آخر الأخبار

مقال رأي | رسالة من معلم الألف والباء إلى تلك (النائبة)

شارك
بواسطة سليم محمدي
صحفي جزائري مختص في الشأن الوطني .
مصدر الصورة
الكاتب: سليم محمدي

مقال رأي | رسالة من معلم الألف والباء إلى تلك (النائبة)

الجزائرالٱن _ سيدتي النائبة المحترمة،

وصلني صوتك وأنت تستنكرين من تحت قبة البرلمان أن يقوم حامل دكتوراه بتدريس “الألف والباء”، وكأنك تتحدثين عن عقوبة أو إهانة أو مضيعة للكفاءات.

اسمحي لي، كمعلم قضى عشرين عاماً في تعليم الأطفال، أن أرد على كلامك بكل احترام، لكن بكل صراحة أيضاً.

أنت تتحدثين عن الألف والباء كما لو كانت مهمة تافهة لا تستحق عناء المتعلمين.

لكن هل تدركين سيدتي أن هذه “الألف والباء” هي التي صنعتك أنت شخصياً؟ هل تعلمين أن كل كلمة نطقتِها في البرلمان، وكل قانون قرأتِه، وكل شهادة حصلتِ عليها، بدأت من فصل ابتدائي صغير حيث علّمك معلم بسيط كيف تمسكين القلم؟

الألف والباء ليست حروفاً فقط. إنها المفتاح الذي يفتح أمام الطفل أبواب المعرفة كلها.

إنها اللحظة السحرية التي يكتشف فيها الإنسان الصغير أن بإمكانه قراءة العالم، فهمه، والتعبير عنه. من يعلّم الألف والباء يزرع في عقل طفل بذرة قد تجعله عالماً أو مهندساً أو طبيباً أو حتى نائبا في البرلمان!

مصدر الصورة

هل تعرفين ما يفعله معلم الابتدائي حقاً؟

دعيني أخبرك سيدتي عن يومي العادي، عن هذه المهمة “البسيطة” التي تحتقرينها:

أصل إلى المدرسة فأجد أمامي ثلاثين طفلاً، كل واحد منهم عالم بذاته.

هذا يعاني من صعوبات التعلم، وذاك من مشاكل أسرية، وثالث جائع لم يتناول فطوره، ورابع يحتاج لمن يشعره بالأمان.

أنا لست معلماً فقط، بل أب وأخ وطبيب نفسي ومرشد اجتماعي.

أعلّمهم الحروف، نعم، لكني أيضاً أعلّمهم كيف يحترمون بعضهم، كيف يحلون مشاكلهم بالحوار، كيف يثقون بأنفسهم، كيف يحلمون.

أزرع فيهم حب الوطن والقيم النبيلة. أكتشف الموهوبين منهم وأرعاهم. أساعد المتعثرين حتى لا يتخلفوا عن الركب.

هل هذه مهمة صغيرة سيدتي؟

العلم الحقيقي ليس في الشهادة بل في الأثر

تتحدثين عن الدكتوراه وكأنها تاج يجب أن يُحفظ بعيداً عن “دنس” الأطفال الصغار.

لكن اسمحي لي أن أخبرك: العالم الحقيقي ليس من يحمل شهادة ويعلقها على الحائط، بل من يترك أثراً في مجتمعه.

في فنلندا، التي تملك أفضل نظام تعليمي في العالم، لا يُسمح بتدريس المرحلة الابتدائية إلا لحملة الماجستير على الأقل.

هل تعرفين لماذا؟ لأنهم يدركون أن هذه المرحلة هي الأهم والأخطر.

المرحلة التي تتشكل فيها شخصية الإنسان وعقله.

أما نحن، فنعتبرها مرحلة “تافهة” يُرسل إليها من لم ينجح في تحقيق أحلامه بعد الجامعة!

من يبني الأساس يبني الصرح كله

تخيلي لو أن مهندساً معمارياً قال: “أنا حاصل على دكتوراه في الهندسة، لن أضيع وقتي في بناء الأساسات، هذا عمل صغير!” ماذا سيحدث للبناء؟ سينهار طبعاً.

نحن معلمو المرحلة الابتدائية نبني الأساسات. نبني الإنسان من الصفر.

وإذا أخطأنا أو أهملنا أو قصرنا، فلن تنفع كل جامعات الدنيا في إصلاح ما أفسدناه.

حامل الدكتوراه الذي يختار تعليم الأطفال لا يُهدر كفاءته، بل يضعها في أنبل مكان.

يضع علمه في عقول لا تزال نظيفة، قابلة للتشكيل، جائعة للمعرفة. يصنع جيلاً كاملاً بدلاً من أن يكتب أبحاثاً قد لا يقرأها أحد.

كلامك سيدتي ليس مجرد رأي عابر. إنه يعكس نظرة مجتمع كامل يحتقر المعلم، خاصة معلم الابتدائي.

نظرة ترى فينا “فاشلين” لم نستطع الوصول إلى مناصب “أرقى”.

هذه النظرة هي التي تجعل الطالب الموهوب يرفض التدريس ويعتبره خياراً للضعفاء.

هي التي تجعل المعلم يشعر بالدونية أمام الطبيب أو المهندس.

هي التي تجعل أولياء الأمور لا يحترمون المعلم ولا يقدرون دوره.

وأنت، بكلامك هذا في البرلمان، تعززين هذه النظرة وتشرعنينها!

سيدتي (النائبة)، إذا كان لديك فائض من حملة الدكتوراه لا تعرفين ماذا تفعلين بهم، فأرسليهم إلينا بكل سرور.

نحن بحاجة لأفضل العقول في مدارسنا الابتدائية، لا لأسوئها.

أرسلي لنا من يفهم أن تعليم الألف والباء ليس مجرد رسم حروف، بل هو صناعة إنسان.

من يدرك أن الطفل في السادسة من عمره ليس “صفحة بيضاء” بل كون معقد من المشاعر والأحلام والمخاوف.

من يملك الصبر والحب والشغف لكي يقضي يومه كاملاً مع أطفال يصرخون ويلعبون ويسألون ألف سؤال.

أما إذا كنت تريدين لحملة الدكتوراه أن يجلسوا في مكاتب مكيفة ويلقوا محاضرات أمام طلاب جامعيين صامتين، فهذا اختيارهم.

لكن لا تحتقري من يختار طريقاً أصعب وأشرف.

نحن معلمو الابتدائي نعلّم الألف والباء بفخر. ونحن نبني وطناً، حرفاً حرفاً، طفلاً طفلاً، جيلاً جيلاً.

ولولانا، لما وصلتِ أنت إلى كرسيك في البرلمان.

شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا