الجزائر وإسبانيا.. من التوتر إلى الشراكة الاستراتيجية في أمن المتوسط
الجزائر الآن _ تشكل زيارة وزير الداخلية الإسباني فرناندو غراندي مارلاسكا إلى الجزائر، واستقباله من طرف رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الجزائري، محطة مفصلية في مسار العلاقات الجزائرية–الإسبانية، إذ تعكس عودة تدريجية للثقة بعد أكثر من عامين من الجفاء الدبلوماسي الذي سبّبته مواقف مدريد في ملف الصحراء الغربية.
لكن بحسب المتابعين ، ما حدث في الجزائر العاصمة لم يكن مجرد لقاء بروتوكولي، بل ترجمة فعلية لتحوّل نوعي في مقاربة البلدين تجاه أمن المتوسط والهجرة غير النظامية والجريمة العابرة للحدود.
تأتي هذه الزيارة في سياق ديناميكية جديدة تقودها الجزائر لإعادة بناء جسور الثقة مع شركائها الإقليميين، على قاعدة المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.
فمنذ استئناف الاتصالات الرسمية وعودة التبادلات التجارية بين الجزائر ومدريد أواخر سنة 2024، بدأ مسار استعادة العلاقات يأخذ منحى عمليًا، تُوج اليوم بتعاون أمني متقدم يعكس رغبة الطرفين في تجاوز مرحلة التوتر نحو مرحلة الشراكة المتوازنة.
ويرى المراقبون أن الجزائر نجحت في فرض منطقها الدبلوماسي القائم على الحوار الهادئ والندية، وهو ما دفع مدريد إلى إعادة النظر في تموضعها داخل معادلة المتوسط، والبحث عن قنوات تنسيق جديدة مع الجزائر باعتبارها فاعلاً مركزيًا في أمن المنطقة واستقرارها.
لطالما ارتكزت العلاقات الجزائرية–الإسبانية على الطاقة، باعتبار الجزائر المورّد الأول للغاز نحو شبه الجزيرة الإيبيرية. غير أن التحول الراهن يعكس انتقالًا من الدبلوماسية الغازية إلى الدبلوماسية الأمنية، حيث بات الأمن الإقليمي والهجرة والجريمة المنظمة ملفات التعاون الأبرز بين الجانبين.
فمدريد تدرك اليوم أن أمنها الداخلي مرتبط مباشرة بأمن الساحل وشمال إفريقيا، وأن الجزائر بما تمتلكه من خبرة وقدرات أمنية أصبحت شريكًا لا غنى عنه في إدارة المخاطر العابرة للحدود.
التصريحات المتبادلة بين الوزيرين سعيود ومارلاسكا أكدت أن الجزائر وإسبانيا تتجهان نحو تأسيس شراكة أمنية ممنهجة تشمل التدريب المشترك، وتبادل المعلومات الميدانية، وتعزيز التنسيق الاستخباراتي.
وقد اتفق الجانبان على إطلاق برامج تدريبية مشتركة، وإنشاء آليات تقنية لمكافحة تهريب البشر والكشف عن الوثائق المزورة، وتبادل المعطيات البيومترية للمهاجرين المفقودين، وهي خطوات عملية تُترجم تحول التعاون الأمني إلى تعاون استراتيجي متعدد الأبعاد.
هذا المسار الجديد يجعل الجزائر طرفًا رئيسيًا في صياغة منظومة أمن متوسطية متوازنة، تقوم على المشاركة لا الوصاية، وعلى حماية الإنسان لا فقط الحدود.
لم تعد الجزائر تُقاس فقط بوزنها الطاقوي، بل أصبحت فاعلًا جيوسياسيًا يمتلك رؤية أمنية وإنسانية متكاملة في إدارة ملفات الساحل والهجرة والتنمية الإقليمية.
ففي الوقت الذي تتصاعد فيه التحديات عبر الضفتين، أثبتت الجزائر قدرتها على الجمع بين المقاربة الأمنية الصارمة والبعد الإنساني المسؤول، حيث تمكنت خلال عامي 2024 و2025 من إحباط أكثر من 100 ألف محاولة عبور غير شرعي، وإعادة 82 ألف مهاجر إلى بلدانهم في ظروف تحفظ كرامتهم.
هذه الأرقام تعكس ليس فقط فعالية الأجهزة الجزائرية، بل أيضًا رؤية الدولة في حماية الإنسان ومحاربة الأسباب العميقة للهجرة.
إن عودة العلاقات الجزائرية–الإسبانية إلى مسارها الطبيعي تعبّر عن تحول في التفكير السياسي الأوروبي تجاه الجزائر.
فبعد سنوات من التوتر، أدركت مدريد أن موازين القوى في المتوسط لم تعد تُبنى على الاصطفاف الأيديولوجي، بل على التعاون الواقعي والمصالح المتبادلة.
وبذلك، تمكنت الجزائر عبر دبلوماسيتها الهادئة من تحويل الأزمة إلى فرصة، وإعادة تموقعها كشريك لا كمجرد مزود للطاقة، بل كقوة استقرار إقليمي تفرض احترامها عبر منطق الدولة لا منطق العاطفة.
الزيارة الأخيرة لوزير الداخلية الإسباني ليست حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل مؤشر على انتقال العلاقات الجزائرية–الإسبانية إلى مرحلة النضج الاستراتيجي.
فالبلدان اليوم يعيدان رسم حدود التعاون بينهما على أسس جديدة: أمن مشترك، ثقة متبادلة، واحترام للسيادة الوطنية.
وفي ظل التحولات الجيوسياسية السريعة في حوض المتوسط، تبدو الجزائر أكثر استعدادًا لتكريس موقعها كقوة مبادرة، تجمع بين الحزم في المواقف والسيولة في التحرك الدبلوماسي، لتصنع نموذجًا خاصًا في التوازن بين السيادة والانفتاح.
الجزائر بحسب المتابعين، تعيد رسم خريطة المتوسط من موقع القوة الهادئة والمسؤولية التاريخية.