الصارم والمنحاز إلى أدب اليوتوبيا المضادة. ففي الفصل الثاني، تقرأ أنباء من الصحف العالمية تقول:
"حرب آلية في البلقان… الجنود الآليون لا يرحمون أحدا… الآليون يذبحون أكثر من 700 ألف مواطن!".
وحقيقة ما يحدث، أن فريق العلماء المتحمسين، وعلى رأسه الدكتور جول، رئيس قسم الفسيولوجيا بمصانع روسوم، يتمكن من تخليق "إنسان روسوم العالي" الذي يصبح في وسعه صناعة الناس الآليين والإشراف عليهم. وسرعان ما يتمرد هذا الإنسان الجديد على العلماء، وينفصل عن المصنع، ويأخذ في صناعة الناس الآليين وقيادتهم باستقلالية وعدوانية غريبة تجاه الإنسان البشري أينما كان.
وهنا يبلغ الصراع المسرحي ذروته، إذ يظهر فريق ثالث من الناس الآليين، يمثل الخطر الحقيقي. هذا الفريق المتغطرس يضع الفريقين البشريين المتصارعين على جبهة دفاعية واحدة. ويتجسد في هذا الفريق الثالث الخطر الآلي الحقيقي على إنسان هذا العصر.
ويبقى الصراع الدرامي ماثلا في الذروة، حين ينزل العقاب من السماء: فلا تسجل حالة ولادة بشرية واحدة، ويتوقف التناسل البشري. فهذه الخادمة "إما" تصرخ في هلع شديد: "إن الناس ما عادوا يولدون… هذا هو العقاب!". أما ريست، رائد الفريق المتحفظ منذ البداية، فنراه يصلي ضد التقدم العلمي، ويطلب من الله أن يهدي دومين وكل من ضلوا السبيل.
إلا أن الواقعة تكون قد وقعت فعلا، بعد أن تمرد "الناس الآليون على سادتهم الحالمين من البشر، من دون إحساس أو وازع من ضمير. وتظل المشكلة الحضارية تتفاقم، إلى أن يجد علماء المصنع أنفسهم محاصرين من القوى الآلية التي صنعوها وطوروها، ومهددين بالحرق والتدمير.
أما الفصلان الثالث والرابع من هذه المسرحية التعبيرية الرائعة، فينطويان على فجيعة حضارية مأساوية تنبأ بها المؤلف لإنسان هذا العصر، المتغطرس في اعتداده بقدراته العلمية. إذ تنتهي المسرحية بتدمير مصنع روسوم الآلي على رؤوس علمائه ومهندسيه، بقيادة زعيم الجنود الآليين "راديوس"، وذلك بعد أن تكون الجيوش الآلية قد قضت على بني البشر جميعا.
يهمنا في نهاية هذه الدراسة الطائرة لأطرف وأعمق عمل درامي وضعه المؤلف التشيكي "كارل تشابيك"، أن نشير إلى سمتين بارزتين تميزت بهما فكرة المسرحية.
إن هذه المسرحية العالمية تظل تشكل النموذج الحي لمسرح اليوتوبيا المثالية، الذي تصدى -وما يزال- لمخاطر صراع الإنسان المعاصر مع الآلة، في بحثه عن الفردوس الأرضي.