الجزائرالٱن _ تشهد فرنسا اليوم 10 سبتمبر موجة احتجاجات ومقاطعة شاملة تحت شعار “لنغلق كل شيء”، وذلك بعد يومين من سقوط حكومة رئيس الوزراء فرانسوا بايرو يوم الاثنين الماضي. وتجري هذه التحركات في ظل فراغ حكومي كامل، حيث تركت استقالة بايرو البلاد بدون مؤسسة تنفيذية قادرة على مواجهة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، رغم مسارعة الرئيس إيمانويل ماكرون لتعيين رئيس وزراء جديد، مما يمنح الحركة الاحتجاجية زخماً إضافياً وشرعية أكبر.
مشروع الميزانية الذي غيّر كل شيء
كان في قلب الأزمة التي أدت لسقوط حكومة بايرو مشروع الميزانية المثير للجدل، والذي تضمن تقليصات مالية قاسية وصلت إلى 43.8 مليار أورو. وشملت هذه الإجراءات التقشفية المرفوضة شعبياً:
ـ إلغاء يومين من العطل الرسمية
ـ تخفيض نفقات القطاع الصحي بـ5 مليارات أورو
ـ تقليص الاستثمارات في القطاع العام
نهاية متوقعة لحكومة عاجزة
أدت هذه المقترحات إلى زلزال سياسي حقيقي، حيث اضطر بايرو في نهاية أوت للدعوة إلى تصويت على الثقة لحكومته. وكما توقعت كافة التحليلات السياسية، خسر بايرو ثقة البرلمان، مما أجبره على تقديم استقالة حكومته يوم الاثنين 8 سبتمبر، وبذلك دخلت فرنسا في أزمة سياسية جديدة بغياب حكومة فعالة.
حركة “لنغلق كل شيء”: من الاحتجاج إلى ملء الفراغ
انطلقت هذه الحركة من وسائل التواصل الاجتماعي تحت شعار “مقاطعة وعصيان وتضامن”، ويديرها حوالي عشرين شخصاً يؤكدون استقلاليتهم عن الأحزاب السياسية والنقابات التقليدية. وقد حققت دعواتهم صدى واسعاً، حيث حصل أحد منشوراتهم على أكثر من مليون ونصف مشاهدة.
استراتيجية العصيان في ظل الفراغ السياسي
مع سقوط حكومة بايرو، اكتسبت استراتيجية الحركة بعداً جديداً:
المقاطعة الاقتصادية:
ـ مقاطعة المتاجر الكبرى مثل كارفور وأمازون وأوشان
ـ سحب الأموال من البنوك الكبرى
ـ رفض الاستهلاك والدفع
ملء الفراغ السياسي:
ـ الاحتلال السلمي للأماكن الرمزية
ـ تنظيم مجالس محلية في الأحياء
ـ إنشاء صناديق دعم للمضربين
ـ التحرك كبديل للسلطة الغائبة
التاريخ يعيد نفسه بقوة أكبر
تستحضر حركة “لنغلق كل شيء” ذكريات مظاهرات “السترات الصفراء” عام 2018، لكن مع اختلافات مهمة:
نقاط التشابه:
ـ الطبيعة العفوية وغير الهرمية للتنظيم
ـ غياب القيادة المركزية
ـ الانطلاق من وسائل التواصل الاجتماعي
ـ الاستقلالية عن الأحزاب والنقابات التقليدية
الاختلافات الجوهرية:
ـ تسييس أكبر ووعي سياسي أعمق
ـ استغلال الفراغ الحكومي كفرصة للتأثير
ـ تنظيم أكثر تطوراً رغم الطابع العفوي
التركيبة السياسية للمؤيدين
يكشف استطلاع مؤسسة جان جوراس عن هوية المؤيدين:
69% صوتوا لميلنشون في انتخابات 2022
2% فقط صوتوا لماكرون
3% صوتوا لمارين لوبان
التساؤلات حول الهوية والدوافع الخفية
رغم ادعاء منظمي الحركة عدم التسييس، تثير نشأتها عدة تساؤلات:
ـ ظهر أول منشور في مايو من مجموعة “Les Essentiels France” المناهضة للحكومة
ـ حصلت على دعم مبكر من اليمين المتطرف
ـ لاحقاً، أيدتها أحزاب يسارية بقيادة ميلنشون
ـ يحذر الخبراء من احتمالية وجود تلاعب بالرأي العام من جهات قد تكون لها مصالح خارجية، خاصة في ظل الفراغ السياسي الحالي.
الاصطفاف المتردد في ظل غياب الحكومة
تتخذ النقابات الكبرى موقفاً أكثر تعقيداً الآن:
ـ خمس نقابات كبرى كانت قد وقعت عريضة ضد ميزانية بايرو (375 ألف توقيع)
ـ نقابة “سي جي تي” اليسارية تدعم التحركات
ـ معظم القيادات النقابية الأخرى تتردد في دعم حركة “تملأ فراغاً سياسياً”
السؤال الآن: هل تدعم النقابات حركة تتجاوز الاحتجاج إلى محاولة ملء الفراغ السياسي؟
تظاهرات تملأ الفراغ
مع سقوط حكومة بايرو فعلياً، تكتسب مظاهرات اليوم طابعاً مختلفاً تماماً. فبدلاً من الاحتجاج على حكومة قائمة، يملأ المتظاهرون فراغاً سياسياً حقيقياً، مما يمنح حركة “لنغلق كل شيء” شرعية إضافية ويعزز شعورهم بأنهم البديل الوحيد المتاح للتعبير السياسي.
التحدي الحقيقي للحكومة القادمة
بغض النظر عن انتماء رئيس الوزراء الجديد وطابعه العسكري، فإنه سيواجه وضعاً أكثر تعقيداً من بايرو:
ـ نفس الأزمة المالية التي أطاحت بسلفه
ـ حركة احتجاجية أثبتت قدرتها على التنظيم والتأثير
ـ شعور شعبي بأن “الشارع” بات بديلاً مشروعاً للسياسة التقليدية
ـ ضرورة إيجاد حلول غير تقشفية لأزمة حقيقية
استمرارية الأزمة الهيكلية
الحقيقة المرة أن سقوط بايرو لم يحل المشكلة الجذرية. العجز المالي الفرنسي لا يزال موجوداً، والضغوط الاقتصادية مستمرة، والحاجة لاتخاذ قرارات صعبة لا تزال ملحة. هذا يعني أن الحكومة الجديدة ستجد نفسها في دائرة مفرغة: إما اتباع نفس السياسات التقشفية المرفوضة، أو البحث عن بدائل قد تكون أكثر تعقيداً وأقل فعالية.
فرنسا أمام مفترق طرق تاريخي
تقف فرنسا اليوم أمام لحظة فاصلة في تاريخها السياسي الحديث. فبعد سقوط حكومة بايرو وفي ظل تحرك شعبي منظم يملأ الفراغ السياسي، تبدو البلاد أمام تحول جذري في طريقة ممارسة السياسة.
السؤال الكبير: هل يمكن الحكم بدون تقشف؟
التحدي الأساسي الذي ستواجهه أي حكومة جديدة هو إثبات إمكانية الخروج من الأزمة المالية دون اللجوء للتقشف المرفوض شعبياً. فإذا فشلت في ذلك، قد تجد نفسها تواجه نفس مصير حكومة بايرو، وربما حركات احتجاجية أقوى وأكثر تنظيماً.
“لنغلق كل شيء”: نموذج جديد للمعارضة؟
قد تكون حركة “لنغلق كل شيء” بداية لحقبة جديدة في السياسة الفرنسية، حيث تصبح الحركات الشعبية العفوية أداة ضغط دائمة، قادرة ليس فقط على إسقاط الحكومات، بل أيضاً على ملء الفراغ السياسي الناتج عن سقوطها.
إن نجاح هذه الحركة اليوم – حتى في ظل غياب الهدف الأصلي (حكومة بايرو) – قد يؤسس لنموذج جديد من المعارضة السياسية في فرنسا، نموذج لا يكتفي بالاحتجاج بل يسعى لأن يكون بديلاً فعلياً للسلطة التقليدية.