رام الله- يعيل الفلسطيني إبراهيم العواودة (55 عاما) أسرة مكونة من 9 أفراد، لكن عدة ظروف اجتمعت عليه وأحاطت به لتجعل مسؤولياته مضاعفة، ثم جاءت حرب الإبادة لتلقي بظلالها على حياته وتجعله أمام التزامات استثنائية لا يستطيع الوفاء بها.
رُزق العواودة بـ3 أبناء يعانون إعاقات بصرية، ولديه التزام بتغطية مصاريف ابنتيه في الجامعة، فضلا عن مصاريف محامي ابنه الأسير في سجون الاحتلال ، ومصاريف زوجته المريضة بالضغط والسكري.
الأطفال الثلاثة يحتاجون رعاية طبية دائمة، ومن ذلك مراجعة مستشفى عيون في مدينة القدس ، كما يحتاجون علاجا طبيا شهريا ونظارات خاصة يجب تغييرها كل 6 أشهر لإطالة عمر ما تبقى من النظر، فضلا عن إلحاقهم بمدرسة خاصة، بتكلفة شهرية إجمالية تتجاوز 7 آلاف شيكل (نحو 2100 دولار).
طوال حياته اعتمد المواطن الفلسطيني العواودة على العمل داخل إسرائيل مع مقاولين من الضفة أو فلسطينيي 48، لكن مع اندلاع الحرب منع من العودة إلى عمله الذي كان يغطي تلك المصارف، فضاقت به السبل.
ونظرا لتعطله عن العمل منذ نحو عامين، اضطر لاختصار مصاريفه، فبات يقلص زيارات الأطباء لأطفاله الثلاثة إلى الحد الأدنى، ويستبدل نظاراتهم الطبية ضمن فترة أطول من الموصى بها طبيا، بل وانتقاء النظارات الأقل سعرا، وهو ما يعني أقلها جودة، رغم الخطر الكامن في احتمال فقدان نظرهم بالكامل، فضلا عن الاكتفاء بتسجيل طفل واحد في المدرسة الخاصة بالمكفوفين، وعدم تسجيل ابنتيه في الجامعة.
ورغم الحد من مصاريفه، يصرح المواطن الفلسطيني بأنه كثيرا ما يشعر بالعجز أمام أسرته وأطفاله، مضيفا أنه كلما تولد لديه هذا الشعور وضاقت به الدنيا، غادر المنزل وجلس مع نفسه وصلى ركعتين.
يكشف المواطن الفلسطيني عما اعتبره تقصيرا من الحكومة تجاه أمثاله، بعد عجزهم عن سداد رسوم التأمين الصحي للعام الثاني على التوالي، وهو ما حرمهم من التأمين والحصول على العلاج الكامل.
نتيجة شعوره بالعجز، لا يخفي العواودة حاجته لمن يسانده ويشاركه في تحمل المسؤولية، سوءا جهات رسمية أو مؤسسات أو جمعيات أهلية.
حالة العواودة تتكرر بعشرات الآلاف، وإن كانت التفاصيل مختلفة، مما ولّد شعورا بالعجز لدى آلاف الآباء، وآثارا اجتماعية ستلقي بظلالها على أجيال مقبلة.
معطيات صادمة أكثر يكشف عنها مسؤول دائرة الأبحاث في مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب، وسام سحويل، في حديثه للجزيرة نت، محذرا من آثار "كارثية" على المجتمع الفلسطيني برمته خلال السنوات المقبلة.
يوضح سحويل -على سبيل المثال- أن فقدان أكثر من 200 ألف عامل، كانوا يعملون داخل إسرائيل لعملهم، وفقدان أكثر من 50 ألفا لمنازلهم بمخيمات شمالي الضفة، ألقى بظلاله المباشرة على أكثر من مليون فلسطيني.
وأضاف أن التداعيات النفسية نتيجة فقدان العمل والمأوى بالتزامن مع يوميات الحرب والانتهاكات الإسرائيلية، لا تترك أثرها على الشخص، إنما على أفراد آخرين في المجتمع على صلة بهذا الشخص.
بالأرقام، يقول الباحث الفلسطيني: "قبل الحرب كنا نتعامل تقريبا مع 1700 حالة سنويا، لكن الرقم تضاعف بنسبة 365%، إذ تعاملنا مع 6250 حالة خلال 2024، ونحو 5 آلاف حالة منذ مطلع 2025".
وأضاف أن قرابة 80% من العمال باتوا، يشعرون بحالة قلق وتوتر، وهناك مؤشرات على معاناة 80% من الاكتئاب، بما في ذلك فقدان الأمل والانسحاب الاجتماعي وفقدان القدرة على التركيز "ولكل هذا تداعياته على علاقة الشخص بأفراد الأسرة وتولد الجمود العاطفي وعدم التفاعل".
في ضوء هذه المعطيات، يقول الخبير النفسي إن مستقبل عائلات هؤلاء يمكن استشرافه من خلال شخوصها، لافتا إلى عدم قدرة كثيرين على تسجيل أبنائهم المتفوقين في الجامعات أو الانسحاب منها للمسجلين سابقا.
ويشير إلى دراسة عن التحديات والصعوبات والمعيقات لمقدمي الصحة النفسية في قطاع التربية والتعليم والتنمية الاجتماعية، كاشفا عن أعراض اكتئابية على نحو 56% من المشاركين في الدراسة، ومن أسبابها "عدم قدرتهم على الوفاء بالتزاماتهم المالية تجاه أسرهم وتجاه الآخرين".
أبعد من ذلك يقول إن الدراسة كشفت عن حاجة 86% من مقدمي الرعاية على مستوى الحكومة إلى الرعاية النفسية، وبعضهم في الصفوف الأولى التي يفترض أن تعمل على الاستجابة للحالات النفسية كأقسام الطوارئ والصحة.
عن انعكاسات الصحة النفسية على الروابط الأسرية، يوضح أن الأطفال في الغالب غير واعين لحجم معاناة ذويهم، ومنهم من ينتظر تلبية احتياجاته كما قبل الحرب، لكن العجز عن تلبية رغباتهم وحتى شراء مستلزماتهم المدرسية يؤدي إلى تغير في سلوكهم ومزيد من الضغط على ذويهم، مما يشعر الآباء بالعجز والخوف.
يوضح الخبير النفسي أن النساء يشكلن 58% من المتصلين بالخدمة الهاتفية للمركز "وهذا نتيجة حالة العجز عند رب الأسرة والبطالة ".
عن الفئات التي لجأت للعلاج، يقول إن 75% منهم شباب في مقتبل العمر، بينما تشير الإحصاءات إلى حاجة 55% من الأطفال للمساعدة النفسية، بعد أن كانت نسبتهم لا تتجاوز 12% قبل 10 سنوات، "مما يؤشر لخطورة بالغة على مستقبل الشعب الفلسطيني على اعتبار أن هؤلاء الأطفال هم جيل المستقبل".
استنادا إلى تقديرات محامين فلسطينيين، يقول سحويل إن نسبة الطلاق وصلت إلى 50%، أغلبها نتيجة عدم القدرة على الوفاء بمتطلبات الزواج أو نتيجة لفقدان القدرة على التوازن وكأن الطلاق أصبح مخرجا.
يؤكد سحويل أن العلاج الفعلي لمرضى الصحة النفسية هو عودة الأشخاص إلى ممارسة أدوارهم، أما في ظل تعذر ذلك، فيبذل مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب أقصى جهده للتعامل مع الحالات التي تصله ويتم توفير دعم نفسي وجماعي كما جرى مع 3 آلاف عامل من غزة تم إبعادهم إلى الضفة في بدايات الحرب.
وأشار إلى توفير جلسات دعم نفسي وعيادة متنقلة، وفي الحالات الشديدة أدوية ومضادات للقلق والاكتئاب ونوبات الصرع.
يؤكد تقرير عن آخر مستجدات الحالة الإنسانية لمنظمة "أطباء بلا حدود" في الضفة الغربية -نشرته خلال سبتمبر/أيلول الجاري- أن "الانهيار الاقتصادي يتجلى بشكل متزايد في صورة ضائقة نفسية"، مشيرة إلى أن نحو واحد من كل 4 مرضى رجع في عيادات الصحة النفسية (22%) في جنين وطولكرم ، أفادوا بأن "فقدان الدخل كان السبب الرئيسي لمراجعتهم خلال الاستشارات النفسية الأولية".
وحسب الموقع الإلكتروني للمنظمة، فإن فريقها للصحة النفسية والمرضى يتأثرون بالقيود المشددة على الحركة، مشيرة إلى تقديم 174 جلسة دعم نفسي عن بُعد خلال يونيو/حزيران الماضي، مقارنة بمتوسط 37 جلسة شهرية خلال الأشهر السابقة من العام نفسه، أي بزيادة قدرها 370%.
ووفقا لنتائج استطلاع للمنظمة شمل 95 مريضا اختيروا عشوائيا من بين المستفيدين من خدمات الصحة النفسية بمحافظة الخليل في مايو/أيار، أفاد 31% بأنهم أوقفوا عند حواجز عسكرية، مما أثر بشكل مباشر على وقت الوصول إلى غرفة الاستشارات التابعة لها، بينما بلغ متوسط وقت الوصول لدى المرضى الذين تم توقيفهم 60 دقيقة، بينما أفاد 15% من المشاركين بتعرضهم للعنف على يد الجنود أو المستوطنين في أثناء تنقلهم.
وتشير معطيات المنظمة لعام 2024، إلى تقديمها 36 ألفا و700 استشارة صحة نفسية فردية.