آخر الأخبار

بالأرقام: أزمة فرنسا مع الجزائر تسببت لها في خسائر بالملايير

شارك
بواسطة محمد،قادري
صحفي جزائري مختص في الشأن السياسي الوطني و الدولي .
مصدر الصورة
الكاتب: محمد،قادري

فرنسا تدفع الثمن: خسائر بالملايير بسبب الأزمة مع الجزائر

الجزائرالٱن _ يُقال إن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، وما تشهده العلاقات الفرنسية-الجزائرية اليوم يؤكد هذه القاعدة بأوضح صورها. فبينما كانت باريس تراهن على أن مواقفها السياسية ستبقى محصورة في إطار الخلافات الدبلوماسية، إذا بالأرقام الاقتصادية تكشف حجم الثمن الباهظ الذي تدفعه فرنسا جراء سياستها تجاه الجزائر.

انهيار غير مسبوق في التجارة الثنائية

الأرقام الرسمية لا تحتمل التأويل: المبادلات التجارية بين البلدين تراجعت بنسبة 12.3% خلال النصف الأول من 2025، لتستقر عند 4.8 مليار أورو، فيما انهارت الصادرات الفرنسية بمعدل أشد قساوة بلغ 12.9%، محققة 2.1 مليار أورو فقط. هذه ليست مجرد أرقام إحصائية باردة، بل مؤشرات حقيقية على تآكل نفوذ اقتصادي فرنسي استغرق بناؤه عقوداً من الشراكة.

والأخطر من ذلك هو الانهيار الكارثي في قطاع المنتجات الزراعية والحيوانية، الذي شهد تراجعاً بنسبة 98.6%، مما يعكس توجهاً جزائرياً واضحاً نحو تنويع مصادر الاستيراد والابتعاد عن الاعتماد على المورد الفرنسي التقليدي.

القمح الفرنسي يفقد عرش الجزائر

قناة BFMTV الفرنسية أوضحت أن النصف الأول من 2025 شهد تراجعًا حادًا في مبيعات القمح الفرنسي إلى الجزائر، التي كانت حتى وقت قريب زبونًا رئيسيًا لموانئ روان وسيت. تقارير القطاع تشير إلى أن توقف الطلب الجزائري كبّد القطاع الفرنسي خسائر تقدر بحوالي 250 مليون أورو هذا الموسم، في ظل انخفاض الصادرات خارج الاتحاد الأوروبي إلى 3.5 مليون طن متري فقط، وهو أقل مستوى يُسجل هذا القرن.

هذا التراجع لم يحدث في فراغ، بل جاء نتيجة طبيعية لتوجه الجزائر نحو موردين جدد، وفي مقدمتهم روسيا وأوكرانيا، اللتان تمكنتا من ملء الفراغ الذي تركته فرنسا. وهنا تكمن المفارقة: بينما كانت باريس تحاول ممارسة الضغط السياسي على الجزائر، إذا بها تفتح الباب على مصراعيه أمام منافسيها الاقتصاديين للاستحواذ على حصة سوقية كانت حكراً عليها.

كارثة منتجات الألبان

إذا كان انهيار قطاع القمح مؤلماً، فإن ما حدث لصادرات منتجات الألبان يمكن وصفه بالكارثة الحقيقية. تراجعت هذه الصادرات من 62.5 مليون أورو إلى 2.6 مليون أورو فقط، بنسبة انهيار بلغت 95.8%. هذا يعني أن فرنسا فقدت عملياً سوقاً كان يمثل وجهة رئيسية لمنتجاتها، خاصة حليب الأطفال ومساحيق الحليب.

هذا التراجع المدوي لا يعكس فقط خسارة مالية مباشرة، بل يشير إلى تآكل في الثقة بالمنتج الفرنسي وفقدان مواقع استراتيجية في السوق الجزائرية قد يكون من الصعب استردادها حتى لو تحسنت العلاقات السياسية مستقبلاً.

التكلفة الحقيقية للسياسة القصيرة النظر

عندما نحلل مجمل الصادرات الغذائية الفرنسية إلى الجزائر، نجد أنها تقلصت من 90 مليون أورو إلى 36.4 مليون أورو خلال عام واحد، وفقاً لبيانات الجمارك الفرنسية. هذا التراجع بأكثر من النصف يعكس حجم الخسائر المباشرة التي تتحملها الشركات والمنتجون الفرنسيون.

لكن التكلفة الحقيقية تتجاوز الأرقام المباشرة، فهناك خسائر غير منظورة تتمثل في فقدان الحصص السوقية، وتدهور علاقات الأعمال طويلة المدى، وضياع فرص الاستثمار المستقبلي. كما أن هذا التراجع يفتح المجال أمام منافسين دوليين لترسيخ أقدامهم في السوق الجزائرية، مما يعني أن استرداد هذه المواقع سيتطلب جهوداً مضاعفة واستثمارات إضافية.

دروس في التوازن بين السياسة والاقتصاد

تجربة فرنسا مع الجزائر تقدم درساً مهماً في ضرورة التوازن بين المواقف السياسية والمصالح الاقتصادية. فبينما قد تبدو بعض القرارات السياسية مبررة من منظور دبلوماسي أو داخلي، إلا أن تكلفتها الاقتصادية قد تكون أكبر بكثير مما هو متوقع.

الحالة الفرنسية تظهر كيف يمكن للخلافات حول ملفات مثل الهجرة والتأشيرات والذاكرة التاريخية والمواقف من القضايا الإقليمية أن تتحول إلى فاتورة اقتصادية مليارية. وهي تثبت أن الاقتصاد ليس مجرد قطاع منفصل عن السياسة، بل هو أداة فعالة للضغط والتأثير المتبادل.

عالم متعدد الأقطاب ونهاية عهد الهيمنة الاقتصادية

ما تشهده العلاقات الفرنسية-الجزائرية اليوم يؤكد أن السياسة الخارجية لا يمكن أن تُمارس في معزل عن اعتباراتها الاقتصادية. فرنسا، التي راهنت على أن نفوذها التاريخي والثقافي سيحميها من تداعيات مواقفها السياسية، تجد نفسها اليوم تواجه واقعاً جديداً حيث تتحول الخلافات السياسية إلى خسائر اقتصادية ملموسة.

الدرس المستفاد واضح: في عالم متعدد الأقطاب، لم تعد الدول مرغمة على القبول بالضغوط السياسية مقابل الاستفادة من الشراكات الاقتصادية. الجزائر، من خلال تنويع شراكاتها التجارية، أثبتت أن لديها بدائل، وأن الاعتماد الاقتصادي لم يعد ورقة ضغط فعالة في يد القوى التقليدية.

في النهاية، تبقى الأرقام أصدق من الخطابات السياسية، وما تكشفه اليوم من خسائر فرنسية يؤكد أن ثمن السياسة الخاطئة قد يكون باهظاً جداً على المدى الطويل.

شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا