الجزائر الآن _ في ظل التحولات المناخية الحادة وتزايد الضغوط على الموارد الطبيعية، تتجه الجزائر بثبات نحو صياغة عقيدة مائية جديدة، تُعيد فيها الدولة تعريف علاقتها بالماء كأحد أعمدة السيادة الوطنية، لا كمجرد خدمة اجتماعية.
فالماء، الذي كان لعقود ملفًا تقنيًا ضمن السياسات التنموية، أصبح اليوم محورًا استراتيجيًا يتقاطع مع الأمن الغذائي، والاستقرار الاجتماعي، والسيادة الاقتصادية.
ومن خلال التوجيهات الرئاسية الأخيرة، يظهر بوضوح أن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون يقود تحوّلًا عميقًا في فلسفة الدولة تجاه إدارة الموارد المائية، قوامه الانتقال من منطق التسيير إلى منطق الأمن الاستباقي والتخطيط السيادي طويل المدى.
فمحطات تحلية مياه البحر لم تعد مجرد مشاريع بنية تحتية، بل أدوات جيوسياسية لحماية الأمن الوطني من تداعيات التغير المناخي وأزمات الندرة العابرة للحدود.
**المؤشر المتعلق بمحطات التحلية** │ **القيمة / المعطى الرقمي ** ─────────────────────────
│ عدد محطات التحلية العاملة (منتصف 2025) │ حوالي 19 محطة عاملة │
———————————–
القدرة الإجمالية الحالية للإنتاج │ حوالي 3.7 مليون متر³/يوم │
———————————–
│ القدرة الإضافية من البرنامج التكميلي │ 1.5 مليون متر³/يوم (5 محطات × 300 ألف ) │
———————————–
│ الهدف الوطني بحلول 2030 │ 5.6 مليون متر³/يوم │
│———————————–
│ نسبة مساهمة المياه المحلاة في تلبية الاحتياجات │ حالياً 18% – مستقبلاً نحو 40% ———————————
│ عدد المحطات الإجمالية المخطط إنجازها حتى 2030 │ حوالي 25 إلى 27 محطة
───────────────────────
بهذه الرؤية، تضع الجزائر نفسها في مسار جديد نحو الاستقلال المائي 2030، عبر استراتيجية تمزج بين العلم والسيادة، والتكنولوجيا والحوكمة، لتؤسس لنموذج عربي وإفريقي متفرد في تحويل التحدي البيئي إلى رافعة قوة وطنية واستقرار إقليمي.
القرارات الرئاسية ترسم خارطة السيادة المائية
أسدى رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون جملة من الأوامر والتوجيهات للحكومة خلال ترؤسه آخر اجتماع لمجلس الوزراء، خصص لدراسة مشاريع ذات بعد استراتيجي في قطاعات المياه والبيئة والطاقة.
وصادق المجلس على توطين ثلاث محطات جديدة لتحلية مياه البحر في ولايات الشلف، مستغانم وتلمسان، بطاقة إنتاجية تبلغ 300 ألف متر مكعب يوميًا لكل محطة، مع تحديد مواقع ثلاث محطات إضافية خلال الاجتماعات المقبلة.
ودعا الرئيس تبون الحكومة إلى التعامل الجاد مع التحديات البيئية الناجمة عن الجفاف، والإسراع بإنجاز دراسات علمية دقيقة بمعايير دولية تراعي الخصوصيات الجغرافية والمناخية لكل منطقة، لتكون بمثابة “درع استشرافي” يحمي الأمن المائي الوطني من الاستنزاف والاختلال الإيكولوجي.
تُظهر هذه التوجيهات أن الدولة الجزائرية انتقلت من مرحلة إدارة الأزمات المائية إلى مرحلة التخطيط الاستراتيجي الممنهج، حيث بات الماء عنصرًا مركزيًا في الأمن القومي، تمامًا كما هي الطاقة والدفاع. فالمقاربة الجديدة للرئيس تبون تعيد تعريف مفهوم “السيادة المائية” كجزء من الأمن الوطني الشامل، عبر بناء بنية تحتية متكاملة تضمن استقلال القرار المائي الجزائري عن التقلبات المناخية والسياسية الإقليمية.
تيغرسي: الأمن المائي تحوّل إلى أولوية وطنية قصوى
أكد الدكتور هواري تيغرسي، الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد بجامعة بن عكنون، في تصريح لـ الجزائر الآن، أن “الأمن المائي في الجزائر أصبح اليوم قضية سيادية كبرى تعكسها التوجيهات الرئاسية الأخيرة”.
وأوضح أن توطين ثلاث محطات كبرى للتحلية يشكل “قفزة استراتيجية نحو تأمين موارد مائية دائمة”، معتبرًا أن التحلية لم تعد خيارًا ظرفيًا بل “رهانًا وطنيًا لاستدامة التنمية وتقليص الضغط على السدود والمياه الجوفية”.
وشدد على أن هذه المقاربة “تعكس وعي الدولة بضرورة تنويع مصادر المياه، وتحويل التحدي البيئي إلى فرصة للنمو والاستقرار”.
يأتي هذا التحول في توقيت بالغ الحساسية، بحسب المختصين ،حيث تواجه منطقة شمال إفريقيا تنافسًا متزايدًا على الموارد الطبيعية. وبإدراج ملف المياه ضمن أولويات الأمن الوطني، ترسل الجزائر رسالة مزدوجة: داخلية مفادها حماية المواطن من أزمات الندرة، وخارجية تؤكد استقلالية القرار المائي الجزائري في مواجهة التحولات المناخية العابرة للحدود.
إنها مقاربة “ردع ناعم” تعتمد على البنية التحتية والسياسات الوقائية بدل المواجهة المباشرة.
حوكمة شفافة ورقمنة شاملة… مفاتيح الأمن المائي
أبرز تيغرسي أن نجاح الاستراتيجية المائية يتطلب “حوكمة موحدة وشفافة” تجمع بين مختلف الوزارات والمؤسسات، مع رقمنة قطاع المياه عبر العدادات الذكية وقواعد البيانات الدقيقة لمراقبة التسربات والاستهلاك.
كما دعا إلى “تبني سياسة تسعير متوازنة” تراعي الكلفة الحقيقية للماء دون المساس بالقدرة الشرائية للمواطن، مع الإبقاء على الدعم للفئات الهشة.
وشدد على أن “خفض التسربات في شبكات التوزيع يعادل إنتاج محطات جديدة دون كلفة التحلية الباهظة”، داعيًا إلى تنويع التمويل عبر الشراكات العمومية–الخصوصية والسندات الخضراء، “لضمان مرونة واستدامة مالية للقطاع”.
التحول نحو الرقمنة في قطاع المياه ليس مجرد تحديث إداري، بل إعادة هندسة لمنظومة القرار الوطني في إدارة الموارد الحيوية. فالحوكمة الذكية تخلق شفافية تمنع الفساد والهدر، وتحوّل البيانات إلى أداة سيادية لاتخاذ القرار.
بهذا المعنى، تسعى الجزائر إلى بناء “اقتصاد مائي ذكي” يُدار بمعايير تكنولوجية ومؤشرات دقيقة، ما يعزز كفاءة الدولة في مواجهة التحديات المستقبلية من موقع التفوق لا التكيّف.
التحلية… من خيار تقني إلى رهان سيادي
يرى مراقبون أن ملف المياه في الجزائر “تجاوز الطابع الخدمي” ليصبح مسألة أمن قومي ترتبط بالاستقرار الاجتماعي والسيادة الوطنية.
فمنذ توليه الرئاسة، أطلق الرئيس تبون برنامجًا وطنيًا طموحًا لتحلية مياه البحر، توّج بتدشين محطة “الرأس الأبيض” بعين الكرمة بقدرة 300 ألف متر مكعب يوميًا، لتزويد ست ولايات غربية بالماء الشروب، تلتها محطات فوكة، كاب جنات، كدية الدراوش وتيغرمت، ما رفع القدرة الإنتاجية الوطنية إلى أكثر من 3.7 مليون متر مكعب يوميًا، لتصبح الجزائر الأولى إفريقيًا والثانية عربيًا بعد السعودية في هذا المجال.
وأكد الخبراء أن هذه المشاريع تمثل “تحولًا استراتيجيًا في فلسفة الدولة تجاه إدارة المياه”، إذ أصبحت التحلية أداة سيادية لمواجهة التقلبات المناخية وضمان الأمن المائي للأجيال القادمة.
يكرّس هذا التحول مبدأ “الاستقلال المائي” كجزء من العقيدة السيادية الجزائرية الجديدة، التي تدمج بين الأمن البيئي والأمن الوطني.
فالتحلية لم تعد مشروعًا هندسيًا فقط، بل وسيلة لبناء مرونة جيوسياسية تحمي البلاد من الضغوط المناخية والابتزاز المائي الإقليمي، وتحوّل البحر من مصدر تهديد إلى مصدر سيادة.
الجزائر تبني أمنها المائي حتى 2030
تتجه الجزائر نحو توسيع برنامج التحلية الوطني إلى 27 محطة بحلول عام 2030، بطاقة إجمالية تتجاوز 5.6 ملايين متر مكعب يوميًا، أي ما يعادل ملياري متر مكعب سنويًا.
ويدعو الخبراء إلى إنشاء مجلس وطني للأمن المائي تحت إشراف رئاسة الجمهورية، يضم خبراء جزائريين من داخل وخارج الوطن، لوضع خطة وطنية تمتد إلى 2050 تشمل إدارة المياه الجوفية، وتثمين الموارد غير التقليدية، وربط السدود والولايات ضمن شبكة مائية وطنية متكاملة.
ويؤكد الدكتور تيغرسي أن “الرئيس تبون يرسّخ مفهوم الأمن المائي كجزء من الأمن الوطني”، حيث أصبحت مشاريع التحلية وإعادة التدوير ركائز سيادية لحماية الجزائر من تقلبات المناخ وضمان أمنها الغذائي والمجتمعي.
إن بلوغ الجزائر هدف “الأمن المائي 2030” سيضعها في موقع الريادة الإقليمية في إدارة الموارد الحيوية، ويمنحها نفوذًا جديدًا في الدبلوماسية البيئية الإفريقية .
فالماء، الذي كان عنصر هشاشة في الماضي، يتحول الآن إلى رأسمال استراتيجي يعزز استقلال القرار الوطني ويدعم القوة الناعمة للجزائر في محيطها الإفريقي والمتوسطي.