آخر الأخبار

سِلْمُ الشجعان سُلّمُ الهزيمة والخذلان

شارك
بواسطة كتب "للجزائر الآن " محي الدين عميمور
كاتب جزائري شغل منصب مدير للإعلام في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين و وزير للإعلام والثقافة في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة
مصدر الصورة
الكاتب: كتب "للجزائر الآن " محي الدين عميمور

الجزائرالٱن _ بكلمة السرّ المزدوجة ذات المعني العميق “عقبة – خالد” انطلقت الثورة الجزائرية في الدقائق الأولى من ليلة أول نوفمبر 1954عبر عدة مناطق رائدة على الأرض التي كانت فرنسا تعتبرها جزءا لا يتجزأ منها (وعقبة هو عقبة بن نافع فاتح الشمال الإفريقي، وخالد هو خالد بن الوليد سيف الله المسلول، مما يبرز البعد الديني والعمق الإسلامي للثورة الجزائرية، وهو ما ظل يُزعج البعض إلى يوم الناس هذا، وسنحرص على أن يظل يزعجهم إلى الأبد.

وللعلم، فإن كلمة السر في الثورة تضم كلمتين يُتفق عليهما بين القيادات في اللحظة الأخيرة لحماية الخطوط المحاربة من الاختراق، وللتأكد من شخصية كل من يقترب منها يهمس القادم بالكلمة الأولى ويرد عليه المُدافع هامسا بالكلمة الأخرى، وأي خطأ يؤدي إلى القضاء فورا على من يتحرك نحو الآخر.

وكان عدم معرفة كلمة السرّ هو ما نُشِرَ عن استشهاد الضابط المصري العظيم “أحمد عبد العزيز” على أرض فلسطين، بعد الثامنة بقليل من مساء 22 أغسطس 1948.

انطلقت الثورة الجزائرية بشكل أذهل العدوّ الفرنسي الذي استهان بها في بادئ الأمر، كما جاء على لسان وزير الداخلية آنذاك “فرانسو متران”، لكنه راح يخطب ودها، رئيسا، بعد ذلك بعقود، وكان في الحالتين عدوا لدودا.

وتزايد لهيب الثورة واتسع مداها حتى وصلت إلى الأرض الفرنسية نفسها، وأكدت هجمات أغسطس الجبارة التي قادها الشهيد “يوسف زيغود” أنها أصبحت عاصفة لا تبقي للعدو وجودا ولا تذر، وكانت تلك الهجمات قوة دافعة دعمت الوجود الدولي للقضية الجزائرية، الذي انطلق بمؤتمر “باندونغ” في أبريل 1955.

وبفضل الوحدة الوطنية نجحت الثورة الجزائرية في مواجهة العدوّ، وتمكنت من أن تصبح رقما صعبا على الساحة الدولية، وجعلت الجمهورية الفرنسية الرابعة عبئا على الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفرنسية، خصوصا بعد الضربة الرائعة التي تلقتها بفشل العدوان الثلاثي على مصر، والذي اختارت فرنسا لقيادة مظليها في أجواء “بور سعيد” الجنرال “ماسو”، الذي عرفته منطقة الجزائر قائدا للقوات الاستعمارية فيها، وكان اختيار الجنرال مقصودا لإبراز التوافق الفرنسي الصهيوني، وهو ما فضحته كلمات “بن غوريون” عندما قال ما معناه أن انتصار فرنسا على ثوار الجزائر هو انتصار لنا على “جمال عبد الناصر”.

وهذا يُفسر سبب الجزائر واحدا من أهم ميادين العاصمة الجزائرية باسم “بور سعيد”، والذي دشنه الرئيس “أحمد بن بله” خلال زيارة الرئيس المصري للجزائر في مايو 1963 وبحضوره.

وتزداد الثورة الجزائرية اشتعالا ويتكاثر داعموها إلى درجة أن كان من بينهم المرشح الأمريكي للرئاسة السناتور “كينيدي”.

آنذاك لجأ الجيش الفرنسي إلى مُحرر فرنسا من الاحتلال النازي في الأربعينيات لكي ينقذ فرنسا نفسها من”تسونامي” الثورة الجزائرية في الخمسينيات والستينيات، وراح الجنرال “شارل دوغول” انطلاقا من 1958 يحشد كل طاقته العسكرية لسحق الثورة الجزائرية.

ويؤكد التاريخ أن أصعب مراحل الثورة الجزائرية وأكثرها توحشا وتدميرا كانت في عهد دوغول، ويتذكر الجزائريون أن مذابح مايو 1945 التي سقط فيها خلال نحو أسبوع واحد أكثر من 40 ألف شهيد كانت خلال رئاسته للحكومة الفرنسية بعد سقوط برلين.

ومع فشل العمليات العسكرية أمام الصمود الجزائري وازدياد عنفوان الثورة راح الرئيس الفرنسي يجرب سلاح الرشوة الاقتصادية الاجتماعية، فخرج بما يُسمّى “مشروع قسنطينة”، وعندما فشل في ذلك أيضا وصل إلى الاستنتاج النهائي بما همس به لبعض خلصائه ليصل إلى الأقدام السوداء على الجانب الآخر من المتوسط قوله: عليهم أن يدركوا أن جزائر “بابا” قد انتهت إلى الأبد (مذكرات دوغول – الجزء الرابع ص 84)

لكن الجنرال لم يتوقف عن ممارسة الخداع، وهو بيت القصيد من هذا الحديث.

ففي صباح 23 أكتوبر 1958 فاجأ ديغول الجزائريين والفرنسيين على حد سواء، بإعلان مقترح وجّهَه للثوار أسماه “سٍلم الشجعان” (LA PAIX DES BRAVES) دعاهم فيه للنزول من الجبال وإلقاء سلاحهم مقابل الصفح عنهم.

وقال في ندوة صحفية من باريس وهو يتحدث عن الأوضاع في الجزائر، وهو ما كرره في مذكّراته: “أقول من دون لُبس، إن أغلب رجال الثورة قد قاتلوا بشجاعة (كثر خيرك !!!) وإنني على ثقة بأنه لمّا يأتي سلم الشجعان ستُمحى الأحقاد”.

وأضاف موضّحا ما يعنيه بسلم الشجعان: “إنني أتكلم عن سلم الشجعان، فماذا نعني به؟.

ببساطة هو أن يوقِف إطلاقَ النار أولئك الذين فتحوا النار (!!) وأن يعودوا إلى عائلاتهم وعملهم من غير إذلال”.

وبنفس البساطة التي تكاد تكون آسرة يُخدع بها البسطاء شرح ديغول للثوار الطريقة التي ينزلون بها من الجبال وتساءل :

“يقال لي، ولكن كيف يمكنهم ترتيب نهاية المعارك؟

أجيب: هناك، حيث هم مُنظّمون من أجل الكفاح، يمكن لرؤسائهم أن يتصلوا فقط بقيادة القوات الفرنسية في الجزائر، فالحكمة العسكرية المتبعة منذ زمن بعيد، تقضي بأنه لما يراد توقيف صوت السلاح ترفع الراية البيضاء (أي والله) وفي هذه الحالة سيُستقبل المقاتلون ويعاملون معاملة مشرفة”.

وما أشبه اليوم بالبارحة.

أليس هذا هو بالضبط ما يُطلب اليوم من المقاومة الفلسطينية “ارتكابه”، بل هو أكثر سوءًا من ذلك …لأن دوغول كان أكثر ذكاء وأقل حماقة ممن يقودون الكيان الصهيوني اليوم، بل وممن يتحدثون باسمه ويعبرون عن توجهه وينفذون إرادته، فقد بدا دوغول، وبرغم كل شروره وجرائمه، خصما شريفا لا يخلف وعدا ولا ينقض عهدا، بعكس نفايات موسى عليه السلام، الذين جادلوا رب العزة في بقرة، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.

ولعلّ الفرق الوحيد المخزي والمؤسف والمقرف والمستفز هو أن اقتراح النسخة الهزيلة لما عرضه الرئيس الفرنسي لا يصدر عن العدوّ الإسرائيلي بل عن الشقيق العربي، الذي ترك أطفال غزة للجوع والبرد ثم لليتم، وأعطى قاتلهم الفرصة لاستكمال جريمته بكل أريحية، وأكثر من ذلك، تعفف عن استعمال تعبير “الشجعان” الذي استعمله دوغول حتى لا ينزعج السفاح الصهيوني وداعمه الأكبر، بلطجي واشنطن.

ولأن ثوار فلسطين فيما أعرف يعتبرون الثورات الشعبية الحقيقية، والثورة الجزائرية في المقدمة، رائدهم وقدوتهم، أذكّر بأن ثوار الجزائر تعاملوا مع عرْض ديغول على أنه خديعة، وفي ظرف يومين اثنين، وبعد التشاور مع القيادات الميدانية، فإن رئيس الحكومة المؤقتة “فرحات عباس” (ولا علاقة له بعباسٍ الذي تعرفون) قال: ما يقترحه الجنرال ليس تفاوضا إنما هو استسلام مشروط”.

ويستمر القتال، وفي الوقت نفسه تنطلق المفاوضات بين الجزائر وفرنسا بدون إلقاءٍ للسلاح وبدون كشفٍ لمواقع القوات، وبدون وسيط لا يفكر إلا في حساباته الشخصية وحجم ما يتلقاه من دولارات، وكان المثل الرائع الذي ضربه كريم بلقاسم وزملاؤه المفاوضون أنهم لم يصافحوا الوفد الفرنسي طوال مرحلة المفاوضات، ولم تلتق أكفّهم بأكفّ أعضائه إلا بعد التوقيع على محادثات “إيفيان” وقبول فرنسا للشروط الجوهرية الجزائرية.

ويكون الدرس الذي لا يُنسى: احذر عدوّك مرة واحذر “غيرَ عدوك” ألف مرة، ويظلّ تعبير “سلم الشجعان” على لسان العدوّ ومن يتحدث باسمه ويعبر عنه، ولو تغيرت ألفاظه، وهمٌ يصدقه البسطاء ويروج له السماسرة ويقبله الجبناء.

وحاشا لأحفاد القسام ورفاق السنوار أن يكونوا كذلك.

آخر الكلام: لم يُخيّب “النتن” ما يُتوقع معه، فقد أخلّ بالاتفاق ولم يُفرج عن السجناء الفلسطينيين، فكيف يكون الأمر إذا ألقت “حماس” السلاح كما يريد وسطاء الندامة؟

شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا