● رئيس أساقفة الجزائر: “جرح الذاكرة بين الجزائر وفرنسا لم يلتئم بعد… والاعتراف ضرورة أخلاقية وتاريخية”
الجزائر الآن _ في تصريحٍ جديدٍ أعاد تسليط الضوء على أحد أكثر الملفات حساسية في العلاقات الجزائرية الفرنسية، حمّل رئيس أساقفة الجزائر، الكاردينال جون بول فيسكو، باريس مسؤولية التدهور الحاصل في العلاقات الثنائية، معتبرًا أن استمرارها في تجاهل المطالب الجزائرية بالاعتراف بجرائمها الاستعمارية طيلة 132 سنة من الاحتلال، يبقي الجرح مفتوحًا ويمنع المصالحة الحقيقية بين الشعبين.
وخلال حوار خصّ به صحيفة “ أوريزون” الحكومية، شدّد فيسكو على أن “التوفيق بين الذاكرات ليس من أجل الاتهام، بل من أجل تحرير الأجيال القادمة من ثقل الماضي”، مضيفًا أن الوقت قد حان لأن يتحمّل الطرف الفرنسي مسؤوليته التاريخية ويخطو نحو المصالحة بصدق وشجاعة.
من منظور سياسي، يمثل تصريح فيسكو تحوّلًا رمزيًا في خطاب الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، إذ لم يعد الحديث عن الماضي حكرًا على السياسيين أو المؤرخين، بل بات يخرج من أفواه رموز دينية تحمل ثقلًا أخلاقيًا عابرًا للحدود.
فحين يصدر هذا الموقف من شخصية كنسية فرنسية المولد جزائرية الانتماء، فإنه يُربك باريس أكثر مما يُحرجها، لأن الرسالة لم تعد تأتي من الجزائر الرسمية، بل من داخل الوعي الفرنسي ذاته.
هذا ما يجعل المسألة الآن ليست تاريخية فقط، بل مسألة هوية وطنية بالنسبة لفرنسا، وموقعها الأخلاقي في عالم ما بعد الاستعمار .
● كلمات رجل يطلب الحقيقة لا المجاملة
لم يتحدث الكاردينال بصفته الدينية فقط، بل بصوتٍ يُعبّر عن ضميرٍ إنساني يرى أن بناء الأخوّة الحقيقية بين الشعوب يمرّ عبر الاعتراف المتبادل بالحقيقة.
وقال في هذا السياق: “لقد حان الوقت للاعتراف ببعضنا البعض وبناء أخوة حقيقية. هذه ليست مجرد كلمات رئيس أساقفة، بل كلمات رجل ملتزم بالحقيقة والصداقة بين الشعوب.”
وأكد فيسكو، الذي يعيش في الجزائر منذ أكثر من عقدين ويحمل جنسيتها رغم أصوله الفرنسية، أنه يشعر شخصيًا بعمق الألم الذي خلّفه الماضي الاستعماري، مشيرًا إلى أن هذا الألم “ليس تاريخيًا فحسب، بل حميميًا أيضًا.”
بهذه اللغة الإنسانية الرفيعة، يضع فيسكو الإشكال في إطاره الأخلاقي، لا السياسي فقط.
فبينما لا تزال فرنسا الرسمية تتعامل مع الذاكرة بعقلية الدفاع عن الذات، يأتي صوت رجل دين ليُذكّر بأن الذاكرة ليست سجلاً قضائيًا بل ميراثًا إنسانيًا ينبغي تطهيره بالاعتراف لا بالتبرير.
هذا الطرح، بحسب المتابعين ، وإن بدا أخلاقيًا في ظاهره، يحمل بُعدًا سياسيًا خطيرًا: إنه يسحب النقاش من يد الدولة إلى ضمير المجتمع، ويدعو الفرنسيين أنفسهم إلى محاكمة ماضيهم، في زمنٍ لم تعد فيه الشعوب تقبل الاستعمار كمرحلة “تاريخية عادية” بل كجريمة أخلاقية في حق الإنسانية.
● صوت يحمل رمزية مضاعفة في باريس
يحظى حديث الكاردينال فيسكو باهتمام خاص في فرنسا نظرًا لخلفيته المزدوجة الجزائرية ـ الفرنسية، ما يمنح تصريحاته بعدًا سياسيًا وأخلاقيًا يتجاوز الإطار الديني.
وتأتي كلماته في وقتٍ تشهد فيه فرنسا تصاعدًا في الخطاب الرافض لأي اعتذار رسمي عن الجرائم الاستعمارية، كان آخرها تصريحات وزير النقل الفرنسي الجديد، فيليب تابارو، وهو أحد أبناء مؤسسي منظمة الجيش السري (OAS) التي ارتكبت مجازر دموية ضد الجزائريين في الأسابيع الأخيرة من الاحتلال الفرنسي.
تزامن تصريحات فيسكو مع صعود رموز اليمين الفرنسي ذوي الخلفية الاستعمارية يكشف عن معركة خفية داخل الذاكرة الفرنسية نفسها.
فبينما يسعى الجيل الجديد إلى إعادة قراءة الماضي بعيون نقدية، يحاول اليمين المتطرف إعادة تدوير السردية القديمة التي تبرّر الاستعمار باسم “الحضارة”.
في هذا السياق، يصبح صوت فيسكو بمثابة كسرٍ لجدار الصمت داخل المؤسسة الفرنسية، ويعيد تشكيل النقاش حول الذاكرة من زاوية أخلاقية لا سياسية، وهو ما يضع باريس أمام مفترق طرق: إما أن تواجه تاريخها بصدق، أو تستمر في الهروب منه بثمن سياسي باهظ أمام الجزائر وأمام العالم.
● الكنيسة الكاثوليكية في الجزائر… موقف ثابت وانسجام مع الذاكرة الوطنية
على مدى السنوات الماضية، تميّز موقف الكنيسة الكاثوليكية في الجزائر، وهي الوحيدة المعترف بها رسميًا، بانسجامه الكامل مع الموقف الجزائري الداعي إلى معالجة ملف الذاكرة بشجاعة واعتراف.
ويرى مراقبون أن هذا الموقف المتضامن مع المطالب الجزائرية يعكس فهم الكنيسة العميق لأهمية طيّ صفحة الماضي عبر المصارحة، لا النسيان، خاصة في ظل اعتذار عدد من القوى الاستعمارية السابقة لشعوبٍ عانت من ممارساتها.
و يمكن اعتبار هذا الانسجام بين الكنيسة الجزائرية والموقف الرسمي للدولة مؤشّرًا على نضج التجربة الوطنية في التعامل مع الآخر، بعيدًا عن منطق الصدام الديني أو العداء التاريخي.
فالجزائر لا تطلب من الكنيسة موقفًا سياسيًا، بل التزامًا أخلاقيًا بذاكرة الأرض التي تخدم فيها. وهذا ما يجعل الكنيسة الكاثوليكية في الجزائر نموذجًا فريدًا في شمال إفريقيا: مؤسسة أجنبية الجذور لكنها متصالحة مع وجدان المجتمع الجزائري.
هذا التفاعل يعكس أيضًا رغبة الجزائر في ترسيخ خطاب “الذاكرة المشتركة” بدل “الذاكرة المنقسمة”، وهي رؤية تفتح الباب لتجديد العلاقات مع أوروبا على أسس الاحترام المتبادل لا الاستعلاء التاريخي.
● انقسام فرنسي حول الذاكرة… بين الرفض والمراجعة
في المقابل، يعيش المشهد السياسي الفرنسي حالة انقسامٍ حادٍّ حول كيفية التعامل مع ملف الذاكرة الجزائرية.
فبينما يدعو التيار اليساري إلى ضرورة الاعتذار وطيّ هذا الملف بشكلٍ نهائي يفتح الطريق أمام شراكة متجددة، يصرّ اليمين الفرنسي على رفض أي اعتذار، بل يذهب بعض رموزه إلى تمجيد الاستعمار بزعم أنه “جلب الحضارة إلى الجزائر”، وهي مقولة لا تزال تثير سخطًا واسعًا في الجزائر وفي أوساط فرنسيين مناصرين للحقيقة التاريخية.
هذا الانقسام الفرنسي ليس سياسيًا فحسب، بل هو أيضًا انعكاس لأزمة هوية داخل فرنسا نفسها.
فبين فرنسا التي تريد أن ترى نفسها “دولة حقوق الإنسان”، وفرنسا التي لا تزال أسيرة أسطورة “المستعمر المتحضر”، يضيع الخط الفاصل بين الماضي والمستقبل.
الجزائر من جهتها لم تعد تطلب اعتذارًا كرمزيّة فقط، بل كاعتراف قانوني وسياسي يؤسس لعلاقات متوازنة قائمة على الندية. ولهذا، فإن كل تجاهل فرنسي لهذا الملف يزيد من عمق الفجوة ويضعف فرص الشراكة الاستراتيجية بين البلدين في المتوسط وإفريقيا، وهي ساحة أصبح التنافس فيها مفتوحًا مع قوى أخرى كالصين وروسيا وتركيا.
● الجرح ما زال مفتوحًا… والكرة في ملعب باريس
بهذا الخطاب الصريح، أعاد الكاردينال فيسكو التأكيد على أن المصالحة بين الجزائر وفرنسا لن تُبنى على المجاملات السياسية، بل على مواجهة الماضي بشجاعة، واعترافٍ صادقٍ يُنهي جرحًا دام قرنًا ونيفًا.
ففي النهاية، كما قال فيسكو: “المصالحة لا تعني النسيان، بل أن ننظر إلى الحقيقة سويًا، ونصنع مستقبلًا لا يُعاد فيه إنتاج الألم.”
ما قاله فيسكو يُختصر في معادلة سياسية وأخلاقية دقيقة: لا مستقبل مشترك دون ذاكرة مشتركة.
فالمصالحة ليست قرارًا دبلوماسيًا، بل عملية إعادة بناء للثقة على أساس الاعتراف لا النسيان.
والجزائر، بثباتها على هذا الموقف منذ الاستقلال، لا تسعى إلى إذلال فرنسا بل إلى إنقاذ العلاقة من تناقضاتها.
أما باريس، فستظل رهينة ماضيها ما لم تعترف بأن القوة الاستعمارية التي كانت يومًا مصدر فخرها، أصبحت اليوم عبئًا على صورتها الدولية.
وفي هذا المعنى، فإن صوت فيسكو ليس صدى لماضٍ أليم، بل إنذار لمستقبلٍ لا يحتمل الكذب التاريخي بعد الآن.
المصدر:
الجزائر الآن
مصدر الصورة