آخر الأخبار

ليتك لم تفعل يا بروفيسور ياغي!

شارك

قبل اثني عشر عاما كنت أصور فيلما وثائقيا عن نهضة كوريا الجنوبية بعنوان "كوريا الجنوبية نهضة تحتذى". حملتني المهمة إلى جامعة "كايست" المرموقة في مدينة دايجيون (Daejeon)، وهي بالمناسبة من أفضل مئة معهد علمي في العالم. وبينما كانت الكاميرا تلتقط صورا في قسم أبحاث المياه، شاهدت على باب مكتب مغلق اسم البروفيسور عمر ياغي. وكم شعرت بالسعادة لأني وجدت اسم أستاذ من أصل فلسطيني في جامعة كهذه! أردت ان أقابله لكنهم قالوا لي إنه غير موجود ذلك اليوم.

ومنذ ذلك التاريخ ظل اسم البروفيسور عالقا في الذاكرة من دون أن يطفو إلى السطح حتى جاء خبر حصوله على جائزة نوبل للكيمياء مع عالمين آخرين من اليابان وبريطانيا. شعرت أيضا بالسعادة أكثر من ذي قبل، فقد جاء الخبر وغزة تذبح والضفة الغربية تستباح، وقلت في نفسي نحن شعب قادر على الإنجاز وأمهاتنا تنجب من يرفع لهم العالم قبعاته ويكرمهم رغم كل الأهوال.

أخذت أراجع سيرة حياة البروفيسور ياغي فهو من "المسمية" من أعمال غزة، وهي بالمناسبة البلدة التي خرج منها أستاذنا الراحل عبد الرحمن ياغي. عاش البروفيسور ياغي في حي النزهة في عمان ومعظم سكانه من اللاجئين الفلسطينيين، ودرس في مدارس وكالة الغوث، وعانى مع أفراد أسرته محنة اللجوء في المخيمات وأحياء الصفيح، لكن ذلك لم يمنعه من التفوق في دراسة الكيمياء في الولايات المتحدة حتى بلغ ما نتحدث عنه اليوم.

سعادة لم تدم!

ظلت سيرة حياة البروفيسور ياغي تبعث في نفسي، كما قلت وأكرر، شعورا بالسعادة والفخر حتى ساعة كتابة هذا المقال، حين عرفت أنه قَبِلَ عام 2018 جائزة من معهد ولف فاونديشن الإسرائيلي! تحولت السعادة إلى غم وحزن، وأصبحت غضبا حين قرأت ما رافق صورة للبروفيسور ياغي في الكنيست بعد تسلم الجائزة، وإليكم الترجمة بأمانة: " لقد زار البروفيسور ياغي الكنيست، برلمان إسرائيل، بعد تسلمه جائزة ولف للكيمياء عام 2018، وقد أقيمت حفلة بسيطة في إحدى شرفات الكنيست على شرفه وشرف آخرين من أصحاب جوائز نوبل في ذلك العام.

إعلان

إذا كنت تريد أن تنجح في الحياة فاتبع الأذكياء، وهذا ما فعله عمر بالضبط. وهكذا فنحن هنا". ثم جاء في تعليق على الصورة: "من السيئ جدا أن يختارَ الفلسطينيون الوقوف مع حماس بدلا من ذلك، فيخفقوا ليس كآباء فحسب، بل كبشر. وبدلا من أن يبنوا مستقبلا أفضل لأبنائهم هم يبنون أنفاق الإرهاب. إنهم برابرة".

إني لا اتهمك يا بروفيسور ياغي بشيء مما قد يفسره بعض قارئي هذا المقال، لأني لم أكشف عن مكنوناتك ونواياك، ولكن دعني أسألك عما قلته في حديثك بعد إبلاغك باختيارك لجائزة نوبل للكيمياء بأن العلم يحقق المساواة وتكافؤ الفرص. ماذا يعني ذلك؟ لقد نلت أنت الفرصة في المجتمع الأميركي لتحقق بجدك وموهبتك وجهدك ما حققت، ولو كنت في مجتمع آخر ربما لما أتيحت لك الفرصة. إذن فالذي أتاح الفرصة هو المجتمع الذي يؤمن بحرية الفرد ويتيح له كل سبل الإبداع، والعلم بعد ذلك ميدان من الميادين التي يمارس فيها الفرد حريته، ويسخر طاقاته ليرتقي ويكتشف وينفع الناس والبلاد والعباد.

وأنا على يقين يا بروفيسور ياغي أن في أوطاننا كثيرا ممن هم بمثل موهبتك، لكن مجتمعاتنا، بما فيها من مستبدين يسبحون بحمد أميركا والغرب ويصادرون حرياتنا، وبما يعتريها من خوف وخضوع للذل وأدواته، هي من تحرمهم من الفرص كي يبدعوا كما فعلت، وأسعدتنا ثم أحزنتنا وقد عرفنا أنك قدمت العلم وصيته ومزايا الشهرة بفضله، على الموقف والوطن وعذابات أهله على يد من استضافوك في شرفة الكنيست. وقد سبقك إلى هذا العالم المصري الراحل أحمد زويل الذي هرول لتسلم جائزة ولف نفسها، وانظر كيف نظر إليه كثير من المصريين حين وافته المنية.

أيهما أولا؟

أيهما يا بروفيسور ياغي، يا ترى، أولا العلم أم الأخلاق؟ ألم يوقف ألفريد الفرد نوبل أمواله للجائزة التي تحمل اسمه تكفيرا عن ذنوب أدرك بعد فوات الأوان أنه ارتكبها باختراعه مادة الـ"تي إن تي"، كما يقال؟ موقف أخلاقي، أليس كذلك؟ ألم يرفض لي دوك ثو رئيس فريق فيتنام الشمالية في مفاوضات باريس عام 1973 مع الأميركيين الجائزة؛ لأن الاتفاق لم ينفذ؟ موقف مبدئي، أليس كذلك؟ أيهما أولا في ضوء موقف ذلك الثائر الفيتنامي الالتزام بالاتفاق أم الموقف؟ الاتفاق أم الوطن؟

إني لا اتهمك يا بروفيسور ياغي، بل ألومك لوم ضحية مثلك ومثل أهلك من ضحايا استلاب فلسطين واستيطانها وتشريد أهلها. قلت في حديثك بعد إبلاغك بالخبر "السار" إنك نشأت صبيا في غرفة واحدة مع أهلك شاركتكم فيها بضعة رؤوس ماشية كانت تعينكم على تدبير مستلزمات حياة اللجوء. فلماذا نسيت أو تناسيت أن من وضعكم في بيوت الصفيح واقتلعكم من المسمية هم دهاقنة المشروع الصهيوني الغربي الذي وقفت تصافحهم على شرفة الكنيست؟ لو أنك تذكرت يا بروفيسور ياغي ذلك فربما أحجمت عن قبول جائزة ولف، ولَكُنَّا اليوم سعداء بفوزك، كما كنا بالأمس!

أيهما أولا بروفيسور ياغي، العلم أم الأهل المعذبون المهجرون المحرومون من كل شيء لا من تكافؤ الفرص وحدها؟ إن قال أحد ما العلم أولا فإنه بذلك يعتبر أولئك المهجرين المعذبين فئران تجارب، لا يهم إن نفقت من أجل العلم. وإن أهمل أحد العلم باعتباره أداة وسلاحا من أسلحة المقاومة في أيدي أولئك المهجرين من أجل التحرر واستعادة الحق، فإنه أيضا لا يعطي الوطن حقه.

إعلان

هل يجوز للعالم يا بروفيسور ياغي أن ينسى أو يتغافل عما يجري لأهله من قتل وإبادة ولو من أجل العلم؟ فإن أجاز الواحد منا ذلك، نحن ضحايا التهجير والإبادة، فهل لنا أن نطالب العالم أو ننتظر منه أن يقف معنا كما فعل الإيطاليون والإسبان والأيرلنديون والهولنديون والأستراليون وغيرهم كثير من شعوب أوروبا وأميركا اللاتينية وطلاب الجامعات الأميركية التي تدرس وتعمل في واحدة من أعرقها؟

إني لا ألوم العرب يا بروفيسور ياغي على تقاعس شوارعهم وجامعاتهم ومفكريهم، إن وجدوا، فهؤلاء مستعبدون، والعبيد أولى لهم أن ينتزعوا حرياتهم ويحطموا القيود التي يرسفون فيها منذ سايكس بيكو، قبل أن يهبوا لنصرة فلسطين.

لا شيء يعدل الوطن وأهله

وحين تتزاحم على واجهات مكتبك أو مختبرك الجوائز والشهادات، يا بروفيسور ياغي، فهل يغنيك ذلك عن أمل مهما كان بسيطا أو خافتا، في أن تعود يوما إلى المسمية وهي حرة؟ ربما تعتبر ذلك مجرد شطحات عاطفية، ولكن اسأل كثيرا ممن انحازوا إلى الوطن وإلى الموقف والمبدأ قبل العلم وجوائزه، لعلك تعلم.

أو تدري يا بروفيسور ياغي لماذا يسارعون لمنح جائزة ولف وغيرها من جوائز شرفات الكنيست؟ صحيح أن الاعتبار العلمي لا يمكن تجاهله، فبدونه يصبح المنح والمانح سخرية وتندرا، ولذلك فهو ضرورة لا يمكن لأحد أن يتجاهلها، وأنت بكل يقين مؤهل وقمين بهذا الاعتراف بما أنجزته واخترعته، وذلك أمر لا مراء فيه ولا جدال. إنهم يعلمون أن شعوبنا تلفظ كل من يمد يده لهم، رغم تقاعسها وخذلانها لفلسطين، تماما كما يشجعوننا على التطبيع ليس حبا في السلام معنا، بل ليقتلوا في الواحد منا روح المقاومة والتوق للحرية، والتجرد من نوازعنا الأخلاقية.

ألا ترى بنيامين نتنياهو يعرض خرائط إسرائيل الكبرى أمام العالم وهو يتحدث في الوقت نفسه عن السلام، لأنه يعتقد أن من لم يطبعوا حتى الآن يرون حال من سبقوا وسقطوا تحت مخالبه فرائس لا حياة فيها. أو تعلم يا بروفيسور ياغي لماذا يسارعون لمنح المرموقين من علمائنا والمبدعين الجوائز؟ لأنهم يريدون أن يقولوا لنا لا قيمة لإنجازاتكم من دون اعترافنا.

أخيرا أتمنى لو أنك تقرأ النص الذي صاحب صورتك المنشورة اليوم وأنت تتسلم جائزة ولف لتعلم أن تقدير واحد منا، مهما اختلفت الأسباب وعظمت، لا يعني أنهم يعتبروننا بشرا، وهذه إعادة له: " لقد زار البروفيسور ياغي الكنيست، برلمان إسرائيل، بعد تسلمه جائزة ولف للكيمياء عام 2018، وقد أقيمت حفلة بسيطة في إحدى شرفات الكنيست على شرفه وشرف آخرين من أصحاب جوائز نوبل في ذلك العام. إذا كنت تريد أن تنجح في الحياة فاتبع الأذكياء، وهذا ما فعله عمر بالضبط. وهكذا فنحن هنا". ثم جاء في تعليق على الصورة: "من السيئ جدا أن يختار الفلسطينيون الوقوف مع حماس بدلا من ذلك، فيخفقوا ليس كآباء فحسب، بل كبشر. وبدلا من أن يبنوا مستقبلا أفضل لأبنائهم هم يبنون أنفاق الإرهاب. إنهم برابرة."

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا