"لماذا لا يجيبني جوجل بنعم أو لا؟"
كان ذلك سؤالاً عابراً من ليان، وهي تمسك بهاتف والدها في أحد متاجر عمّان. لكن ما بدا استفساراً بريئاً، كشف عن تحوّل عميق في الطريقة التي يفكّر بها جيل جديد بأبسط مفاهيم المعرفة: السؤال، والإجابة.
ففي وقت لم يعد الكتاب هو الخيار الوحيد للبحث عن المعلومة، وأصبحت المعرفة متاحة في خوارزمية، يعود العالم في 15 تموز/يوليو لإحياء اليوم العالمي لمهارات الشباب، الذي يُصادف هذا العام مرور عقدٍ كامل على إقراره من قبل الأمم المتحدة، ويجيء تحت عنوان: "تمكين الشباب بالذكاء الاصطناعي والمهارات الرقمية".
وفي رسالة بمناسبة هذا اليوم، قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش:
"يجب أن يكون التعليم الرقمي متمحوراً حول الإنسان، فلا ينمّي القدرات التقنية فحسب، بل ينمّي أيضاً الإبداع والتفكير النقدي والتعاطف. ويجب ألا يُنظر إلى الشباب على أنهم متعلمون فحسب، بل على أنهم مشاركون في صنع مستقبل رقمي أكثر عدلاً."
في العالم العربي، حيث يشكّل الشباب دون الثلاثين قرابة 60 في المئة من السكان، يصبح هذا التحدي أكثر إلحاحاً. فبين ضغطة زر وجواب فوري، تنشأ فجوة جديدة:
هل نجهّز أبناءنا للواقع؟ أم ندرّبهم فقط على اجتياز الامتحانات؟
في هذا المقال، نحاول الاقتراب من إجابة. نستعين بآراء خبراء في التعليم التقليدي والرقمي، ونستمع إلى وجهات نظر أهالي، والأهم: نمنح الكلمة للشباب أنفسهم.
كانت دانة بدوي، الطالبة الأردنية الأمريكية، تواجه مادة لطالما أرّقت طلاب الثانوية: الجبر. لكنها لم تكن وحدها في هذه المواجهة. إلى جانبها، لم يقف معلّم خاص أو مجموعة دراسية، بل تطبيق على شاشة.
تقول دانة، صاحبة الـ 16 عاماً، لبي بي سي:
"بصراحة، أفضّل أن أوجّه أسئلتي إلى الذكاء الاصطناعي بدلاً من المعلم... لا أشعر بالخجل منه، وأستطيع أن أطرح ما أشاء من الأسئلة عليه دون أن يملّ منّي."
تتحدث بثقة واضحة، وكأنها اكتشفت مفتاحاً لحلّ عقدة دراسية مزمنة. وبالنسبة لها، لم يكن تشات جي بي تي مجرّد أداة، بل معلّماً خاصاً، وصبوراً، يجيب دون ملل أو ملاحظات حادة.
النتيجة؟ علامة 97 من 100 في مادة الجبر، بفضل شرحه لها خطوة بخطوة، مما ساعدها على فهم ما استعصى عليها في الصف.
لكن ما بدا حلاً سحرياً لدانة، يُخفي في طيّاته تساؤلات أعمق. فعندما سُئلت إن كانت تتحقّق من صحة المعلومات التي يقدّمها الذكاء الاصطناعي، أجابت دون تردّد:
"بكل صراحة لا، لا أتحقّق من المصادر. آخذ الإجابة كما هي."
ورغم أن هذه الإجابة تبدو بريئة، إلا أنها دقّت ناقوس الخطر لدى مختصين وأهالٍ، يرون أن الذكاء الاصطناعي قد يكون أداة قوية، لكنه ليس بديلاً عن التفكير، ولا يُفترض به أن يُملي علينا ما يقول دون مراجعة.
وقفت ليان، طفلة تبلغ من العمر 11 عاماً، أمام رفّ مزدحم بالمنتجات. أرادت أن تعرف ما إذا كان أحد هذه المنتجات مشمولاً في قائمة المقاطعة، فأمسكت بهاتف والدها وكتبت اسم المنتج في محرّك البحث.
لكن النتيجة لم تُرضِ فضولها. نظرت إلى الشاشة، ثم إلى والدها، وقالت بانزعاج واضح:
"لماذا لا يجيبني جوجل بنعم أو لا؟ لماذا يعطيني كل هذه الروابط؟"
ليان هي ابنة عمر دبّاس، الذي وقف يتأمّل ردّ فعلها، وهو يدرك أن ما سمعه لم يكن مجرّد تململ عابر، بل لحظة كاشفة. فهو رائد في الأعمال التقنية ومعلّم رقمي، وأبٌ لطفلين.
يقول دبّاس لبي بي سي: "في جيلي، كان الوصول إلى معلومة يحتاج إلى وقت، وقراءة، وإلى مقارنة مصادر، وبناء سياق. أمّا اليوم، فهناك توقّع بأن تكون الإجابة فورية وقاطعة، ولا لبس فيها".
ويضيف أن هذا التغيير في توقعات الجيل الجديد يعكس أثر الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً ما يعرف بنماذج اللغة الكبيرة (التقنية التي تعمل بها روبوتات الدردشة)، التي أصبحت تشكّل الطريقة التي نتعامل بها مع المعرفة.
"الأدوات الذكية تعطيك جواباً سريعاً، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنك تعلّمت شيئاً. إلا إذا دخلت إليها بعقل ناقد وسؤال واضح."
ويحذّر دبّاس من ما يصفه بـ"الكسل المعرفي"، حيث تقلّ الرغبة في الفهم، لأن كل شيء أصبح في المتناول. لكنّ ما هو في المتناول، ليس بالضرورة صحيح ويُبنى عليه الفهم.
يقول: "من الواضح أن الأطفال اليوم يمتلكون قدرة تركيز قصيرة جداً، سواء في التعلّم أو مشاهدة الفيديوهات أو حتى الحصول على إجابة من جوجل."
لكن ما يثير قلقه ليس استخدام الذكاء الاصطناعي بحد ذاته، بل الطريقة التي يُستخدم بها، فـ "هذه النماذج مصممة لتعطيك جواباً مهما كلّف الأمر. لا تقول 'لا أعلم'، حتى لو كانت فعلاً لا تعرف."
ويضيف أن سرعة الرد، التي تبهر المستخدم، قد تأتي على حساب الدقّة أو حتى الحياد. فالخوارزميات لا تبحث عن الحقيقة، بل عن أكثر إجابة ترضيك، أو ترضي نمط بياناتك السابقة، أو أحياناً لترضي "الجهة التي صنّعتها" كما يقول دبّاس.
في رأيه، التحدّي الأكبر الذي سيواجهه الجيل الجديد ليس في إيجاد الجواب، بل في مقاومة الرغبة في تصديقه واتّباع آرائه بلا تفكير.
وتبدو تجربة دانة مثالاً حياً على هذا التحدي: الطمأنينة التي منحتها لها التكنولوجيا، قابلها تراجع في حسّ التحقق والتفكير النقدي، وهي المهارات التي يُفترض أن يزودها التعليم للشباب واليافعين.
"المشكلة لا تبدأ عند الذكاء الاصطناعي، بل قبله بكثير"
هذا ما قاله معتز عازر لبي بي سي، وهو الخبير في تطوير مهارات اليافعين، ومؤسس "ذكاء الأردن" التي يدير من خلالها برامج تعليمية تربط التعليم بالواقع العملي، وتقوي المهارات العقلية والحساب الذهني والتفكير النقدي لدى الأطفال واليافعين.
يرى عازر أن الأنظمة التعليمية في العالم العربي (ودول أخرى) تُقصّر في تهيئة الطلاب للحياة، لأنها تركّز على ما هو أكاديمي، وتُغفل ما هو إنساني وعقلي.
يقول:
"الهدف من التعليم ليس فقط تدريس الرياضيات أو اللغة، بل تجهيز الطالب بمهارات تساعده في مستقبله. برأيي، النظام الحالي يكاد لا يسهم في ذلك."
بعد أكثر من 15 عاماً في تدريب وتطوير مهارات الطلاب في العالم العربي، يلاحظ عازر أن كثيراً منهم يتعلّمون المهارات الحقيقية خارج الصف التقليدي، عبر التجربة أو بمساعدة أدوات رقمية.
ويحذّر عازر مما يسمّيه "الاعتماد الكارثي على العلامات"، حيث تصبح الدرجة هي الغاية، لا الفهم.
"نحن نُبعد الطلاب عن الشغف، ونزرع فيهم القلق. نضغط عليهم في مواد قد لا تعني لهم شيئاً، وننسى أن التعلّم يجب أن يكون ممتعاً، وأن يتصل بما يحبّونه فعلاً."
وهذا ما عبّرت عنه دانة، حين قالت إنّ بعض المعلمين "يغضبون لأننا نستخدم الذكاء الاصطناعي، لكن ربّما لأنهم لا يشرحون الدرس بشكل كافٍ... فنضطر نرجع لأدوات ثانية."
لكن معتز لا يُلقي اللوم على المعلّمين وحدهم، بل يرى أن صعود أدوات الذكاء الاصطناعي يُحتّم علينا أن نعيد التفكير في ماهية التعلّم.
"أصبح معروفاً الآن أن الذكاء الاصطناعي لا يقدّم دائماً إجابات دقيقة،" يقول عازر، مؤكداً أن المهارة الأهم ليست في الوصول إلى الجواب، بل في فحصه، وسؤال من أين جاء، ولماذا يبدو صحيحاً.
من وجهة نظره، المهارات التي ستبقى ضرورية مهما تطوّرت الآلات، هي تلك التي تميّز الإنسان: حلّ المشكلات، التفكير الإبداعي والنقدي، ومهارات التواصل، والذكاء العاطفي، والقدرة على التحمّل.
يقول عازر: "أنا أحب التعلّم، ولا أحبّ الدراسة. هناك فرق، وهذا الفرق هو ما يجب أن يعيه المعلم والطالب وصانع القرار".
لا يجد محمد أديب، طالب الإدارة العامة، حرجاً في الدفاع عن استخدام الذكاء الاصطناعي في دراسته وحياته اليومية. بل يذهب أبعد من ذلك، حين يقول لبي بي سي: "أنا أستغرب ممن لا يزال يجادل بجدوى وفائدة تقنيات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي… الأمر يشبه الإصرار على ركوب الأحصنة والجمال، في الوقت الذي وصل الإنسان فيه لاختراع السيارات ذاتية القيادة."
بالنسبة لمحمد، صاحب ال 21 عاماً، لم يخذله تشات جي بي تي يوماً؛ يجيب ببساطة ووضوح، بل ويفوق في شرح بعض المفاهيم ما يتلقّاه من أساتذته. "ذلك اليوم، خطر لي أن أسأل: هل كان خالد بن الوليد عسكرياً مُحنّكاً؟ ولو كان لدى كارل ماركس ذكاء اصطناعي، هل كان سيصل إلى آرائه؟ سألت روبوت الدردشة، فجاءتني الأجوبة واضحة، والأهم أنها بدت صادقة."
لكن الأمر لا يتوقف عند الدراسة.
يخبرنا محمد، بنبرة يبدوأنها لا تخلو من انتقاد ساخر، أن أحد أساتذته يستخدم الذكاء الاصطناعي لكتابة أسئلة الامتحان، ثم يغضب إذا استعان الطالب بالأداة نفسها في الإجابة. "بالله عليك، كيف نُلام نحن؟"
ويرى محمد أن "هندسة الأوامر" (Prompt Engineering)، أي معرفة كيف تُخاطب الذكاء الاصطناعي، مهارة لا تقل أهمية عن مهارات البحث أو الكتابة. بل يصفها بأنها "المهارة الأهم على الإطلاق في عصرنا الحالي."
ويضيف بابتسامة: "في البدء كانت الكتابة بالقلم، ثم على الكمبيوتر، ثم أصبح البحث في الكتب، وبعدها على جوجل. الآن، المسألة أن تعرف كيف تتكلم مع الآلة. لماذا يصعب على الناس استيعاب ذلك؟ لا أعلم!"
حتى خارج الجامعة، يظل للذكاء الاصطناعي أثر في حياة محمد. "أحياناً أشعر برغبة في الغناء. هذه الهواية لم تكن لتتحوّل إلى موهبة لولا التكنولوجيا." وبالنسبة له، ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي من دعم وتجريب وتغذية راجعة، لم يجده يوماً في قاعات الدرس، ولا بين من يصفهم بـ"كارهي التكنولوجيا".
ترى الدكتورة شهرة بلوفة، المتخصصة في التعليم وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، أن التحدي لم يعد في تعلّم التقنية، بل في تعلّم كيف نفكّر من خلالها. تقول لبي بي سي: "إن امتلاك الشباب للمعرفة الرقمية لا يعني بالضرورة امتلاكهم للوعي النقدي".
الشباب ما زالوا بحاجة إلى مهارات أعمق تصفها بلوفة بـ"مهارات الواقع الاصطناعي"، وهي مجموعة من المهارات المعرفية والعاطفية والتقنية، تتيح لهم استخدام الذكاء الاصطناعي بوعي وفعالية. وتحذّر من أن الإفراط في استخدام الذكاء الاصطناعي قد يُضعف مهارات أساسية مثل الكتابة والتفكير والتعبير الذاتي.
وتقترح بلوفة إدخال "مهارات التعامل مع الذكاء الاصطناعي" في المناهج، معتبرة أن التوجيه، لا المنع، هو السبيل الأمثل. وترى أن استخدام هذه الأدوات بشكل مدروس يمكن أن يحفّز التفكير لا أن يستبدله.
في تجربتها التعليمية، ترى بلوفة أن أدوات الذكاء الاصطناعي مثل تشات جي بي تي يمكنها أن تسهم في تحفيز التفكير النقدي لدى الطلاب، إذا استُخدمت بتوجيه تربوي واعٍ. وتشير إلى ما تسميه "الأثر العكسي الإيجابي"، حيث يدفع التفاعل مع النموذج الطالب إلى طرح أسئلة أعمق وتوسيع مداركه.
لكنها في المقابل تحذر من لجوء بعض الطلاب إلى نسخ الأجوبة مباشرة أو استخدام أدوات "تحسين النصوص" للتحايل على أنظمة كشف الانتحال، ما يدعو – برأيها – إلى إعادة النظر في أشكال التقييم، والتركيز على مهارات التعبير الشفهي والتفكير بدلًا من الاقتصار على الكتابة وحدها.
في اليوم العالمي لمهارات الشباب، تتراوح أصوات المعلمين والطلّاب والخبراء بين مؤيّد ومعارض وخائف، ولكن هناك عدد كبير يتفقون على أن الذكاء الاصطناعي ليس عدوّاً بل أداة تتطلب وعياً في استخدامها.
وفي هذا السياق، تشير البيانات إلى أن 78 في المئة من الشباب العرب بين 15 و24 عاماً يستخدمون الإنترنت، وهي نسبة تتجاوز المعدل العام بـ12 نقطة مئوية. كما تُقدّر الأمم المتحدة أن التحوّل الرقمي قد يسهم في تحقيق أكثر من 70 في المئة من أهداف التنمية المستدامة، ويخفض كلفتها بنحو 55 تريليون دولار.
يقول معتز عازر:
"أنا ضد فكرة محاربة الذكاء الاصطناعي وأدواته. هذه معركة خاسرة."
ويضيف أن التحدي الحقيقي ليس في منع استخدام هذه الأدوات، بل في تعليم الشباب كيف يستخدمونها بأمان، ويطوّعونها لخدمة حياتهم ومجتمعاتهم. ويذكر أن الذكاء الاصطناعي "على الأرجح سيطوّر مهارات كنّا نعتقد أنها حكرٌ على البشر."
أما الدكتورة شهرة بلوفة، فتختم برؤية دقيقة وبسيطة في آنٍ واحد:
"في عصر الذكاء الاصطناعي، يبقى الفضول هو أقوى أسلحتنا. الآلات قد تملك كل الأجوبة، لكن وحدنا نحن من يستطيع أن يسأل: لماذا؟ ولماذا الآن؟"