الجزائرالٱن _ في السنوات الأخيرة، برزت الجزائر كوجهة مفضلة لعدد من القوى الاقتصادية الصاعدة، وفي مقدمتها كل من الصين وتركيا، اللتين كثفتا من حضورهما الاستثماري في البلاد بشكل ملحوظ. هذه العودة القوية للاستثمارات الآسيوية – وخصوصًا الصينية والتركية – لا تعبّر فقط عن تحوّل في خريطة العلاقات الاقتصادية الجزائرية، بل تعكس أيضًا توجهًا استراتيجيًا جديدًا يهدف إلى تحقيق الاستقلالية الاقتصادية وتعزيز السيادة الصناعية.
الصين: من الشريك التجاري إلى شريك التنمية
لطالما كانت الصين الشريك التجاري الأول للجزائر من حيث حجم المبادلات، لكن خلال العامين الأخيرين، أخذ هذا التعاون منحى جديدًا وأكثر عمقًا. فقد أعلنت وزارة الصناعة عن تسجيل 42 مشروعًا صينيًا جديدًا في الجزائر بقيمة إجمالية تجاوزت 4.5 مليار دولار، أكثر من نصفها في القطاع الصناعي، في خطوة واضحة نحو نقل الخبرة والتكنولوجيا.
كما كشفت الحكومة الجزائرية عن وجود 1311 شركة صينية تنشط في البلاد، في مختلف القطاعات، بما في ذلك الأشغال العمومية، البناء، الصناعات التحويلية، والطاقات المتجددة، وهي أرقام تعكس تجذر الحضور الصيني وتطوره من مجرد ممول أو مموّن، إلى شريك فعلي في عملية التنمية.
ومن أبرز المحطات التي عكست هذا التحوّل، منتدى الأعمال الجزائري–الصيني الذي نُظّم مؤخرًا، وأسفر عن توقيع 9 اتفاقيات شراكة في مجالات الصناعة واللوجستيك والطاقة، وهي قطاعات تشكل العمود الفقري لأي نموذج تنموي سيادي.
تركيا: حليف اقتصادي من العيار الثقيل
في الجهة الأخرى، تواصل تركيا ترسيخ موقعها كشريك استثماري فعّال في الجزائر، مدعومةً بعلاقات تاريخية وتفاهم سياسي متقدم. وتفيد الإحصائيات الرسمية بأن الشركات التركية قد أنجزت مشاريع بقيمة 21 مليار دولار في الجزائر خلال السنوات الماضية، تشمل مجالات البناء، السكك الحديدية، الطرق، والإسكان، بالإضافة إلى الاستثمارات في الصناعات الغذائية والنسيج.
وتنشط في الجزائر اليوم قرابة 1400 شركة تركية، توفّر أكثر من 30 ألف منصب شغل مباشر، وهو رقم يعكس الدور المتزايد لهذه الشركات في دعم الاقتصاد الوطني وتوفير فرص العمل، خصوصًا للشباب.
ولم تقتصر الشراكة الجزائرية–التركية على الاقتصاد فقط، بل شملت أيضًا مجالات الطاقة والصناعات الدفاعية، ما يؤكد رغبة الطرفين في بناء تعاون استراتيجي طويل المدى، ينسجم مع تطلعات الجزائر نحو تنويع شراكاتها بعيدًا عن التبعية الكلاسيكية.
السيادة الاقتصادية في صلب التوجّه الجديد
أبرز ما يميّز هذا الزخم الاستثماري الصيني–التركي هو أنه يتماشى مع رؤية الجزائر الجديدة، والتي تقوم على خلق نموذج اقتصادي مستقل قائم على الإنتاج المحلي، والتقليل من الواردات، وتعزيز القدرات الصناعية الوطنية.
فخلافًا لبعض الشراكات السابقة التي اكتفت بجلب منتجات جاهزة للسوق الجزائرية، تعمل الشراكة مع الصين وتركيا على توطين المشاريع، نقل التكنولوجيا، وتكوين الكفاءات، وهي عناصر أساسية لتحقيق الاستقلال الاقتصادي الذي تسعى إليه الجزائر في إطار خارطة طريق 2030.
كما أن تنويع الشركاء الاقتصاديين يضع الجزائر في موقع تفاوضي مريح، ويمنحها هامش مناورة في سوق دولية متقلبة، لا سيما في ظل المتغيرات الجيوسياسية العالمية. فوجود شركاء استراتيجيين مثل الصين وتركيا، إلى جانب روسيا ودول عربية وآسيوية أخرى، يعزّز من توازن العلاقات الاقتصادية للجزائر ويقلّص من تأثير أي ضغوط خارجية.
الخطوة التالية: نحو تعميق الشراكة
يبقى التحدي الآن في تسريع وتيرة تنفيذ المشاريع الموقعة، وضمان تحقيق الأهداف التنموية المنشودة، خاصة في المناطق الداخلية والهضاب العليا، حيث تمثل الاستثمارات الأجنبية فرصة لتحريك الاقتصاد المحلي وخلق مناصب شغل دائمة.
ويبدو أن الآفاق واعدة، خصوصًا مع حديث مسؤولين أتراك وصينيين عن رغبة بلادهم في تحويل الجزائر إلى مركز إقليمي للإنتاج والتصدير نحو إفريقيا، وهو ما يتماشى مع موقع الجزائر الجغرافي وقدراتها البشرية والطاقوية.
ولا يمكن النظر إلى الشراكة الجزائرية–الصينية أو الجزائرية–التركية إلا باعتبارها فرصة استراتيجية لتعزيز التنمية، وتنويع الاقتصاد، وبناء صناعة وطنية قوية. إنها ليست مجرد استثمارات عابرة، بل تحالفات ناضجة ومتعددة الأبعاد تعكس انتقال الجزائر إلى مرحلة جديدة، يكون فيها القرار الاقتصادي أقرب إلى السيادة منه إلى التبعية.
وفي الوقت الذي تعاني فيه اقتصادات عديدة من الاضطراب والتبعية المفرطة، يبدو أن الجزائر اختارت طريقًا مختلفًا: طريق الشراكة المتوازنة، والاستثمار المنتج، والنمو المستدام.