الجزائرالٱن _ نشرت مجلة “لوبوان” الفرنسية مؤخرًا تقريرًا مطولًا تناول ما سمّته “أسرار اتفاقيات الجزائر لعام 1968″، مدّعية أنّها كانت نتيجة لضغوط جزائرية، ومقدمة على أنّها منحت امتيازات خاصة للنخبة الجزائرية دون مبرر واضح. وبالاعتماد على وثائق من الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي، حاولت المجلة إعادة قراءة تلك المرحلة، لكنّها وقعت في فخ تكرار الخطاب الاستعماري، بصيغة أرشيفية قديمة جديدة.
1ـ الهجرة ليست استغلالًا بل حق تاريخي
زعمت المجلة أنّ الجزائر “استغلت” بنود اتفاقيات إيفيان 1962 التي ضمنت حرية تنقل الأشخاص من الجزائر إلى فرنسا، لتبرر توافد عشرات الآلاف من الجزائريين إلى التراب الفرنسي في الستينيات. غير أنّ هذا الطرح يتجاهل السياق الحقيقي لتلك الاتفاقيات، والتي جاءت في أعقاب حرب تحريرية عنيفة، أسفرت عن اعتراف فرنسا بحق الجزائر في الاستقلال. حرية التنقل حينها لم تكن منحة فرنسية، بل بندًا تفاوضيًا في سياق تصفية استعمار.
كما أنّ اليد العاملة الجزائرية لم تكن عبئًا على الاقتصاد الفرنسي، بل موردًا استراتيجيًا ساهم في بناء ما بعد الحرب، خاصة في قطاعات البناء والمناجم والخدمات. الحديث عن الاستغلال هنا قلب للمعادلة وتجاهل مقصود للأرقام الاقتصادية.
2 ـ اتفاقيات 1968 لم تكن منحة بل مفاوضات بين دولتين
تقدم “لوبوان” اتفاقيات 1968 كما لو كانت تنازلًا فرنسيًا أمام ضغوط جزائرية، وتصف منح شهادة الإقامة للعمال الجزائريين على أنّها امتياز خاص “للنخبة الجزائرية”. وهذه قراءة لا تتوافق مع حقيقة أنّ الاتفاقيات كانت ثمرة مفاوضات بين دولتين ذاتي السيادة، في إطار علاقات معقّدة بعد مرحلة الاستقلال.
الجزائر كانت بحاجة إلى تنظيم وضع جاليتها في فرنسا، في حين كانت باريس تسعى إلى تقنين الهجرة وربطها بمصالحها الاقتصادية. شهادة الإقامة، التي يتم الحصول عليها بعد تسعة أشهر من العمل، ليست هدية بل آلية لتقنين الوجود. تصويرها كتنازل فرنسي يفرغ المفاوضات من مضمونها السياسي والحقوقي.
3 ـ منطق الوصاية يعود من بوابة “الصداقة” و”السيطرة على الجالية”
اتهمت المجلة الجزائر بأنّها سعت إلى “السيطرة على الجالية” من خلال منظمة “الصداقة الجزائرية في فرنسا”، في إشارة إلى الرغبة في التأثير على المهاجرين. هذا الخطاب يكرر النظرة الاستعمارية التي ترى في الجزائري مغتربًا خاضعًا لتوجيه فوقي.
الجزائر، كغيرها من الدول، كانت تسعى لتنظيم علاقاتها مع رعاياها في الخارج. أما الحديث عن السيطرة فليس سوى إسقاط فرنسي على نوايا الطرف الآخر، في وقت كانت فيه باريس نفسها تحتفظ بشبكات تأثير ومراقبة واسعة وسط المهاجرين.
4 ـ فرنسا لم تكن مضطرة بل كانت تخطط للرقابة
تسعى “لوبوان” إلى تصوير فرنسا كطرف متسامح، شعر بالذنب من الاستعمار، وقَبِل بشروط الجزائر نتيجة “ضغط معنوي”. لكن الوثائق التي تعتمد عليها تُظهر أنّ باريس كانت تبحث عن أدوات تنظيم وتحكم، وكان هدفها الرئيسي – كما ورد صراحة – هو “السيطرة على تدفق الهجرة”.
الحديث عن حصص سنوية وشهادات إقامة وشروط اقتصادية، يُظهر أنّ فرنسا لم تُملَ عليها الشروط، بل كانت تفاوض من موقع القوة، وتسعى إلى تقييد الحركة البشرية وفقًا لمصالحها.
أرشيف بلا ذاكرة كاملة
تقرير “لوبوان”، رغم غلافه التوثيقي، لا يقدّم قراءة منصفة للتاريخ. بل يُعيد إنتاج سردية استعمارية تتحدث عن امتيازات وديون معنوية وضغوط جزائرية، لكنّها تتجاهل الأصل الحقيقي: استعمار دموي دام 132 عامًا، لا يمكن فصله عن أي مفاوضات لاحقة.
العودة إلى الأرشيف ليست مشكلة في حد ذاتها، لكن المشكلة تكمن في الانتقائية وفي إعادة تفسير الوقائع لخدمة خطاب لم يُدفن بعد. وإذا كانت “لوبوان” تسعى لفهم خلفيات اتفاقيات 1968، فعليها أولًا أن تفهم ما سبقها، لا أن تقدمها كما لو كانت تنازلات قسرية لدولة ما زالت – في أعين البعض – تحت المراقبة.