في جزيرة نائية قبالة الساحل الجنوبي الشرقي لأفريقيا ، تتكرر قصة مألوفة تضرب جذورها في التاريخ السياسي: رئيس يصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، ثم يسقط بالطريقة نفسها التي صعد بها.
تشهد مدغشقر، رابع أكبر جزيرة في العالم بمساحة تقارب 587 ألفا و41 كيلومترا مربعا، وأكبر دولة جزيرية منفردة في أفريقيا، أزمة سياسية عميقة قد تُعيد تشكيل مستقبلها للمرة الخامسة منذ استقلالها عن فرنسا قبل 65 عاما.
لقد اكتملت الدورة التاريخية لهذه الجزيرة التي يسكنها نحو 30 مليون نسمة، والتي ظلت فيها السلطة السياسية هشة مثل زهور الفانيليا التي تُعد مدغشقر أكبر منتج طبيعي لها في العالم بنسبة 80% من الإنتاج العالمي.
كانت شوارع العاصمة أنتاناناريفو (التي يقطنها أكثر من 1.6 مليون نسمة) تنبض بطاقة غير معتادة ظهر الأحد 12 أكتوبر/تشرين الأول 2025.
وبينما كانت الجموع تتدفق إلى "ساحة 13 مايو" (تخليدا لانتفاضة شعبية عام 1972 أطاحت بأول رئيس للبلاد)، كان المشهد يحمل مفارقة لافتة: أندري راجولينا ، الرجل الذي استخدم الجيش للوصول إلى السلطة في انقلاب عام 2009، يُطاح به اليوم بالأداة نفسها التي رفعته.
في المقابل، شهدت الساحة عودة مفاجئة للرئيس السابق مارك رافالومانانا، الذي أُجبر على مغادرة القصر الرئاسي تحت تهديد السلاح عام 2009، ليقف اليوم شاهدا على سقوط من أطاح به.
وبحلول صباح الاثنين 13 أكتوبر/تشرين الأول 2025، كان السؤال بسيطا لكنه عميق: أين الرئيس راجولينا؟
وأكدت مصادر عسكرية في مدغشقر أن الرئيس البالغ من العمر 51 عاما، والذي يحمل الجنسيتين الفرنسية والملغاشية منذ عام 2014، قد غادر البلاد على متن طائرة عسكرية فرنسية، بموجب اتفاق رعاه شخصيا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون .
رغم أن الجيش هو من حسم المشهد، فإن شرارة الأزمة لم تبدأ في الثكنات، بل في الشارع وعلى شبكات التواصل الاجتماعي.
فما بدأ في 25 سبتمبر/أيلول 2025 كاحتجاجات محدودة ضد نقص الكهرباء والمياه المزمن في العاصمة، تطور خلال أسابيع قليلة إلى انتفاضة شاملة تطالب بإسقاط النظام لعدة أسباب أبرزها أزمة البنية التحتية.
يحصل ثلث السكان فقط على الكهرباء التي يصل الانقطاع فيها حتى في العاصمة إلى 8 ساعات يوميا.
قاد الحراك جيل شاب أطلق على نفسه اسم "جيل زد مدغشقر"، واعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تيك توك، واتساب) لتنسيق الاحتجاجات، مستلهما من انتفاضات شبابية في بنغلاديش وكينيا وسريلانكا عام 2024.
وعندما ردت قوات الأمن بعنف في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025 باستخدام الرصاص المطاطي، أسفر القمع عن مقتل 22 شخصا على الأقل وإصابة أكثر من 100 وفقا لأرقام الأمم المتحدة .
لكن هذا العنف لم يخمد الاحتجاجات؛ بل زادها اشتعالا، وأصبح المطلب حاسما: رحيل راجولينا فورا.
جاءت نقطة التحول يوم السبت 11 أكتوبر/ تشرين الأول، حين أعلنت وحدة "كابسات" (فيلق إدارة شؤون الجيش) انشقاقها عن الرئيس وانضمامها إلى المتظاهرين.
والمفارقة أن هذه الوحدة كانت الدرع الواقي لراجولينا وضامنه الأساسي للبقاء في السلطة منذ انقلاب 2009.
فقد ظهر قائد الوحدة، العقيد مايكل راندريانيرينا ، أمام الكاميرات في 12 أكتوبر/تشرين الأول معلنا أن وحدته "تستجيب لنداء الشعب" وترفض "تلقي أوامر بقمع المواطنين".
وفي اليوم التالي، نصّبت الوحدة رئيسا جديدا لأركان الجيش هو الجنرال ديموستين بيكوالس، في حفل رسمي حضره وزير القوات المسلحة، مما أضفى شرعية حكومية على الانقلاب الفعلي.
يذكر أن الجيش الملغاشي، رغم صغر حجمه (نحو 21 ألف فرد)، فقد لعب دورا سياسيا حاسما في معظم الأزمات الكبرى منذ الاستقلال.
لفهم دوافع الانتفاضة، يجب النظر إلى التناقض الصارخ الذي تعيشه مدغشقر:
– دولة غنية بمواردها الطبيعية، لكن شعبها من بين الأفقر على وجه الأرض.
– ثروات هائلة: مدغشقر ليست فقط أكبر منتج للفانيليا، بل هي أيضا ثامن أكبر منتج للكوبالت، وتملك احتياطيات ضخمة من النيكل والغرافيت والمعادن النادرة .
– فقر مدقع: رغم هذه الثروات، يعيش أكثر من 75% من السكان تحت خط الفقر الدولي (أقل من 1.90 دولار يوميا)، ويبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نحو 545 دولارا فقط.
ويرجع السبب الرئيسي لهذه المفارقة إلى الفساد المنهجي، إذ تُنهب معظم العائدات من قِبل النخبة السياسية أو تُهرّب عبر صفقات مشبوهة مع شركات أجنبية.
وقد وصف البنك الدولي الفترة بين 2007 و2021 بأنها "بيئة هشة تتسم بأزمات سياسية متكررة واستيلاء النخبة على موارد الدولة".
يبقى السؤال الكبير بعد فرار راجولينا: ماذا بعد؟ فبناء نظام مستقر وديمقراطي مهمة أصعب بكثير.
لقد عاشت مدغشقر في دوامة من عدم الاستقرار منذ استقلالها، شهدت خلالها 5 جمهوريات متعاقبة و4 انقلابات كبرى.
وكل انقلاب أو انتفاضة سابقة انتهت بنظام جديد لا يختلف كثيرا عن سابقه.
ويقع التحدي الآن على عاتق جيل "زد" ليحوّل طاقة الشارع إلى برنامج سياسي واضح، ويضمن أن التضحيات التي قُدمت لن تذهب سدى.
ويبقى الحكم للتاريخ: هل سيتمكن هذا الجيل من كسر الحلقة المفرغة التي كبّلت بلادهم طوال 65 عاما؟