آخر الأخبار

(مساهمة) إعادة بعث الصناعة الميكانيكية في الجزائر: مقاربة حكومية لإرساء نهضة صناعية ذكية في ظل التحول الاقتصادي والتكنولوجي العالمي

شارك
مصدر الصورة
الكاتب: مساهمة بقلم البروفيسور عبد القادر بريش

(مساهمة) إعادة بعث الصناعة الميكانيكية في الجزائر: مقاربة حكومية لإرساء نهضة صناعية ذكية في ظل التحول الاقتصادي والتكنولوجي العالمي

الجزائرالٱن _ تعيش الجزائر مرحلة حاسمة في مسارها التنموي والاقتصادي، وهي مرحلة انتقال من اقتصاد يعتمد أساسًا على الريع الطاقوي إلى اقتصاد منتج متنوع الركائز.

وفي هذا الإطار، جعلت الحكومة من تحفيز الاقتصاد الصناعي والإنتاجي محورًا استراتيجيًا في رؤيتها للتحول الاقتصادي، استجابةً للتوجيهات السامية لرئيس الجمهورية الرامية إلى رفع حصة القطاع الصناعي في الناتج الداخلي الإجمالي إلى نحو 20 % في أفق سنة 2029، في سياق برنامج وطني طموح يهدف إلى بناء قاعدة إنتاجية متكاملة ومستدامة.

وتأتي إعادة بعث الصناعة الميكانيكية في صدارة هذا التوجه، باعتبارها قاطرة للتنويع الاقتصادي وركيزة لتحقيق السيادة الصناعية والتكنولوجية، بما يتماشى مع التحولات التي تفرضها الثورة الصناعية الرابعة (Industry 4.0) والذكاء الاصطناعي، وتطلعات الجزائر إلى تموقعها كقوة صناعية إقليمية في إفريقيا.

أولًا: الإرث الصناعي ورهانات إعادة التموقع الإنتاجي

تملك الجزائر إرثًا صناعيًا معتبرًا، ورثته من التجربة التنموية الطموحة في سبعينيات القرن الماضي، حين كانت الصناعة الميكانيكية — ممثلة في مؤسسات كبرى لصناعة الشاحنات والحافلات والجرارات والعتاد الفلاحي — أحد أعمدة النمو الصناعي الوطني.

غير أن هذا الإرث تعرض لتآكل نسبي خلال العقود الماضية نتيجة التحولات الاقتصادية وانكماش الاستثمار العمومي وضعف التكامل بين الشعب الصناعية.

اليوم، تسعى الحكومة إلى تحويل هذا الإرث إلى رصيد استراتيجي من خلال إعادة هيكلة المؤسسات القائمة وتحديثها تكنولوجيًا، مع تشجيع الشراكات الإنتاجية وتطوير سلاسل القيمة المحلية.

فالرهان لا يقتصر على إحياء المصانع القديمة، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة بناء النسيج الصناعي الميكانيكي وفق منطق التنافسية والابتكار والاندماج في الاقتصاد الرقمي.

ثانيًا: الرؤية الحكومية والبعد الاقتصادي-السياسي للتحول الصناعي

تمثل الرؤية الحكومية للصناعة الميكانيكية مقاربة اقتصادية ذات بعد سيادي، إذ تُدرَك الصناعة ليس فقط كمجال إنتاجي، بل كأداة لإعادة تشكيل البنية الاقتصادية للدولة وتعزيز استقلال القرار الوطني.

هذه الرؤية تستند إلى مجموعة من الأهداف الاستراتيجية:

1. تقليص التبعية الخارجية عبر تطوير إنتاج محلي يغطي احتياجات السوق الوطنية في المركبات والمعدات الصناعية والفلاحية.

2. رفع القدرات الإنتاجية الزراعية بفضل تطوير صناعة الجرارات والعتاد الفلاحي محليًا، بما يرسّخ مفهوم الأمن الغذائي كوجه من وجوه الأمن القومي.

3. خلق قيمة مضافة حقيقية من خلال توطين التكنولوجيا الصناعية بدل الاكتفاء بالتجميع، وتحويل اليد العاملة المؤهلة إلى قوة إنتاجية مبتكرة.

4. بناء اقتصاد متنوع ومستقل يجعل من الصناعة رافعة للتنمية ويخفّف من هشاشة الاقتصاد أمام تقلبات أسعار الطاقة.

بهذا المعنى، فإن التحول الصناعي في الجزائر ليس خيارًا تقنيًا فحسب، بل خيارًا سياسيًا واستراتيجيًا يعكس إرادة دولة في استعادة دورها كفاعل صناعي إقليمي ورافعة اقتصادية إفريقية.

ثالثًا: نحو منظومة صناعية ميكانيكية متكاملة ومندمجة

تسعى الحكومة إلى بناء منظومة صناعية متكاملة (Écosystème industriel intégré) تربط بين مختلف فروع الصناعة الميكانيكية، وتشمل:

صناعة السيارات والشاحنات والحافلات والمركبات النفعية.

تصنيع الجرارات والآلات والعتاد الفلاحي كمكوّن استراتيجي لدعم الأمن الغذائي.

صناعة قطع الغيار والمكوّنات المعدنية والإلكترونية.

تطوير الصناعات المغذية والمناولة الصناعية.

إنشاء عناقيد صناعية (Clusters) تجمع بين المؤسسات الإنتاجية ومراكز البحث والتطوير والجامعات ومؤسسات التمويل.

تُعتبر هذه المقاربة أحد أعمدة التحول الهيكلي في الاقتصاد الجزائري، لأنها تُعيد الاعتبار إلى مفهوم التصنيع المندمج الذي يخلق روابط عضوية بين الصناعة، الفلاحة، والبحث العلمي، ويحوّل الصناعة الميكانيكية إلى محرّك حقيقي للإنتاج الوطني والتصدير.

رابعًا: الشراكات الاستراتيجية ونقل التكنولوجيا في عصر الثورة الصناعية الرابعة

في سياق الانفتاح على الاقتصاد العالمي، تعتمد الحكومة مقاربة قائمة على التعاقد وإقامة شراكات استراتيجية مع شركاء صناعيين موثوقين، من الشركات العالمية ذات السمعة والعلامة التجارية المرموقة في صناعة السيارات والمركبات والمعدات الميكانيكية.

تهدف هذه الشراكات إلى:

نقل التكنولوجيا وتوطينها في المصانع الجزائرية.

تكوين وتأهيل الموارد البشرية الوطنية وفق معايير الإنتاج الذكي.

إدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحكم الآلي في خطوط الإنتاج.

تطوير منظومات إنتاج ذكية قادرة على التفاعل مع التحولات الرقمية العالمية.

إن هذا التوجه يعكس إدراكًا سياسيًا واقتصاديًا عميقًا بأن التحول التكنولوجي لم يعد ترفًا، بل ضرورة سيادية لضمان تنافسية الصناعة الوطنية في سوق مفتوحة على الابتكار والرقمنة.

خامسًا: البيئة الاستثمارية والقدرات الوطنية الداعمة

تمتلك الجزائر اليوم مجموعة من المزايا التنافسية البنيوية تجعلها مؤهلة لقيادة نهضة صناعية ميكانيكية:

موارد طاقوية ومعدنية وفيرة بأسعار تحفيزية للإنتاج.

رأسمال بشري مؤهل بفضل الطفرة الجامعية في التخصصات التقنية والهندسية.

إرادة سياسية واضحة تدعم الإنتاج الوطني وتوفر بيئة قانونية مشجعة للاستثمار.

تحسن متزايد في البنية التحتية اللوجستية (موانئ، مناطق صناعية، شبكة طرق وسكك).

نشاط متنامٍ في الابتكار والمقاولاتية الجامعية، يجعل من الجامعة فاعلًا اقتصاديًا في التنمية.

هذه العوامل مجتمعة تشكل بيئة صناعية خصبة لجذب الاستثمارات النوعية، وبناء قاعدة إنتاجية قادرة على الاستجابة للطلب المحلي والتوجه نحو التصدير، خصوصًا نحو الأسواق الإفريقية الناشئة.

سادسًا: من التصنيع المحلي إلى التموقع التصديري

ترتكز الرؤية الحكومية على الانتقال من مرحلة التصنيع الموجه للسوق الداخلية إلى مرحلة التموقع الصناعي التصديري، بما يجعل الجزائر منصة إنتاج إقليمية قادرة على المنافسة.

يتطلب ذلك تطوير جودة المنتوج الوطني، وتعزيز معايير المطابقة الصناعية، وإنشاء سلاسل قيمة تصديرية ترتبط بالأسواق الإفريقية والعربية والمتوسطية.

خاتمة

إن إعادة بعث الصناعة الميكانيكية في الجزائر تمثل مشروعًا وطنيًا بامتياز، يتجاوز البعد الاقتصادي ليشكل خيارًا استراتيجيًا لبناء السيادة الصناعية والتكنولوجية.

فمن خلال تحفيز الاقتصاد الصناعي والإنتاجي، وتكامل الصناعة والفلاحة، وتوظيف الذكاء الاصطناعي والشراكات التكنولوجية الرفيعة، تسير الجزائر نحو تحول بنيوي عميق يعيد تموقعها كقوة إنتاجية قادرة على المنافسة، ورافعة للتنمية الشاملة داخل القارة الإفريقية.

إن نجاح هذا المسار مرهون بقدرة الدولة على ترسيخ ثقافة التصنيع والإنتاج، وتحفيز القطاع الخاص، واستثمار الرأسمال البشري والعلمي الوطني في صناعة المستقبل — صناعة ميكانيكية ذكية، متكاملة، وسيادية.

شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا