في لحظة إقليمية شديدة التعقيد، تعود موسكو ودمشق إلى واجهة المشهد السياسي، ولكن هذه المرة بلغة مختلفة وأدوات أكثر حذرًا. زيارة سورية رفيعة المستوى إلى العاصمة الروسية تفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول طبيعة المرحلة المقبلة وحدود التحول في العلاقات بين الطرفين، وسط توازنات دولية متشابكة وضغوط إقليمية متصاعدة.
فهل نحن أمام إعادة تموضع استراتيجي أم شراكة براغماتية تفرضها الوقائع؟
هذا التقرير يقرأ بعمق ملامح العلاقة السورية–الروسية كما يراها محللون، ويكشف دلالات الانفتاح المتبادل في زمن ما بعد الحرب.
دبلوماسية التوازن كمدخل للعلاقات الخارجية
يؤكد محلل الشؤون السورية في سكاي نيوز عربية علي جمالو، أن مقاربة الإدارة السورية الجديدة للعلاقات الخارجية تقوم على مفهوم "الدبلوماسية المتوازنة"، وهو المفهوم الذي طُرح منذ الأيام الأولى لتسلّم الرئيس أحمد الشرع مهامه.
ويعني ذلك، وفق جمالو، أن دمشق لا تسعى إلى الارتهان لأي محور دولي، بل إلى فتح قنوات تواصل وعلاقات مع مختلف الأطراف، بما يخدم مصلحة الدولة السورية وإعادة بنائها، بعيداً عن منطق الوصاية أو التبعية.
وفي هذا السياق، يوضح جمالو أن العلاقة مع موسكو لا تأتي على حساب العلاقات مع واشنطن أو أنقرة، بل تندرج ضمن رؤية أوسع تقوم على الانفتاح المتوازن، مشدداً على أن سوريا "لا يمكن أن توضع في جيب أحد"، وأنها تسعى إلى بناء علاقات طبيعية مع الجميع وفق منطق المصالح المتبادلة.
ما الذي تريده دمشق من موسكو؟
بحسب جمالو، فإن المطلب الأساسي لدمشق من موسكو يتمثل في الدعم السياسي، ولا سيما في ما يتعلق بالتأكيد الروسي على وحدة الأراضي السورية ورفض أي مشاريع تقسيم.
ويعتبر هذا الموقف، وفق تعبيره، مؤشراً بالغ الأهمية في مرحلة تشهد تداولا واسعا لأخبار ومشاريع، بعضها مضلل، تتناول مستقبل الجغرافيا السورية.
كما يشير إلى أن الملف العسكري يشكل أحد محاور النقاش، لكون الكتلة الأساسية من تسليح الجيش السوري ذات منشأ روسي، رغم تدمير جزء كبير منها خلال السنوات الماضية.
ويرى جمالو أن الحديث لا يدور عن صفقات تسليح كبرى، بل عن ترميم ما تبقى من المنظومات العسكرية، ولا سيما تفعيل شبكات الدفاع الجوي، في ظل استمرار الانتهاكات الإسرائيلية للأجواء والأراضي السورية.
ما الذي تريده موسكو من دمشق؟
في المقابل، يرى جمالو أن موسكو تسعى إلى الحفاظ على حضورها الاستراتيجي "المريح" في شرق المتوسط، من خلال تثبيت الاتفاقات الموقعة سابقاً، ولا سيما المتعلقة بالقواعد العسكرية، من دون إعادة النظر فيها، رغم إقرارها بأنها وُقعت في ظروف غير طبيعية.
ويضع هذا التوجه في إطار المصالح الجيوسياسية الروسية، خصوصاً في ظل سعي موسكو الدائم للوصول إلى "المياه الدافئة".
ويضيف أن العلاقات الروسية التركية، التي وصفها بأنها في أعلى درجات التنسيق، تلعب دوراً محورياً في تسهيل هذا المسار، معتبراً أن تركيا باتت بوابة رئيسية للمصالح الاقتصادية والعسكرية والمالية الروسية، ما ينعكس إيجاباً على العلاقة بين دمشق وموسكو.
ملف الأسد والعدالة الانتقالية
ويتوقف جمالو عند أحد أكثر الملفات حساسية، والمتعلق بمصير الرئيس السوري السابق بشار الأسد. ويقرّ بأن هذا الملف يشكّل إحراجاً للإدارة السورية الجديدة، لكنه يؤكد في الوقت ذاته أنه لا يمكن تجاهله.
ويرجّح أن يكون قد طرح خلال الزيارة، ولو بعيداً عن الإعلام، مشيراً إلى أن موسكو تتعامل مع الأسد بوصفه لاجئاً سياسياً، بينما تنظر إليه قطاعات واسعة باعتباره متهماً بجرائم جسيمة.
الجولان والسيادة الوطنية
ويصف جمالو الإقرار الروسي بسيادة سوريا على الجولان ورفض شرعية الاحتلال الإسرائيلي بأنه "مفتاح الحكاية"، مشيراً إلى وجود أساس قانوني دولي متين في هذا الملف، مدعوم بقرارات أممية واضحة.
ويرى أن هذا الموقف الروسي يشكّل أحد أبرز دوافع دفء العلاقات، رغم الدور الذي لعبته موسكو خلال سنوات الحرب.
انفتاح محسوب في بيئة إقليمية معقدة
ويشير جمالو خلال حديثه إلى أن الولايات المتحدة لا تضع فيتو على انفتاح دمشق على موسكو، طالما أن الإدارة الجديدة تركّز على إعادة بناء الدولة وتجنب الاشتباك مع المحيط.
وفي ظل استمرار محاولات إسرائيل استثمار بؤر التوتر داخل سوريا، يخلص إلى أن التوجه السوري الجديد يقوم على تحييد الملفات الشائكة، وفتح مسارات تفاوضية، في إطار مقاربة سياسية براغماتية تعكس تحولاً واضحاً في إدارة العلاقات الإقليمية والدولية.
براغماتية تحكم المسار الجديد
من جهته يقدّم الكاتب و الباحث السياسي يفغيني سيدروف قراءة تقوم على توصيف العلاقات الروسية-السورية بوصفها علاقات براغماتية خالصة في مرحلتها الراهنة، بعد أن كانت قائمة في السابق على اعتبارات سياسية واستراتيجية أوسع.
ويرى أن دمشق تسعى اليوم إلى تحقيق توازن دقيق في علاقاتها الخارجية، بين روسيا و الصين من جهة، والدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة من جهة أخرى.
غير أن هذا التوازن لا يلغي، وفق سيدروف، حقيقة الحاجة السورية الموضوعية إلى روسيا في قطاعات متعددة، بحكم ارتباط تاريخي طويل شمل التقنيات والخدمات والمشاركة في المشاريع الاقتصادية.
الإرث المؤسسي وعمق الارتباط
يشير سيدروف إلى أن أي طرف دولي يسعى اليوم للدخول بقوة إلى الساحة السورية سيواجه تعقيدات واقعية، لأن السوريين اعتادوا، على مدى عقود، التعامل مع روسيا في مختلف المجالات.
ويعزّز هذا الواقع وجود أعداد كبيرة من خريجي الجامعات الروسية داخل سوريا، ما يجعل العامل البشري والمعرفي جزءاً أساسياً من معادلة التعاون، ويؤثر مباشرة في تحديد أولويات موسكو ودمشق على حد سواء.
البعد العسكري وحساسية القواعد
لا ينفي سيدروف استمرار الارتباط العسكري بين البلدين، سواء في الحاضر أو المستقبل، مشيراً إلى توريدات السلاح الروسية السابقة إلى دمشق، وإلى حساسية ملف القاعدتين الروسيتين في اللاذقية و طرطوس.
ويؤكد أن المعلومات المتوافرة حول مستقبل هاتين القاعدتين شحيحة، إلا أن المنطق، بحسب تقديره، يفترض حاجة سوريا إلى الخبرة الروسية في إعادة تأهيل الأسلحة، وإلى الخبراء الذين اعتادوا العمل ضمن الجيش السوري وفق التعاقدات السابقة بين الحكومتين.
تعاون يتجاوز السلاح
يشدد سيدروف على أن التعاون الروسي السوري لا ينبغي اختزاله في المجال العسكري فقط، إذ توجد حاجة متبادلة لتطوير العلاقات في قطاعات الطاقة والتجارة ومجالات اقتصادية متعددة، في الحاضر والمستقبل.
غير أن تحقيق هذا المسار، برأيه، يتطلب قبل كل شيء توافر إرادة سياسية سورية واضحة، مؤكداً أن روسيا تبدو مستعدة لمثل هذا التعاون غير المحصور بالشق العسكري.
روسيا وإسرائيل.. مفارقة النفوذ
يتوقف سيدروف عند إمكانية أن تمارس موسكو ضغطاً على إسرائيل، معتبراً أن اللحظة الراهنة قد تكون مناسبة لذلك. ويصف المشهد بمفارقة لافتة، إذ إن إسرائيل، التي شهدت علاقاتها مع روسيا تراجعاً في السنوات الأخيرة، باتت اليوم بحاجة موضوعية إلى الحضور الروسي في سوريا.
ويعزو ذلك إلى حرص تل أبيب على الحد من النفوذ التركي المتزايد، والذي كان يُنظر إليه سابقاً بوصفه المستفيد الأكبر من سقوط النظام السابق، قبل أن تشير التطورات الإقليمية والدولية إلى تراجع تدريجي في دور أنقرة.
القواعد بوظائف جديدة ومستقبل مشروط
يرى سيدروف أن دور قاعدتي حميميم وطرطوس قد يتغير ليشمل مهام مختلفة عن السابق، لافتاً إلى تلميحات روسية حول إمكان استخدامهما في مكافحة القرصنة البحرية وأغراض تجارية وأمنية متعددة، إضافة إلى تطوير العلاقات عبر الطرق البحرية.
لكنه يقرّ في المقابل بأن هذا المسار معقّد حالياً، بفعل استمرار النزاع الأوكراني. ومع ذلك، يخلص إلى أنه في حال تسوية هذا النزاع عاجلاً أم آجلاً، يمكن النظر بتفاؤل إلى مستقبل التعاون الروسي-السوري، بما يحافظ على المكانة الاستراتيجية لموسكو داخل سوريا.
المصدر:
سكاي نيوز