آخر الأخبار

سوريون ما بعد بشار.. كأنهم خرجوا من القبر ضاحكين

شارك الخبر

دمشق– أول ما يلفت انتباهك وأنت تدخل دمشق، ليس أبنيتها الجميلة ولا بنيتها التحتية التي تردت على مدى 54 سنة من الحكم الاستبدادي الذي عاشته تحت حكم عائلة الأسد، بل ناسها ووجوههم المتعبة، والإنهاك الذي يعلو سيماهم، لكنهم مع ذلك يضحكون من أعماق قلوبهم، فتشعر كأنهم خرجوا من القبر ضاحكين.

هؤلاء الناس كانوا لعقود معتقلين أو في حكم المعتقلين، لذلك إلى الآن فإن كل من التقيناهم في دمشق يظنون أنهم في حلم ولا يصدقون أنهم في يقظة، فتركب معهم في سياراتهم أو تسير في الأسواق، فتراهم كأنهم خرجوا من الأجداث مسرعين، يبحثون عن بقية حياة يتشبثون بها.

كان يوم الأربعاء الماضي عطلة في سوريا احتفالا بأعياد الميلاد، وكان في ذلك رسالة طمأنينة من القيادة الجديدة بإعطاء التنوع الحضاري والديني حقه. يومها سرت في شوارع دمشق، وصعدت جبل قاسيون صباحا، فلم أجد موطئ قدم. كان الناس كأنهم يتسابقون إلى هذه القمة التي حرموا منها 14 عاما، إذ كانت مربضا للمدافع التي تقصف غوطة دمشق.

مصدر الصورة سوريون يحتفلون بسقوط نظام بشار الأسد (رويترز)

مهرجان كبير

كان الآلاف على قمة جبل قاسيون، مجموعة منهم ترقص حول مكبر صوت وتغني معه، وأخرى تدبك، وثالثة تطلق الأهازيج.. ولاحظنا وجود الفنانين يارا صبري وزوجها ماهر صليبي ووالدها سليم صبري، والناس يتسابقون إليهم لالتقاط الصور معهم، وهم المعروفون بمعارضتهم لآل الأسد منذ بداية الثورة.

وفي الأفق، كانت ترفرف أعلام الثورة السورية، أعلام سوريا الجديدة، وتردد في الأجواء أهازيجها، وتسمع من بعيد صوت عبد الباسط الساروت (أحد أبرز منشدي الثورة)، كل هذا ينبيك عن حياة جديدة، انبعث بها هذا الشعب المنهك.

كان الناس يضحكون من أعماق قلوبهم، لكن وجوههم متعبة، مثل وجه دمشق المنهك الذي يفيض جمالا ورونقا.

إعلان

في دمشق -مثل كثير من مدننا- يعد سائق سيارة الأجرة من أهم مقاييس استقاء الرأي العام السائد، وكذلك كان سائقنا أمجد الذي سألناه "كيف تلقيت خبر سقوط النظام؟"، فأجاب "لم أصدق طبعا، عند سمعت الخبر أول الأمر هربت إلى بيتي وأغلقت الباب على نفسي 3 أيام كاملة".

وتابع يقول "أنا أعرف هذا النظام، إنه لا يسقط بسهولة بل سيرتكب المجازر الكبيرة، كما أنني لا أعرف القادمين الجدد، وبعد 3 أيام، خرجت خائفا أترقب، وقد صدمت عندما وجدت البلدة تعيش حياة طبيعية، بل شعرت أنني ولدت من جديد".

وفي الليلة التالية، ركبنا مع محمد، وسألناه عن الخبر أيضا، فقال: "كنت مجندا إجباريا، وكانت مهمتي قيادة السيارة، ولم أكن قد قضيت من الخدمة الإلزامية غير سنة واحدة، ولما سمعت بسقوط النظام..". وهنا قاطعته ممازحا: "لا شك أنك غيّرت ثيابك وألقيت سلاحك وهربت". فقال: "بل ألقيت السيارة كلها بما فيها وركضت إلى البيت، وهناك بكيت كثيرا، بكيت من الفرح كأني بدأت الحياة من جديد".

وفي يوم آخر ركبنا مع سائق آخر يدعى رامي، فقال لي إن ابنه طلب منه -بعد 3 أيام من سقوط النظام وهروب بشار الأسد– أن نذهب لأصوره عند تمثال حافظ الأسد الذي حطمه الشعب، فقلت له "اصبر قليلا، أخشى أن يكون كل ما نعيشه مقلبا أو كاميرا خفية".

مصدر الصورة ساحة المسجد الأموي تشهد تجمعات يومية (وكالة الأناضول)

بكاء الفرح

أما الملتاعون بالفقد، فلم تخلُ مشاعرهم من غصة، وبين هؤلاء أمجد الذي قال "أنا درزي من السويداء، كنت أتمنى أن يعيش والدي لحظة سقوط النظام، وقد بكيت طويلا لأنه كان يتمنى أن يرى قبر حافظ الأسد وهو يحترق، فلطالما سمعته يدعو عليه (الله يحرق قبرك) من شدة ما آذاه وعذبه في المعتقل".

ويتابع: "بكيت كثيرا، لم أدر يومها لماذا بكيت، أبكيت فرحا أم بكيت حزنا على والدي".

توجهنا بالسيارة إلى المسجد الأموي، ولك أن تتخيل محاولة الوصول إليه من جانب سور قلعة دمشق بالسيارة في أسواق العاصمة المزدحمة. هناك علقنا نحو 4 ساعات في مسافة كيلومترين فقط، وعندما يئسنا من الوصول، تركنا السيارة وأكملنا الطريق سيرا على الأقدام.

إعلان

فكأن الدمشقيين كانوا مقيدين بالسلاسل، وما إن تحرروا منها حتى انطلقوا يجوبون شوارع المدينة وساحاتها وأسواقها التي غصّت بهم، وازدانت بوجوههم السعيدة، لكنه جمال مكسوّ بالإرهاق، جمال الولادة الجديدة، تغمرها السعادة المفعمة بفرح نابع من القلب رغم التعب.

مصدر الصورة عودة الحياة إلى سوق الحميدية بالعاصمة دمشق (وكالة الأناضول)

وأكثر ما يمتنّ له أهل دمشق ويحمدون الله عليه أن مدينتهم تحررت دون دماء، ولعل هذا من أهم ما ميّزها، إذ إن قوات إدارة العمليات العسكرية حرصت عند دخول المدينة على تجنّب إراقة الدماء، فدخلت فروع الأمن وأمّنت من بقي فيها من عناصر النظام وجنوده، وأمّنت مؤسسات الدولة، وحمت بذلك الأهالي من أكبر مخاوفهم، وهو وقوع المجازر أو التدمير الانتقامي أثناء انسحاب قوات جيش النظام، ولا سيما قوات الفرقة الرابعة أو قوات الحرس الجمهوري.

لكن بات واضحا أن همّ قوات النظام كان النجاة بنفسها فقط إن استطاعت، فما أصابها من صدمة وصول فصائل الثوار إلى دمشق أذهلها عن كل رغبة في الانتقام، بل سارع الجنود إلى إلقاء أسلحتهم في الطرقات وحاويات القمامة، وخلع ملابسهم والفرار بأرواحهم.

وقد تعامل أهالي دمشق مع هذه الأسلحة بمسؤولية كبيرة. وقال لي شاب اسمه محمد، "عندما فرّت قوات النظام من منطقتنا كنت أول الواصلين إلى مستودع سلاح، ولما فتحته فإذا هو مليء بالأسلحة من البنادق والرشاشات والمسدسات وغيرها، ومعها ذخائر كثيرة جدا. فدعوت مجموعة من شباب الحي الذين أثق بهم، وأغلقنا المستودع وحرسناه إلى أن وصلت قوات إدارة العمليات العسكرية، فسلمناها هذا المستودع كاملا دون أن نأخذ منه قطعة سلاح واحدة".

ويشعر الدمشقي، كغيره من السوريين، كأنه وُلد من جديد بعد الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، ويعيش حياة جديدة. فربما تكون قد أنهكته سنوات الحرب، والبرد والجوع، لكن ما أهلكه فوق ذلك كله هو الظلم والخوف.

إعلان

وحتى الآن يقول بعض الشباب إنهم ما زالوا يلتفتون عند الحديث ويخفضون أصواتهم "لأننا تعودنا على هذا على مدى عقود، وما زلنا بحاجة إلى مزيد من الوقت حتى نتحرر تماما".

ورغم الإرهاق الذي يعلو الوجوه والإنهاك الذي يثقل الكواهل، ترتسم البسمة على وجوه الدمشقيين، وتخفق أفئدتهم السعيدة فرحا يتردد صداه مع زقزقات الدوري في أجواء العاصمة العريقة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك الخبر

أخبار ذات صلة



إقرأ أيضا