_ كيف تحولت معاشات العمال الجزائريين إلى ورقة انتخابية في فرنسا الشعبوية؟
الجزائر الآن _ بينما يتخبط نظام التقاعد الفرنسي في أزماته المتلاحقة، وجد اليمين المتطرف ضالته القديمة–الجديدة في الجزائر، مستغلًا تقريرا صادرا عن مجلس المحاسبة يتحدث عن “احتيال” مزعوم في ملفات المتقاعدين الجزائريين.
التقرير قدر الخسائر السنوية بما يصل إلى 80 مليون يورو، وهي أرقام تم تضخيمها إعلاميا وسياسيا، في محاولة لإعادة صياغة ملف إنساني–اجتماعي في شكل قضية “أمن مالي” تهدد الاستقرار الداخلي لباريس.
لكن وبحسب عدد من المتابعين ، خلف هذه الأرقام المعلنة المبالغ فيها، تقف رواسب استعمارية لا تزال تؤطر علاقة فرنسا بجالياتها المغاربية، خاصة الجزائرية منها.
فمنذ الاستقلال سنة 1962، ظل ملف معاشات المتقاعدين الجزائريين واحدا من القنابل الصامتة التي تتفجر كلما ارتفعت حرارة النقاشات السياسية، خاصة في مواسم تصاعد الخلافات وإقتراب مواعيدالانتخابات.
واليمين المتطرف الفرنسي ، في كل مرة، يعيد تشغيل الأسطوانة نفسها: اتهام الجزائري بـ”الاحتيال”، دون الالتفات إلى تاريخه ومساهمته في بناء الاقتصاد الفرنسي من قلب المناجم والمصانع والمرافئ.
لم يتأخر البرلماني أورليان دوترمبل، عن حزب “التجممع الوطني”، في اقتناص اللحظة، مطالبا بتعليق معاشات تحول نحو الجزائر، ومقترححا التوسع في استخدام تقنيات التعرف البيومتري على المتقاعدين، وكأن الجزائر تحولت إلى مختبر مفتوح لتجريب أدوات المراقبة الرقمية الفرنسية.
هذا الطرح، الذي يسوّق إعلاميا بغطاء “تقني”، يخفي في جوهره نزعة استعمارية جديدة تعتبر الجزائريين تحت اشتباه دائم، وتعاملهم كـ”مشتبه فيهم” حتى تثبت براءتهم البيومترية.
لكن دوترمبل، كغيره من رموز اليمين المتطرف، تجاهل حقيقة بديهية: من يتقاضون هذه المعاشات ليسوا طفيليين ولا “شبكات نصب عابرة للمتوسط”، بل هم عمال سابقون قضوا زهرة أعمارهم في المناجم، والورشات، والمصانع، وساهموا في إنعاش اقتصاد فرنسي خرج من الحرب مفلسا وجريحا. هؤلاء ليسوا عبئا، بل جزء من رأس المال البشري الذي شيد البنية التحتية لفرنسا الحديثة.
و بحسب ذات المتابعين فإن المفارقة المرة أن التقنية هنا لا توظف لتحقيق العدالة، بل لتأمين التمييز.
فالهدف من خلفية هذا الطرح ليس “محاربة الاحتيال” بقدر ما هو تغذية سردية عنصرية تقدم الجزائري كرمز دائم للتهديد، وكأن حرب الاستقلال لم تنتهِ بعد، بل تحولت إلى صيغ رقمية أكثر نعومة، وأكثر خبثا.
وإذا كانت فرنسا تشهر اليوم ورقة “الاحتيال” في وجه المتقاعدين الجزائريين، فإنها في المقابل تواصل غض الطرف عن التمييز الذي مارسته لعقود ضدهم، بدءا من الفجوة الصارخة في قيمة المعاشات بين الذين اختاروا البقاء في فرنسا، وأولئك الذين قرروا العودة إلى الجزائر بعد سنوات من الخدمة.
فالمقيم في باريس يتقاضى معاشا كاملا يحتسب وفق معايير التضخم وغلاء المعيشة، بينما يجبر المتقاعد المقيم في قسنطينة أو وهران أو تيزي وزو على القبول بنصف معاشه الحقيقي و القاونوني تقريبا من ، فقط لأنه لا يعيش داخل التراب الفرنسي.
هذا ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد ،بل أن الأرامل الجزائريات، اللواتي فقدن أزواجا خدموا لسنوات طويلة في فرنسا، يحرمن من نفس الحقوق التي تحصل عليها نظيراتهن الفرنسيات، في خرق واضح لمبدأ المساواة أمام القانون، ولاتفاقيات دولية تضمن عدم التمييز في الحقوق الاجتماعية على أساس الجنسية أو الإقامة.
ذات المتابعين يرون إن هذا النظام، الذي يمعن في معاقبة الجزائري على اختياره العودة لبلده، يعبر عن رؤية استعمارية قديمة لم تتغير ترتكز على أن : من يخدم فرنسا يكافأ فقط إذا ظل تحت سقفها، أما إن قرر العودة إلى أرضه، فيعامل كمواطن من درجة ثانية أو ثالثة ، لا كعامل سابق يستحق التقدير.
المسألة، بحسب ذات المتابعين في جوهرها، لم تكن يوما تقنية أو مالية بحتة. معتبرين بأنه حين يفتح هذا الملف في هذا التوقيت بالذات، وداخل مناخ مشحون بارتفاع أسهم اليمين المتطرف وتنامي الخطاب الشعبوي ، فإن الهدف يصبح واضحا: تعبئة الغرائز الانتخابية من خلال خلق “عدو رمزي” يحمل مسؤولية فشل السياسات الاجتماعية الفرنسية.
لقد تحولت قضية معاشات الجزائريين إلى وقود ضمن ما يمكن تسميته بـ”اقتصاد العداء”، حيث يتم استثمار مشاعر الخوف والغضب في توجيه الرأي العام بعيدا عن الفشل الحقيقي في إصلاح نظام التقاعد، أو معالجة اختلالات سوق العمل، أو ضمان العدالة الجبائية. وفي هذا السياق، يصبح الجزائري–مرة أخرى–كبش فداء مثالي، يحمل وزرا رمزيا عن أزمة صنعها الساسة، لا المتقاعدون.
بدوره و تماشيا مع ذات السباق ،فان الإعلام الفرنسي، خاصة اليميني منه، لعب دورا مركزيا في تضخيم الأرقام وتسويق خطاب الشك، دون مساءلة المعايير المزدوجة أو التحقق من خلفيات التقارير بحسب عدد من المصادر المتابعة لهذا الملف تحدثت إليهم صحيفة “الجزائر الآن ” الالكترونية.
_ هكذا تتحوّل قضية اجتماعية إلى أداة لإعادة إنتاج خطاب سياسي مبني على الإقصاء والاشتباه، في مشهد يعكس عمق الأزمة الأخلاقية داخل النخبة السياسية الفرنسية.
الأدهى بحسب ذات المصادر فإن المتقاعدين الجزائريين، الذين يُشكك في مصداقيتهم اليوم، لم ينصفوا حتى في الذاكرة الجماعية الفرنسية. آلاف المجنّدين الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية وحرب الهند الصينية وحرب الجزائر، تم تجاهلهم بشكل ممنهج، لا فقط على مستوى التكريم الرمزي، بل حتى في الحقوق المادية.
فمباشرة ،بعد استقلال الجزائر، تمّ تجميد معاشات هؤلاء “الجنود المستعمرين” بموجب قرارات إدارية جائرة، استمرت لعقود، ونتج عنها تدهور معيشي حاد لهؤلاء الذين وضعوا حياتهم لبقاء باريس ، دون أن تنظر إليهم فرنسا يوما كمواطنين كاملين. لم تُطبق عليهم زيادات المعاشات التي استفاد منها نظراؤهم الفرنسيون، وبقوا سنوات يتقاضون فتاتا لا يكفي حتى لضمان الكرامة. بل إن بعضهم دفن في صمت، دون أن يحضر أي ممثل رسمي لجنازته، وكأنهم حملوا السلاح من أجل دولة تفضلت عليهم بالتجنيد، لكنها أنكرتهم في السلم بعد أن استخدمتهم في الحرب.
الهجوم المتجدد على معاشات الجزائريين ليس استثناء عابرا، بل هو امتداد لنظرة استعمارية لم تنكسر بالكامل، مهما تغيرت الأقنعة أو تبدلت الخطابات. لا يزال الجزائري يرى في المخيال السياسي الفرنسي كـ”مستفيد زائد”، لا كشريك في التاريخ والعمل و البناء و التضحية. وما يُقدّم اليوم كـ”مراجعة تقنية” أو “إصلاح مالي”، هو في جوهره مشروع إيديولوجي قديم، يعاد تسويقه بلغة جديدة: لغة الأرقام، والتقنيات، والاشتباه المنهجي.
هذا و بدل أن تفتح فرنسا ملفات الماضي بشجاعة، وتعترف بما سلب من الجزائريين في زمن الاستعمار وبعده، فإنها تختار طريقا أسهل: ترحيل الأزمة إلى الخارج و بالخصوص إلى الجزائر ، وتصدير فشلها الاجتماعي نحو الجنوب عموما، نحو الآخر، نحو من لا صوت له في الإعلام الفرنسي .
السؤال الذي يطرح اليوم ليس عن حجم “الاحتيال”، بل عن حجم النفاق السياسي في بلد يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان والمساواة، بينما يطارد المتقاعدين بعيون بيومترية، ويشكك في نزاهة من أفنوا أعمارهم في خدمته.
هل يعقل أن تحاسب الدولة من خدمها بشرف، وتكافئهم بالاتهام والإقصاء بدلا من التكريم؟
إنه سؤال لا يُطرح على الجزائريين، بل على فرنسا نفسها: أي ذاكرة تريد أن تحتفظ بها، وأي قيم تريد أن تحميها؟