الجزائر الآن _ في قرار وصفته الأوساط السياسية بـ”غير المسبوق”، أعاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تعيين سيباستيان ليكورنو رئيسًا للوزراء بعد أيام قليلة من قبول استقالته. ليكورنو الذي لم يبق في منصبه سوى 27 يومًا، عاد إلى نفس الكرسي الذي غادره، حاملاً معه نفس التحديات التي أجبرته على الاستقالة.
قرار الرئيس ماكرون ،جعل العديد من المراقبين يطرحون السؤال التالي : عودة ليكورونو لرئاسة وزراء فرنسا.. هل هو الحل المطلوب أم دليل على أزمة نظام؟
استنفاد البدائل
للوقوف على دلالات هذا القرار وآفاق المشهد السياسي الفرنسي، حاورت صحيفة “الجزائر الآن” البروفيسور رشيد بن عيسى، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية والمتخصص في النظم السياسية المقارنة.
يقول البروفيسور بن عيسى: “إعادة تعيين رئيس وزراء استقال قبل أيام ليست مناورة سياسية ذكية، بل هي اعتراف صريح بالعجز. ماكرون وصل إلى طريق مسدود. حين تُعيد من استقال، فهذا يعني ببساطة أنك لم تجد بديلاً آخر يقبل المهمة المستحيلة أو قادرًا على تحقيق ما عجزت أنت عن تحقيقه”.
ويضيف: “ما حدث في الأيام التي تلت استقالة ليكورنو يكشف الكثير.
ماكرون التقى قادة الأحزاب الرئيسية، لكن اللقاءات لم تُثمر شيئًا. كل طرف متمسك بموقفه. اليسار يريد إلغاء إصلاح المعاشات، اليمين المتطرف يطالب بسياسات هجرة متشددة، والرئيس يرفض التنازل عن إصلاحاته.
في النهاية، لم يبق أمام ماكرون إلا إعادة ليكورنو، ليس لأنه الحل، بل لأنه الخيار الوحيد المتبقي”.
استقالة كانت رسالة ضغط
حول الدوافع الحقيقية وراء استقالة ليكورنو الأولى، يوضح البروفيسور بن عيسى: “ليكورنو حين استقال بعد ساعات فقط من الإعلان عن تشكيلة حكومته، كان يراهن على شيء محدد. كان يريد أن يُظهر للأحزاب البرلمانية أن الوضع وصل إلى حافة الانهيار، وأن عليها تقديم تنازلات. استقالته كانت رسالة تقول: إما أن تتحملوا مسؤولياتكم وتتعاونوا، وإما أن تتحملوا مسؤولية انهيار النظام”.
ويتابع: “لكن الرهان فشل. الأحزاب لم تتزحزح. اليسار أصدر بيانات يطالب فيها بإلغاء إصلاح المعاشات كشرط مسبق. اليمين المتطرف طالب بانتخابات مبكرة. حزب الخضر قال صراحة: إن رفض ماكرون التعايش، فعليه الرحيل. لا أحد كان مستعدًا للتنازل. وماكرون وجد نفسه في مأزق: لا يستطيع إيجاد بديل لليكورنو، فاضطر لإعادته”.
إصلاح المعاشات كعقدة الأزمة
الأكاديمي الجزائري يرى أن إصلاح المعاشات يمثل جوهر الأزمة الفرنسية. “هذا الإصلاح الذي فرضه ماكرون في 2023 باستخدام المادة الدستورية 49.3، والذي يرفع سن التقاعد إلى 64 عامًا، أصبح رمزًا لكل ما يكرهه الفرنسيون في أسلوب حكم ماكرون: التعالي، فرض القرارات من أعلى، تجاهل الرأي الشعبي والبرلماني”.
ويضيف: “ليكورنو نفسه اعترف بأن إصلاح المعاشات هو أحد أكبر نقاط الانسداد في المفاوضات. هذا اعتراف مهم. يعني أن الحكومة نفسها تدرك أن الإصلاح أصبح عبئًا سياسيًا. لكن ماكرون لا يزال يرفض التراجع عنه. إنه محاصر بين كبريائه السياسي الذي يمنعه من الظهور بمظهر الضعيف، وبين واقع برلماني لا يسمح له بالمضي قدمًا في هذا الإصلاح”.
الضغط الاقتصادي والموازنة المعلقة
حول التحدي الاقتصادي الملح، يقول البروفيسور بن عيسى: “ليكورنو مطالب بتقديم مشروع موازنة 2026. هذا ليس خيارًا، بل التزام قانوني. فرنسا تواجه عجزًا ماليًا يتجاوز 5% من الناتج المحلي، ومستويات ديون قياسية. الأسواق المالية والمفوضية الأوروبية تضغط بقوة لتقليص هذا العجز”.
ويوضح: “لكن كيف يمكن تمرير موازنة تقشفية في برلمان كل كتلة فيه قادرة على إسقاط الحكومة؟ أي إجراء لتقليص العجز يعني إما تقليص الإنفاق الاجتماعي وإما زيادة الضرائب. اليسار يرفض الأول، واليمين يرفض الثاني. الحكومة محاصرة تمامًا. إن لم يُقدم مشروع موازنة، قد يضطر البرلمان لتمرير قانون طوارئ للحفاظ على تمويل الحكومة، وهذا سيكون اعترافًا بالعجز التام”.
البرلمان الثلاثي المتصارع
البروفيسور بن عيسى يشرح طبيعة الواقع البرلماني: “المشكلة الجوهرية هي أن فرنسا لديها برلمان مقسم إلى ثلاث كتل متناقضة أيديولوجيًا، ولا واحدة منها تملك أغلبية. اليسار يريد دولة رفاه قوية وإلغاء الإصلاحات الليبرالية. اليمين المتطرف يريد إغلاق الحدود وحمائية اقتصادية. الوسط الماكروني يريد إصلاحات ليبرالية وانفتاحًا أوروبيًا”.
ويضيف: “هذه ليست خلافات تقنية يمكن حلها بالمفاوضات، بل تناقضات أيديولوجية عميقة. كل كتلة ترى أن التحالف مع الأخرى خيانة لناخبيها. الثقافة السياسية الفرنسية، على عكس الألمانية أو الهولندية، لا تقبل التسويات بسهولة. التنازل يُرى كضعف، والائتلافات تُعتبر خيانة. هذا يجعل تشكيل حكومة مستقرة شبه مستحيل”.
الانتخابات المبكرة خيار مرفوض
عن احتمال إجراء انتخابات برلمانية جديدة، يقول الأكاديمي الجزائري: “دستوريًا، أصبح من الممكن الآن حل البرلمان لأن السنة المطلوبة قد مرت. اليمين المتطرف يدعو بقوة لانتخابات مبكرة، معتقدًا أنه سيحقق نتائج أفضل. لكن ماكرون يرفض هذا الخيار رفضًا قاطعًا”.
ويوضح: “ماكرون يخشى أن تؤدي انتخابات جديدة إلى تعزيز اليمين المتطرف أو اليسار الراديكالي، ما سيجعل الوضع أكثر سوءًا. لكن السؤال المطروح: كم من الوقت يستطيع تأجيل هذه المواجهة؟ فرنسا اليوم بلا حكومة مستقرة فعليًا، والوضع غير قابل للاستمرار. كل يوم يمر يزيد من هشاشة النظام”.
مستقبل فرنسا بين سيناريوهات صعبة
حول ما ينتظر فرنسا في الأشهر المقبلة، يرسم البروفيسور بن عيسى صورة قاتمة: “السيناريوهات المحتملة كلها صعبة ومؤلمة. الأول: أن ينجح ليكورنو في تشكيل حكومة هشة تعيش يومًا بيوم تحت رحمة البرلمان، وهذا يعني شللًا سياسيًا مستمرًا وعدم قدرة على اتخاذ قرارات مهمة”.
ويتابع: “الثاني: أن تسقط الحكومة مجددًا خلال أسابيع أو أشهر، وتدخل فرنسا في دوامة حكومات قصيرة العمر كما حدث في الجمهورية الرابعة. هذا سيكون كارثيًا اقتصاديًا، لأن المستثمرين يكرهون عدم الاستقرار السياسي”.
ويضيف: “الثالث: أن يُجبر ماكرون في النهاية على الدعوة لانتخابات مبكرة رغم مخاوفه، وهنا النتيجة غير معروفة. قد تأتي الانتخابات بواقع أسوأ من الحالي، أو قد تحسم الأمور لصالح أحد المعسكرات. لكن ماكرون يخشى المغامرة”.
ويكمل: “الرابع، والأكثر جذرية: أن يستقيل ماكرون نفسه، لكن هذا مستبعد جدًا. شخصية ماكرون لا تسمح له بالاستقالة. إنه يرى نفسه زعيمًا إصلاحيًا تاريخيًا، والاستقالة ستكون اعترافًا بالفشل الكامل”.
أزمة نظام وليست أزمة ظرفية
في تقييمه الشامل، يقول البروفيسور بن عيسى: “ما تعيشه فرنسا اليوم ليس أزمة حكومة عابرة، بل أزمة نظام سياسي بأكمله. الجمهورية الخامسة بُنيت على افتراض أساسي: رئيس قوي مدعوم بأغلبية برلمانية واضحة. هذا الافتراض انهار. اليوم لدينا رئيس قوي دستوريًا لكنه ضعيف سياسيًا، وبرلمان مجزأ لا يستطيع أن يحكم بنفسه ولا يريد أن يخضع للرئيس”.
ويتابع: “المشكلة العميقة هي أن فرنسا تحتاج إلى إصلاح دستوري جذري، إلى إعادة التفكير في توزيع السلطات، إلى خلق آليات مؤسسية للتعامل مع التعددية البرلمانية. لكن من سيقوم بهذا الإصلاح في ظل هذا الانقسام العميق؟ من سيوافق على تغيير قواعد اللعبة؟ إنها حلقة مفرغة”.
المستقبل الأوروبي في خطر
الأكاديمي الجزائري يشير إلى بعد إقليمي مهم: “أزمة فرنسا ليست مشكلة فرنسية فقط، بل هي مشكلة أوروبية. فرنسا هي ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، وهي شريك أساسي لألمانيا في قيادة الاتحاد الأوروبي. حين تدخل فرنسا في حالة شلل سياسي، هذا يؤثر على قدرة أوروبا على اتخاذ قرارات استراتيجية”.
ويضيف: “الاتحاد الأوروبي يواجه تحديات كبرى: الحرب في أوكرانيا، التنافس مع الصين، التعامل مع إدارة ترامب المحتملة. أوروبا بحاجة لقيادة فرنسية-ألمانية قوية. لكن كيف يمكن لفرنسا أن تلعب دورًا قياديًا وهي غارقة في أزمات داخلية؟ هذا الضعف الفرنسي يضعف أوروبا كلها”.
رسالة للديمقراطيات الأخرى
في ختام حديثه، يرى البروفيسور بن عيسى أن الأزمة الفرنسية تحمل دروسًا مهمة: “ما يحدث في باريس اليوم هو تحذير لديمقراطيات أخرى. الاستقطاب السياسي المتزايد، انهيار الأحزاب التقليدية الكبرى، صعود القوى المتطرفة، رفض ثقافة التسوية، كلها ظواهر لا تقتصر على فرنسا. نراها في أمريكا، في بريطانيا، في إيطاليا، وحتى في ألمانيا”.
ويختم: “الدرس الأهم هو أن المؤسسات السياسية، مهما كانت عريقة ومتينة، لا تعمل في فراغ. إنها تحتاج إلى ثقافة سياسية داعمة، إلى استعداد حقيقي للحوار والتسوية، إلى قدرة على التكيف مع الواقع المتغير. حين تغيب هذه العناصر، حتى أقوى الأنظمة يمكن أن تنهار. إعادة تعيين ليكورنو ليست حلًا، بل هي مجرد تأجيل للحظة الحقيقة. فرنسا تسير نحو لحظة فاصلة لا مفر منها، واللحظات الفاصلة في التاريخ نادرًا ما تكون مريحة”.
الأزمة الفرنسية، بحسب قراءة البروفيسور بن عيسى، ليست مجرد فصل عابر في تاريخ الجمهورية الخامسة، بل قد تكون بداية تحول عميق في طبيعة النظام السياسي الفرنسي، تحول قد يكون قسريًا ومؤلمًا إن لم تبادر النخب السياسية إلى إدارته بحكمة ومسؤولية.