● غارا جبيلات وخط السكة المنجمية: اختبار الجزائر للانتقال من اقتصاد الريع إلى السيادة الصناعية
الجزائر الآن – لم يعد غارا جبيلات مجرّد احتياطي منجمي مؤجَّل، بل تحوّل إلى اختبار عملي لقدرة الجزائر على ترجمة خطاب السيادة الاقتصادية إلى بنية إنتاجية ملموسة.
وفي قلب هذا التحول، يبرز مشروع خط السكة الحديدية المنجمي الغربي كأحد أكبر الورشات الهيكلية التي تنفذها البلاد خلال 2025.
بوصفه حلقة الربط الحاسمة بين ثروات الجنوب الغربي، والقاعدة الصناعية الوطنية، والموانئ الاستراتيجية في الشمال. ويمتد الخط على مسافة تقارب 950 كلم، رابطًا بين بشار وبني عباس وتندوف ومنجم غارا جبيلات، في مسار لوجستي غير مسبوق يعكس توجّهًا واضحًا نحو تثمين الموارد الوطنية، وتقليص كلفة النقل، وإعادة رسم خريطة الاقتصاد المنتج من الجنوب إلى الشمال.
● مشروع سيادي بأبعاد تتجاوز النقل
يرى مختصون في الشأن الاقتصادي أن أهمية المشروع لا تكمن في بعده التقني فحسب، بل في رمزيته الاقتصادية والسيادية.
فبحسب خبراء نقلت عنهم وكالة الأنباء الجزائرية، فإن دخول الخط حيز الخدمة يفتح آفاقًا واسعة أمام تطوير صناعة الحديد والصلب، عبر تسهيل الوصول إلى أحد أكبر مناجم الحديد عالميًا، وتحويله من احتياطي استراتيجي معطّل إلى مورد فعلي داخل الدورة الإنتاجية.
ولا يقتصر الأثر على منجم غارا جبيلات، إذ يتيح الخط استغلال الموارد المنجمية على امتداد مساره، بما يعزز قدرات الإنتاج الوطني، ويدفع نحو نشوء ديناميكية صناعية جديدة، مرفوقة بآلاف مناصب الشغل المباشرة وغير المباشرة.
● قراءة اقتصادية: من الإمكانات إلى التفعيل
في هذا السياق، اعتبر الدكتور هواري تيغرسي، المحاضر في الاقتصاد بجامعة بن عكنون في حديثة للصحيفة الكترونية “الجزائر الآن”، أن وصول أول شحنة من خام الحديد من غارا جبيلات إلى بشار عبر السكة الحديدية يمثل تحولًا مفصليًا، يعكس انتقال الجزائر من منطق الإمكانات النظرية إلى منطق التفعيل الفعلي للموارد المنجمية.
وأوضح أن المشروع ينسجم مع التوجهات الاقتصادية الجديدة التي تراهن على بناء قاعدة إنتاجية حقيقية، تقوم على استغلال الموارد الوطنية، تقليص التبعية للواردات، وتعظيم القيمة المضافة المحلية، بما يعزز السيادة الاقتصادية على المدى المتوسط والبعيد.
من جهته، شدد عبد الصمد بودي، مدير مخبر الدراسات الاقتصادية والتنمية المحلية بالجنوب الغربي بجامعة بشار في تصريحات لوكالة الأنباء الجزائرية، على أن استغلال غارا جبيلات يشكّل مشروعًا هيكليًا بامتياز، ليس على مستوى الجنوب الغربي فقط، بل على المستوى الوطني، لما يحمله من قدرة على إحداث تحول نوعي في بنية الاقتصاد الجزائري.
● رافعة لتنويع الاقتصاد وكسر التبعية للمحروقات
يتقاطع رأي الخبراء حول كون الخط المنجمي تندوف–بشار يشكّل أول محور لوجستي ثقيل مخصص حصريًا لنقل الثروات المنجمية على نطاق صناعي.
ما يجعله نقطة تحوّل في مسار توطين الصناعات التعدينية وربط مناطق الإنتاج بمناطق التحويل.
ويرى مختصون أن المشروع يساهم مباشرة في تنويع الاقتصاد الوطني، عبر خلق سلاسل قيمة مضافة مرتبطة بالصناعات التحويلية، النقل، والخدمات اللوجستية.
وهو ما من شأنه تقليص التبعية للمحروقات، وكسر منطق الاقتصاد الريعي القائم على تصدير المواد الخام دون تثمين صناعي.
في هذا الإطار، أشار الأستاذ مبارك بن زاير، المختص في الاقتصاد بجامعة بشار في حديثه لوكالة الأنباء الجزائرية، إلى أن الخط يتجاوز وظيفته التقليدية في نقل المعادن.
ليصبح محركًا حقيقيًا للمبادلات الداخلية، ونقل المسافرين، وفك العزلة عن مناطق ظلّت لسنوات خارج شبكات النقل الكبرى، مثل بلدية تبلبالة الحدودية، بما يعزز التوازن الاقتصادي والاجتماعي.
● إنجاز بمعايير دولية وأثر مباشر على سوق العمل
على صعيد الإنجاز، أوضح عبد القادر مزار، المدير المركزي للاتصال بالوكالة الوطنية للدراسات ومتابعة إنجاز الاستثمارات في السكك الحديدية، أن المشروع خضع لمتابعة يومية دقيقة منذ انطلاقه، وأسند إلى مجمعات شركات عمومية بالشراكة مع المؤسسة الصينية لإنشاء السكك الحديدية.
ومبرزا أن الورشات قد وفّرت أكثر من 8000 منصب شغل، وخضع لمراقبة صارمة لضمان احترام الآجال والمعايير الوطنية والدولية، سواء من حيث البنى التحتية أو المنشآت الفنية، ما يعكس تطور القدرات الوطنية في تسيير المشاريع الكبرى المعقدة.
● بنية تحتية عملاقة في قلب الصحراء
يضم المشروع 1431 منشأة فنية، من بينها 45 جسرًا للسكك الحديدية، و48 جسرًا للطرقات، و1338 منشأة للري، أنجزت عبر مسار يعبر ولايات بشار وبني عباس وتندوف وصولًا إلى غارا جبيلات.
وكشف مدير المشروع، عبد الشفيع بن ربيع، أن جسور السكك الحديدية تمتد على طول 20 كلم، ويعد الجسر المنجز فوق وادي “الداورة” بطول 4.1 كلم أطول جسر للسكك الحديدية في الجزائر وإفريقيا، وقد أنجزت هذه المنشآت بين جويلية 2024 ونوفمبر 2025.
● البعد البيئي: تشجير ومقاربة مستدامة
بالتوازي مع البعد الصناعي، أطلقت وزارة الشباب عملية تشجير واسعة على طول مسار الخط، شملت سبع نقاط استراتيجية عبر ولايات تندوف وبني عباس وبشار، بمشاركة الشباب المتطوعين، في خطوة تهدف إلى مكافحة التصحر وتحسين المشهد البيئي، وترسيخ البعد المستدام للمشروع.
● رؤية الدولة: ربط الإنتاج بالموانئ
في السياق ذاته، أكد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، خلال اجتماع لمجلس الوزراء، أن استغلال خام الحديد من غارا جبيلات سينطلق خلال الثلاثي الأول من 2026، معتبرًا ذلك رسالة قوية لتوجه اقتصادي جديد يكرّس مبدأ السيادة الاقتصادية وتنويع الموارد.
كما شدد على أهمية ربط المناطق الصناعية بالموانئ، مشيرًا إلى مشاريع موازية، من بينها ربط المنطقة الصناعية لبطيوة بوهران بالشبكة الحديدية، في إطار استكمال منظومة نقل متكاملة تخدم الإنتاج والتصدير.
غارا جبيلات… ما بعد المشروع
يرى مراقبون أن غارا جبيلات لم يعد مجرد مشروع منجمي، بل بات عنوانًا لمرحلة جديدة في الاقتصاد الجزائري، تُراهن فيها الدولة على إدماج قطاع المناجم والصناعة الثقيلة ضمن محركات النمو، وإعادة تموضع البلاد ضمن خريطة كبار المنتجين في السوق العالمية للحديد.
ويبقى التحدي، وفق الخبراء، في ضمان استدامة التمويل، التحكم في التكنولوجيا، ورفع كفاءة سلاسل النقل واللوجستيك، وهي رهانات ستحدد ما إذا كان غارا جبيلات سيتحول إلى قصة نجاح صناعية طويلة الأمد، أم مجرد إنجاز بنيوي كبير في مسار انتقال اقتصادي لا يزال في طور التشكّل.
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة