آخر الأخبار

الفاتيكان و موقفه التاريخي تجاه الجزائر.. رؤى وتحليلات من رئيس المراكز الإسلامية بأوروبا وأكاديمي مختص

شارك
بواسطة محمد بلقور
مصدر الصورة
الكاتب: محمد بلقور

● الفاتيكان والمواقف التاريخية تجاه الجزائر.. رؤى وتحليلات من رئيس المراكز الإسلامية بأوروبا وأكاديمي مختص

الجزائر الآن _ في زمن تتراجع فيه لغة القيم أمام صخب المصالح، تبرز الجزائر بهدوئها التاريخي لتعيد الاعتبار إلى المعنى الإنساني في العلاقات الدولية .

فالعلاقة التي تجمعها بحاضرة الفاتيكان لم تعد مجرّد صفحة بروتوكولية في سجلات الدبلوماسية ، بل تحوّلت إلى فضاء حيّ يتقاطع فيه الروحي بالسياسي، والذاكرة بالتاريخ، والاعتراف بالمسؤولية الأخلاقية.

من هنا تكتسب تصريحات رئيس أساقفة الجزائر، جون بول فيسكو، وما أعقبها من قراءات وتحليلات، بعدًا أعمق من مجرد حوار صحفي، لتعبّر عن مرحلة جديدة في مسارٍ طويل من التفاهم الروحي والإنساني بين الجزائر والفاتيكان.

● مهاجري زيان: الجزائر تُرسّخ دبلوماسية روحية قائمة على التفاهم الإنساني

صرّح الدكتور مهاجري زيان، رئيس الهيئة الأوروبية للمراكز الإسلامية في جنيف، لصحيفة “ الجزائر الآن” ، بأنّ الحوار الذي أجراه رئيس أساقفة الجزائر، جون بول فيسكو، “يعكس مرحلة ناضجة ومتقدمة في مسار العلاقات بين الجزائر والفاتيكان”.

مشيرًا إلى أنّ ما تضمّنه حديثه من إشادات بسياسة الجزائر في الحوار بين الأديان لا يمكن اعتباره مجاملة دبلوماسية، بل “ اعتراف صريح بالدور الريادي الذي باتت تلعبه الجزائر في ترسيخ ثقافة التعايش وتعزيز قيم الاحترام المتبادل بين الأديان والثقافات”.

وأضاف أنّ هذا الخطاب يجسّد إدراكًا مشتركًا لأهمية الحوار الإنساني في بناء عالم أكثر توازنًا وسلامًا، مؤكدًا أنّ الدبلوماسية الجزائرية الناعمة أصبحت تحظى بمكانة متزايدة في المحافل الدولية، من خلال مقاربة تقوم على التفاهم والانفتاح وروح المسؤولية الحضارية.

ويرى الدكتور مهاجري أنّ الجزائر “فرضت نفسها كنقطة التقاء حضاري بين الشرق والغرب، مؤكدة أن الإسلام في جوهره رسالة سلام وعدل وإنسانية”.

مصدر الصورة

ويستدلّ على ذلك بالزيارة التي قادت الرئيس عبد المجيد تبون إلى الفاتيكان واستقباله من قبل قداسة البابا فرنسيس، معتبرًا أنّها جسّدت هذا التوجّه الاستراتيجي بوضوح، خاصة بعد الخطوة الرمزية العميقة المتمثلة في منح الجزائر جنسيتها لأسقفها الكاثوليكي فيسكو، في مبادرة تعكس روح الثقة والتقدير المتبادل وتجسّد التزام الدولة الجزائرية برعاية قيم المواطنة الجامعة.

● من اللقاء البابوي إلى “الرسالة الإنسانية”

وكشف الدكتور مهاجري زيان أنه زار حاضرة الفاتيكان يوم 8 ديسمبر 2023 والتقى البابا فرنسيس شخصيًا، حيث قدّم له نسخة من كتابه “اعتدالُنا”، وكانت تلك اللحظة، كما قال، “رمزية تعبّر عن تلاقي القيم الإنسانية الجامعة”.

وشاركته في اللقاء الدكتورة ميادة، مستشارة الهيئة في قسم “مدّ الجسور بين الشعوب”، وهي أول باحثة مسلمة تُعد أطروحة دكتوراه حول وثيقة الأخوة الإنسانية، ما يعكس عمق التفاعل الفكري والروحي بين المؤسستين الإسلامية والمسيحية.

وأضاف مهاجري أنه سلّم لقداسة البابا رسالة إنسانية ناشده فيها التدخل لإنقاذ أطفال غزة، وهي مبادرة لقيت تجاوبًا لافتًا، حيث استقبل البابا بعد شهر وفدًا من أطفال غزة في الفاتيكان، رغم الجدل الإعلامي الذي أثاره موقفه الإنساني الشجاع.

وأكد أنّ هذا التفاعل يُبرز أنّ الضمير الإنساني قادر على تجاوز جغرافيا السياسة عندما يجد من يُخاطبه بصدق.

● كحلوش: الفاتيكان يُعيد قراءة التاريخ الجزائري من زاوية العدالة والحرية

من جهته، صرّح الخبير الاستراتيجي الدكتور نبيل كحلوش لـ الجزائر الآن، بأنّ تصريحات فيسكو تعبّر عن مرحلة جديدة من التفاهم المتبادل بين الجزائر والفاتيكان، قائمة على الاعتراف بالذاكرة المشتركة، وبناء دبلوماسية قائمة على الثقة والندية في التعامل.

وأوضح كحلوش أن حديث فيسكو عن الذاكرة والتاريخ أعاد تسليط الضوء على الجذور المسيحية في الجزائر، مذكّرًا بأن الكنيسة الكاثوليكية كانت خلال خمسينيات القرن الماضي شريكًا أخلاقيًا في دعم قضية التحرر الوطني، وأنّ مواقف الأساقفة الداعمة للثورة أسست لوعي ديني مسيحي منسجم مع قيم العدالة والحرية.

مصدر الصورة

ويعتبر كحلوش أنّ تصريحات فيسكو اليوم تمثل امتدادًا لذلك المسار الأخلاقي، مضيفًا:

“التحرر الجزائري لم يكن سياسيًا فقط، بل روحيًا أيضًا، وهو ما يجعل الجزائر اليوم تُدرِك معنى الحرية كقيمة إنسانية شاملة”.

الذاكرة والتعايش.. من التاريخ إلى الحاضر

وأشار كحلوش إلى أنّ الجزائر، أرض القديس أوغسطين، تظلّ مركزًا روحيًا في العالم المسيحي، ما يجعل من دور الأساقفة في تعزيز العلاقات الجزائرية–الفاتيكانية ذا أهمية استراتيجية.

واستشهد بحقيقة أن الأساقفة الكاثوليك لم يغادروا الجزائر بعد الاستقلال، على عكس الجالية اليهودية التي اختارت الجنسية الفرنسية، معتبرًا ذلك “دليلًا على قدرة الجزائر على احتضان التعايش الديني كما فعلت عبر قرون طويلة”.

كما استحضر حادثة اغتيال رهبان تيبحيرين في تسعينيات القرن الماضي، مؤكدًا أنّ الإرهاب حاول من خلالها عزل الجزائر دوليًا وتصويرها كأرض ترفض التعايش، “لكن الشعب الجزائري أفشل تلك المحاولة، محافظًا على صورته كبلد للتسامح والتنوع الثقافي والديني”.

● من الذاكرة إلى الدبلوماسية: رؤية جديدة للكرسي الرسولي

في قراءته للبعد السياسي، أوضح كحلوش أن الفاتيكان، من خلال خطاب فيسكو، يسعى إلى تعزيز التواصل مع الجزائر باعتبارها قوة روحية مؤثرة في العالم الإسلامي، مشيرًا إلى أنّ الكرسي الرسولي يدرك أنّ الجزائر أصبحت عامل توازن واستقرار في الفضاء المتوسطي، خصوصًا بعد مبادرات الرئيس تبون ذات الطابع الإنساني والدبلوماسي، وآخرها لقاؤه مع البابا فرنسيس.

مصدر الصورة

وبيّن أن فيسكو تحدّث بلغة سياسية هادئة تنسجم مع نهج الدبلوماسية الجزائرية القائمة على الاحترام المتبادل ورفض الإملاءات، معتبرًا أن العلاقة اليوم تُبنى على الثقة والتاريخ المشترك لا على المصالح الظرفية.
وأكد كحلوش أنّ “الجزائر باتت شريكًا في صياغة التوازنات الدولية، لا مجرد فاعل هامشي في الجنوب، لأنها تمتلك ما هو أعمق من القوة: تمتلك الشرعية الأخلاقية”.

● فيسكو يُعيد فتح جرح الذاكرة بين الجزائر وفرنسا ويدعو إلى مصالحة تقوم على الحقيقة

وفي ختام المشهد، جاءت تصريحات الأسقف فيسكو لتفتح من جديد أحد أكثر الملفات حساسية في العلاقات الجزائرية–الفرنسية. فقد قال إنّ المصالحة الحقيقية ليست قرارًا دبلوماسيًا، بل مسارًا إنسانيًا يتطلّب شجاعة مواجهة الذات، مضيفًا:

“ الاعتراف لا يُهين من يقوله، بل يُحرّره“.

كلماته العميقة أعادت التذكير بأن “المصالحة لا تعني النسيان، بل أن ننظر إلى الحقيقة معًا ونصنع مستقبلًا لا يُعاد فيه إنتاج الألم”.

وهي رسالة صريحة إلى باريس بأنّ جرح الذاكرة لم يلتئم بعد، وأنّ تجاوزه لن يكون بطمسه، بل بالاعتراف به بشجاعة وصدق.

الجزائر كقوة أخلاقية في عالم يبحث عن المعنى

بهذا الخطاب المتزن والعميق، يُعيد فيسكو صياغة العلاقة بين الروحي والسياسي، مؤكدًا أنّ السلام لا يصنعه النسيان بل شجاعة الاعتراف.

فالجزائر، التي قدّمت نموذجًا فريدًا في بناء الجسور بين الشعوب، تؤكد اليوم أن قوة الأمم لا تُقاس بما تملك من السلاح أو الثروة، بل بقدرتها على ترسيخ السلم الحضاري والتعايش الإنساني.
إنها رسالة دولة

شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا