في فرنسا .. سياسيون برتبة لصوص
الجزائرالٱن _ في مشهد يبدو مستحيلاً في دولة تعتبر نفسها مهد الديمقراطية الحديثة، تحولت أروقة القصور الرئاسية والوزارية في فرنسا إلى محاكم، والرموز السياسية إلى لصوص يقبعون خلف القضبان. من الإليزي إلى أقبية السجون، رسمت النخبة السياسية الفرنسية مساراً مظلماً من الفساد والاختلاس والتلاعب بأموال الشعب.
ساركوزي : من الإليزي إلى الزنزانة
يُعتبر نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي السابق، النموذج الأوضح لهذا الانحدار الأخلاقي المروع. ففي 25 سبتمبر 2025، سطّر التاريخ صفحة سوداء بحكم محكمة باريس عليه بالسجن خمس سنوات مع النفاذ الفوري في قضية التمويل الليبي لحملته الانتخابية عام 2007.
هذا الحكم التاريخي لم يأت من فراغ، تقول “فرانس 24” في تقريرها، بل جاء تتويجاً لسلسلة من الفضائح التي لاحقت الرجل الذي وصل إلى أعلى منصب في الدولة عبر أموال مشبوهة. قضية “التآمر الجنائي” التي أُدين بها تكشف عن شبكة معقدة من التواطؤ مع مسؤولين ليبيين للحصول على تمويل غير مشروع، مما يجعل من انتخابه عام 2007 مجرد مهزلة ديمقراطية.
وكأن هذا لا يكفي، فساركوزي لديه سجل إجرامي متنوع يشمل قضية “التنصت” التي أُدين فيها عام 2021 بتهمتي الفساد واستغلال النفوذ، حيث حاول الحصول على معلومات سرية من خلال محاميه. أما قضية “بيغماليون” فقد كشفت عن تلاعبه في حملته الانتخابية لعام 2012 من خلال فواتير مزورة، مما يؤكد أن الرجل جعل من التزوير والخداع منهج حياة.
شيراك: رائد الوظائف الوهمية
قبل ساركوزي، مهّد جاك شيراك الطريق لهذا التقليد المشين. فخلال فترة رئاسته لبلدية باريس (1977-1995)، حوّل شيراك البلدية إلى مؤسسة لخدمة مصالحه الشخصية والحزبية. قام بتوظيف عشرات الأشخاص في مناصب وهمية يتقاضون رواتبهم من أموال دافعي الضرائب، بينما كانوا يعملون فعلياً لحملته السياسية وحزبه.
في عام 2011، أُدين شيراك بالسجن مع وقف التنفيذ لمدة سنتين بتهمة “سوء إدارة أموال عامة واختلاس جزئي للموارد”. ورغم إفلاته من السجن الفعلي بسبب تقدمه في العمر، إلا أن إدانته مثلت سابقة تاريخية كأول رئيس سابق يُدان بعد انتهاء ولايته.
تابي: من الوزارة إلى زنزانة لوين
برنار تابي، الرئيس التاريخي لنادي أولمبيك مارسيليا ورجل الأعمال الذي شغل منصب وزير المدينة في الحكومة الاشتراكية، يُعتبر نموذجاً صارخاً للفساد الرياضي والسياسي. أُدين عام 1995 بالسجن لمدة عامين بتهمة “التواطؤ في الفساد ورشوة الشهود” في قضية مباراة كرة القدم المزورة بين نادي مارسيليا وفالنسيان عام 1993.
ما يثير الاشمئزاز أكثر هو أن تابي سلّم نفسه طوعياً للسلطات طمعاً في قبول طعنه، لكن المحكمة العليا رفضت طلبه، ودخل سجن لوين في فيفري 1997. هذا الرجل لم يكتفِ بسرقة أموال الدولة، بل امتدت جرائمه إلى تزوير النتائج الرياضية وخداع الجماهير.
غيون: لص بثوب أنيق
كلود غيون، السكرتير العام السابق للإليزي، حوّل وزارة الداخلية إلى صندوق نقدي شخصي. أُدين عام 2017 بتهمة “التواطؤ في اختلاس أموال عامة وتلقي أموال متحصلة من هذا الجرم”، وحُكم عليه بالسجن لمدة عامين.
اعتُقل غيون في ديسمبر 2021 بسجن لا سانتي، وما زاد من فضاضة جرائمه رفضه سداد الغرامات والتعويضات المفروضة عليه. في قضية التمويل الليبي، أُدين مرة أخرى بالسجن ست سنوات، مما يجعل منه مجرماً متسلسلاً برتبة وزير.
فيون: أسرة من اللصوص
فرانسوا فيون، رئيس الوزراء الفرنسي السابق، استغل منصبه لإثراء عائلته على حساب دافعي الضرائب. في فضيحة عُرفت بـ”بينيلوب غيت”، منح زوجته وظيفة وهمية براتب مرتفع دون أن تؤدي أي عمل حقيقي.
أُدين فيون بالسجن خمس سنوات، اثنتان منهما نافذتان، مع منعه من الترشح لعشر سنوات. هذا الحكم لا يشمل فيون وحده، بل امتد ليطال زوجته ومساعده مارك جولو، مما يكشف عن شبكة عائلية للإجرام المنظم.
كاهوزاك: وزير مكافحة التهرب يتهرب من الضرائب
في مفارقة تبعث على السخرية المرة، تبين أن جيروم كاهوزاك، وزير الميزانية السابق والمسؤول عن مكافحة التهرب الضريبي، كان هو نفسه متهرباً من الضرائب ومبيضاً للأموال في سويسرا.
أُدين كاهوزاك عام 2016 بالسجن ثلاث سنوات نافذة، وحُكم على زوجته بالسجن سنتين، مما يؤكد أن الفساد في فرنسا لا يقتصر على الأفراد بل يشمل أسراً بأكملها. اعتراف كاهوزاك وصفه الرئيس فرانسوا هولاند بأنه “شيء غير أخلاقي ولا يغتفر”، وكان بمثابة “قنبلة سياسية وأخلاقية زعزعت أركان النظام الفرنسي”.
دولة القانون أم قانون اللصوص؟
رغم محاولة البعض تصوير هذه الأحكام كانتصار لدولة القانون، إلا أن الحقيقة المرة هي أن النظام السياسي الفرنسي يعاني من تعفن جذري. كيف لدولة تدّعي أنها مهد حقوق الإنسان أن تنتخب لصوصاً لأعلى مناصبها؟
المحامي آدم المقراني يطرح السؤال الصحيح لموقع “فرانس 24”: “كيف لرئيس فرنسي، وهو رمز دولة القانون، أن يتورط بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في قضايا مرتبطة بأموال غير مشروعة لتمويل حملته الانتخابية؟”
جمهورية اللصوص
ما نشهده في فرنسا ليس مجرد حوادث فردية، بل نمط منهجي من الفساد يمتد عبر كامل الطيف السياسي. من اليمين إلى اليسار، من الرؤساء إلى الوزراء، الجميع متورط في شبكة من السرقة والاختلاس والتزوير.
هؤلاء الرجال الذين وصلوا إلى قمة السلطة عبر خداع الناخبين وسرقة أموال الدولة، لا يستحقون أن يُطلق عليهم ساسة، بل لصوص برتب رسمية. وما دامت فرنسا تنتخب مثل هؤلاء المجرمين، فإن أزمتها الأخلاقية ستظل تتفاقم، ومؤسساتها ستبقى مجرد واجهة لشرعنة السرقة.
في النهاية، الدرس الوحيد الذي تعلمه فرنسا للعالم هو كيف تحول الجمهورية إلى عصابة منظمة، والديمقراطية إلى مزاد علني لبيع مناصب الدولة لأعلى مزايد.