اليمين المتطرف بين الشعبوية السياسية والمصلحة الأوروبية
الجزائرالٱن _ عندما يعترض سياسي يميني على برنامج تبادل طلابي، فإننا لسنا أمام نقاش أكاديمي بقدر ما نحن أمام استثمار سياسي في ملف علمي. اعتراض القيادي البارز في حزب “الجمهوريون” الفرنسي اليميني ، فرانسوا-كزافيي بيلامي على انضمام الجزائر لبرنامج “إيراسموس+” يطرح تساؤلات حول الحدود الفاصلة بين الموقف المبدئي والحسابات الانتخابية، وبين الدفاع عن القيم والانتقائية في تطبيقها.
برنامج أكاديمي لا “مكافأة سياسية”
قبل الخوض في الجدل السياسي، لا بد من توضيح طبيعة برنامج “إيراسموس+” الذي يثير كل هذا اللغط. هو برنامج أوروبي للتبادل الطلابي والأكاديمي أُطلق عام 1987، يهدف إلى تمكين الطلاب والباحثين من الدراسة والتدريب في جامعات ومؤسسات بحثية خارج بلدانهم، مما يعزز التعاون العلمي ويبني جسور التفاهم الثقافي. البرنامج استفاد منه ملايين الطلاب الأوروبيين على مدى عقود، وأصبح رمزاً للانفتاح الأكاديمي والتكامل المعرفي.
توسيع هذا البرنامج ليشمل دول جنوب المتوسط ، ومن بينها الجزائر، ليس “امتيازاً” كما يصوره بيلامي، بل هو استثمار في بناء شبكات علمية إقليمية تخدم الاستقرار والتنمية على المدى البعيد. تحويل هذه المبادرة الأكاديمية إلى ورقة للمساومة السياسية هو تشويه لجوهرها ولأهدافها.
الانتقائية في معايير القيم
السؤال الأول الذي يفرض نفسه: لماذا الجزائر تحديداً؟ البرنامج يشمل عشر دول متوسطية، من بينها دول يعرف الجميع أوضاعها الحقوقية المتفاوتة، بل ويشمل الكيان الصهيوني الذي تُوجّه له اتهامات دولية بارتكاب جرائم حرب في غزة. لكن بيلامي اختار أن يركز نيران انتقاداته على الجزائر فقط، مستخدماً ملف سجن الكاتب بوعلام صنصال والصحفي كريستوف غليز كذريعة.
هذا الانتقاء في الاعتراض يكشف عن خلفية سياسية أكثر منها حقوقية. فإذا كان المعيار هو احترام حقوق الإنسان وحرية التعبير، فلماذا لم نسمع صوت بيلامي بنفس القوة تجاه دول أخرى مشمولة في البرنامج؟ أم أن القيم الأوروبية تُطبّق بطريقة انتقائية حسب الملفات السياسية العالقة؟
من التعليم إلى الهجرة
ما يثير الدهشة أكثر هو ربط بيلامي بين برنامج أكاديمي وملف الهجرة غير النظامية، متهماً الاتحاد الأوروبي باستخدام الانفتاح الأكاديمي “غطاءً للتهرب من مسؤولياته السياسية”. هذا الخلط المتعمد بين الملفات يبدو أقرب إلى الخطاب الشعبوي منه إلى التحليل الموضوعي.
برنامج “إيراسموس+” يستهدف الطلاب والباحثين، ويهدف إلى بناء جسور أكاديمية وعلمية بين ضفتي المتوسط. ربطه بملف الهجرة غير الشرعية هو تشويه مقصود لطبيعة المبادرة، وكأن فتح أبواب الجامعات الأوروبية للطلبة الجزائريين سيؤدي تلقائياً إلى موجات هجرة غير نظامية، وهو ادّعاء يفتقر لأي منطق.
التناقض في المواقف الفرنسية
هناك مفارقة لافتة في الموقف الفرنسي عموماً وموقف اليمين الفرنسي خصوصاً: من جهة، تُنتقد الجزائر باستمرار على علاقتها بفرنسا وعلى سياساتها الداخلية، ومن جهة أخرى، هناك رفض لأي مبادرة قد تفتح نوافذ حوار أو تبادل مع الشباب الجزائري. فماذا يريد هؤلاء السياسيون بالضبط؟ عزل الجزائر تماماً؟ أم أنهم يريدونها تابعة لسياساتهم دون نقاش؟
الأكثر إثارة للسخرية هو اتهام الاتحاد الأوروبي بـ”النهج التكنوقراطي المتعجرف” عندما يتخذ قراراً أكاديمياً بحتاً يصب في مصلحة التعاون العلمي والثقافي. أليس من حق الاتحاد الأوروبي أن يبني سياساته على أساس المصلحة طويلة المدى بدلاً من ردود الأفعال الآنية للسياسيين المحليين؟
من يخدم المصلحة الأوروبية حقاً؟
السؤال الجوهري: هل يخدم عزل ملايين الشباب الجزائري عن الفضاء الأكاديمي الأوروبي المصلحة الأوروبية؟ أم أن الاستثمار في تعليمهم وتكوين علاقات معهم هو ما يخدم الاستقرار والتعاون المستقبلي في المتوسط؟
الاتحاد الأوروبي يبدو أنه فهم أن بناء الجسور الأكاديمية مع دول الجوار هو استثمار استراتيجي، لا “مكافأة سياسية” كما يدّعي بيلامي. ويعني الإيمان بأن التعليم والتبادل الثقافي هما أدوات تغيير أكثر فعالية من العزلة والمقاطعة.
عريضة أم حملة انتخابية؟
إطلاق بيلامي لعريضة أوروبية ضد القرار يطرح تساؤلاً آخر: هل هذا موقف مبدئي أم استثمار في الرأسمال السياسي؟ معارضة الجزائر والتشدد تجاه الهجرة هما من الأوراق الرابحة في خطاب اليمين الأوروبي، وبيلامي يعرف ذلك جيداً.
في النهاية، القضية ليست ما إذا كان على أوروبا أن تنتقد انتهاكات حقوقية حيثما وُجدت – وهو واجب لا جدال فيه – بل ما إذا كان إغلاق أبواب المعرفة في وجه جيل كامل من الشباب هو الوسيلة الصحيحة لذلك. بيلامي يقدم انتقائية في المعايير، وخلطاً للملفات، ومزايدة شعبوية تخدم أجندته السياسية أكثر مما تخدم القيم التي يدّعي الدفاع عنها.
السؤال الحقيقي يبقى: هل نريد لأوروبا أن تبني سياساتها على أساس المصلحة بعيدة المدى والقيم الإنسانية الشاملة، أم أن نتركها رهينة للحسابات الانتخابية الضيقة لسياسيين يبحثون عن عناوين في الصحف؟
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة