■ “ من لا يكتب تاريخه، يُكتَب له… ومن لا يدافع عن ذاكرته، تُصادر منه.”
الجزائر الآن _ خلّفت تصريحات وزير الاتصال الجزائري محمد مزيان، التي تناول فيها جذور طبق الكسكس، حالة ارتباك غير مسبوقة داخل الأوساط السياسية والإعلامية في المغرب، بعد أن فجّر المسؤول الجزائري “طابو ثقافيًا” ظل لسنوات بعيدًا عن النقاش الرسمي في الرباط: من يملك الإرث الحقيقي لهذا الطبق المغاربي العريق؟
■ جدل يتجاوز الطبق إلى معركة سرديات
في جوان 2025، لم يكن خطاب محمد مزيان مجرّد موقف عابر.
الرجل تحدث بلغة واثقة وموثّقة، مستندًا إلى أدلة أثرية ومراجع تاريخية رصينة، ليؤكد أن الكسكس نشأ في الجزائر، وتحديدًا في أرض نوميديا، مدعومًا بما اكتُشف في مدن مثل سوق أهراس، تيمقاد وهيبون.
وأعاد إلى الواجهة صورًا من أرشيف ثلاثينيات القرن الماضي، حيث كانت مطاعم مراكش وفاس والصويرة تروج لوجبات “الكسكس الجزائري” كمنتج فاخر في زمن الحماية الفرنسية.
ردود الفعل في المغرب لم تتأخر، فالموضوع تحوّل إلى قضية وطنية وصلت إلى قبة البرلمان، وسط تغطية إعلامية استثنائية من القنوات والصحف المحلية، وهو ما فُسّر في الجزائر على أنه حالة إنكار وهروب من مواجهة الحقيقة التاريخية.
■ حقائق تصطدم بأسطورة مغربية
الكسكس، بالنسبة للمغاربة، جزء من رواية رمزية تم الترويج لها عالميًا باعتباره طبقًا “مغربيًا أصيلاً”، لكن تصريحات مزيان كسرت هذه الرواية حين قالها صراحة: “الكسكس وُلد في الجزائر، ومعه أدواته، ومَن يحاول السطو عليه يُزوّر الذاكرة الجماعية لشمال إفريقيا.”
تصريحات الوزير الجزائري أعادت الاعتبار لأسماء غابت عن السردية الرسمية المغربية، مثل المؤرخ الفرنسي دينيس سيار، وعالم الأنثروبولوجيا مارسو غاست، والمؤرخ شارل أندري جوليان، الذين أجمعوا على أن الكسكس جزء من الثقافة الجزائرية الممتدة منذ العهد النوميدي، كما وثّق ليون الإفريقي (حسن الوزان)، في كتاباته، عادات سكان الجزائر في تحضير هذا الطبق.
■ جزائري يعمّق الحجة: “الكسكس، جذور وألوان الجزائر”
في خضم هذا الجدل، جاء إصدار الباحثة الجزائرية ياسمينة سلام لكتابها الجديد “الكسكس، جذور وألوان الجزائر” ليمنح النقاش بعدًا أكاديميًا عميقًا. الكاتبة لم تكتف بسرد الرواية الشعبية، بل اعتمدت على مراجع تاريخية وأثرية موثوقة، أبرزها أعمال المؤرخين الفرنسيين دينيس سيار وشارل أندري جوليان، إضافة إلى توثيقها لعادات الزناتيين وسكان الجنوب الجزائري الذين كانوا أول من عرف الكسكس بمكوناته وتقنياته، قبل أن تنتقل هذه الثقافة إلى شمال إفريقيا.
الكتاب قدّم قراءة تحليلية دقيقة لنشأة الطبق ضمن المجال الجغرافي النوميدي، وربط بين الأدلة الأثرية –كالأواني الفخارية المستخدمة في طهي الكسكس والتي وُجدت في مواقع تعود للعهد النوميدي– وبين الاستمرارية الاجتماعية للطبق في الثقافة الجزائرية. كما خصصت سلام فصولًا تناولت فيها محاولات السطو المغربي على الطبق، وتسجيله دوليًا ضمن إطار تعاوني مغاربي، رغم غياب أي إثبات تاريخي مغربي مستقل.
العمل أضاف سندًا مرجعيًا قويًا لتصريحات الوزير مزيان، وفتح الباب لمزيد من إعادة قراءة التراث من زاوية علمية ووطنية، ما دفع مراقبين إلى اعتبار الكتاب بمثابة ردّ مؤسّس ومبني على حجج علمية ضد محاولات المصادرة الثقافية.
■ ما لا يريد المغرب الاعتراف به
الجزائر لا تكتفي بالكلام، بل تملك ما تسنده به: أوانٍ أثرية شبيهة بتلك المستخدمة اليوم في طهي الكسكس، عُثر عليها في مقابر نوميدية تعود إلى ما قبل ميلاد الملك ماسينيسا بثلاثة قرون، إضافة إلى أكثر من 300 نوع محلي من الكسكس تختلف في الذوق والطريقة حسب المنطقة.
أما المغرب، فرغم محاولته تسجيل الكسكس باسمه لدى اليونسكو سنة 2018، فإنه لا يملك –حسب المختصين– أي وثيقة أثرية أو مرجع علمي يمكن أن ينسب إليه نشأة هذا الطبق.
■ إرث حضاري أم مادة للصراع؟
بالنسبة للجزائريين، الكسكس ليس مجرد طبق بل جزء من هوية ضاربة في القدم، تُحيا كل جمعة، وتُقدم في المناسبات الحزينة والفرحة، كرمز للتكافل والتقاليد. هذا البعد الاجتماعي، إلى جانب التاريخ الصناعي –كما في معمل “ميزون ريتشي” بالبليدة سنة 1853 الذي بدأ تصدير الكسكس إلى أوروبا– يضع الجزائر في موقع يصعب الطعن فيه حين يتعلق الأمر بأصل هذا الطبق.
■ تصريحات مزيان أخرجت المغرب عن صمته
في وقت بقي فيه الملف محصورًا في الردود الأكاديمية، جاءت تصريحات محمد مزيان لتُحدث زلزالًا في الرباط، وتحولت فجأة إلى موضوع نقاش برلماني وقلق رسمي، ما يعكس –حسب مراقبين جزائريين– “مدى حساسية النظام المغربي تجاه كل ما يُعيد ترتيب أولويات السردية الثقافية في شمال إفريقيا”.
■ الذاكرة مستمرة
معركة الذاكرة مستمرة … معركة يبدو أن الجزائر باتت تخوضها اليوم بلغة جديدة: لغة الأدلة، لا المجاملات.”
وهكذا، لم يكن الكسكس مجرد طبق، بل مرآة لمعركة سيادة رمزية تُخاض فوق موائد الذاكرة.
والجزائر، التي حرّرت أرضها بالبندقية، تبدو اليوم عازمة على تحرير سرديتها بالوثيقة.
وبالتالي خاتمة القول بحسب المتابعين أن وزير الاتصال الدكتور محمد مزيان طبق المقولة الشهيرة التي تقول “من لا يكتب تاريخه، يُكتَب له… ومن لا يدافع عن ذاكرته، تُصادر منه.”