في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
لم تكن القصة العربية المعاصرة في وقت من الأوقات ضربا من ضروب العبث الأدبي، كما أنها لم تتبلور وتكتنز في يوم من الأيام لتكون فيما بعد منقادة بمسيرتها الإبداعية لعابث يلهو بالكلمة أو متلاعب بميول القراء وأهوائهم.
لم تكن القصة العربية كذلك إلا إذا أعطينا وزنا ذا أهمية لنفر من هواة الكتابة القصصية، حُرموا مما وُهب لغيرهم من الكتاب المبدعين، فراحوا يزجون بأحلامهم وهواجسهم الذاتية في كتابات قصصية، أقل ما يقال فيها أنها تقف تماما على نقيض رسالة الأدب وطبيعته وجدواه.
لقد وجد القاص العربي فن القصة أكثر قابلية وجاهزية من الشعر للالتزام والتهديف الأدبي على صعيد الواقع المعيش، ومن هنا، فقد تحولت القصة الطويلة والقصيرة على أيدي المتمرسين والمتميزين حقلا فنيا واسعا يضج بشتى الوظائف والأهداف الاجتماعية والوطنية والإنسانية، حيث فجر هؤلاء في تجاربهم القصصية المواقف والأحداث الغنية بالصراع، ورسموا الشخصيات المستوحاة من صميم المجتمع العربي، فتحولت بعض تلك الشخصيات إلى نماذج حية مطبوعة في الذاكرة العربية، تظل فوق عوامل التناقض والقهر والاستلاب التي يضج بها واقعنا الراهن.
وعودة إلى الخط القصصي العابث المأخوذ بعلم الفن من أجل الفن، تستوقفنا هذه القصة التي نشرت قبل مدة في الصحافة الأدبية المحلية، وهي بعنوان "الرقص في مساء بارد". ولسنا هنا نتنقد هذه القصة بالذات دون غيرها، فهناك قصص كثيرة تنشر في صحافتنا تسير في هذا الخط اللاملتزم. لا ندري كيف نفدت ذخيرة الهموم الاجتماعية والوطنية والقومية من جعبة الكاتب، فوجه إلينا دعوة مفتوحة إلى تكليف النفس عناء لا طائل تحته بمتابعة تجربة ذاتية مغرقة في خصوصيتها، دون أن يكون لنا أدنى علاقة مباشرة أو غير مباشرة بما نحن مقبلون على قراءته.
وسرعان ما نكتشف، ومن اللحظات الأولى للقراءة، أننا غير معنيين بهذه السيرة الذاتية لشخصية مراهقة لا مبالية تفتقر إلى أبسط متطلبات الوعي. أي شيء يعنينا كقراء في هذا البطل العربي الماجن المعبأ حتى النهاية بالحلم والشرب والرقص؟ أي شيء يعنينا في كونه قد مشى في الشارع أم لا؟ ركب في الباص أم لم يركب؟ حدق في الجريدة أم في وجه الفتاة التي لم يضم الباص العمومي غيرها "وبقدرة قادر"؟
لا نملك في غمرة قراءتنا لهذه القصة إلا أن نعتذر عن التفريط بوعينا من أجل مشاركة بطل القصة أحلامه الوردية التي تجسد له فتاة أحلامه. حتى الديون والوظيفة وحالة العزلة، كلها تحولت إلى أحلام من مهمة القارئ "الغلبان" أن يرصدها في دفتر صغير.
وليت الأحلام الجميلة في القصة قد انتهت إلى تفجير اللحظة القصصية، بحيث يتشظى الحلم وترتطم جزيئاته بأرض الواقع، واقع الجماعة. فالحدث في أحسن حالاته نجده ينتقل من حالة شرود مسكونة بانهيارات عاطفية وحسية إلى حالة حضور عابث في صالة "الديسكو"، حيث العتمة الماجنة والأقداح المضادة للصحو والاستيقاظ، وحيث الحضور اللاهية التي لا تحركها في أرجاء الصالة إلا جمرة الشهوة.
ماذا يهم القارئ إزاء ابتعاد تلك الراقصة عن نجم الحضور الماجن أو اقترابها منه؟ وماذا يضيف إلى هذا الحلم المجاني حضور طيف حبيبة النجم الساطع؟ حتى إقدام بطل القصة على ضرب الأرض بقدميه وسقوطه على أرض الصالة لم يغير من دائرة العبث في القصة شيئا.
من هنا يتبادر إلى الذهن سؤال: هل يجوز لكاتب القصة أن يحول تجربته القصصية -وكما يحلو له- إلى وضع فني أشبه ما يكون بالأكذوبة الإبداعية؟ ولا يفوتنا أن نشير إلى أن المساحة القصصية ما تزال بخير، فما زلنا نقرأ في صحافتنا الأدبية المحلية والعربية قصصا جادة وملتزمة، وفيها من الجودة والمعافاة والفاعلية ما يجعلنا نخفف من تخوفنا على جنوح القصة العربية القصيرة إلى مسار غير مطمئن لما يمكن أن يحتفل به من العبث واللامبالاة والحلم الذاتي الصرف.
والذي أدى إلى توسيع دائرة العبث القصصي في أدبنا العربي الحديث هو دخول فن القصة القصيرة جدا إلى هذه الدائرة ذات المحيط الرخو والقابل للتمدد أمام صراعات التجديد وتيار الحداثة الذي يهب من هنا أو هناك.
فكما أن قصيدة الهايكو القصيرة للغاية جاءتنا من اليابان، جاءتنا القصة القصيرة جدا من الحداثة الأوروبية في هذا المجال. فمثلما أصبحنا نقرأ تحت شعار الهايكو قصائد قصيرة جدا ومعدودة الكلمات على الأصابع، صرنا نقرأ قصصا قصيرة جدا لا تتعدى السطر الواحد في معظم الأحيان.
ففي الشعر المكثف والمختصر للغاية، أصبحت العبارة التي تحسبها عنوانا لقصيدة ما هي إلا القصيدة بكامل مبناها ومحتواها، مثل: النار تحت الكراسي، النملة باضت على رأس دبوس، سقطت الجرة على الإسفلت فانكسر الشارع وسلمت الجرة، ضحكت الطنجرة للصحن الفارغ، هبطت السماء والأرض صاعدة، وغير ذلك من العبارات السريالية الغامضة والمثيرة للسخرية أحيانا.
ولعلنا على صعيد القصة القصيرة جدا نجد أكثر من هذا العبث، الذي يعكس الاستهانة بعناصر القصة من حيث الزمان والمكان والحدث والشخوص وطبيعة السرد، الذي لا يخلو من عنصري الصراع والتشويق في معظم القصص الحديثة.
فمن القصص العالمية القصيرة جدا نقرأ:
ومن القصص العربية القصيرة جدا نطالع، على سبيل المثال:
القصص القصيرة جدا، سواء كانت عربية أو عالمية، من الأهمية بمكان أن نتساءل عن الانعكاسات الإيجابية التي تركتها هذه الصراعات القصصية الجديدة على القصة القصيرة الجادة بشكل عام.
هناك من يقول إن القصة القصيرة جدا قد أثرت إيجابا على القصة القصيرة التي سبقتها وما زالت تثبت وجودها على أيدي قاصين مبدعين، من حيث جذبتهم إليها ليبدعوا بلون آخر يعتمد الاختصار والتكثيف. كما أنها وسعت آفاق التفكير لديهم وفتحت أمامهم باب التجريب لنمط جديد من القص السريع والمكثف، مبنى ومعنى، إضافة إلى حضهم على الإيجاز والإيماء بشكل رمزي بعيد عن المباشرة والتقدير الإخباري المحكوم بواقعية الحدث القصصي.
قد يكون في هذا الرأي النقدي بعض الوجاهة التي تخلو من إقناع البعض، ولكن من سلبيات هذا الفن القصصي الجديد أنه فتح باب الكتابة القصصية على مصراعيه لمن هب ودب من الكتاب غير الموهوبين، بتجاربهم الضيقة والضحلة، ليكتبوا للقراء سطرين أو ثلاثة ليقولوا لهم إنها قصة قصيرة جدا، علما بأنها في الغالب لا تكون سوى خبر عابر في موجز أخبار النشرة، لا علاقة له بفن القصة.
فهل انتقلنا في عصر السرعة من عبث القصة القصيرة إلى عبث القصة القصيرة جدا؟!
هذا يحتاج للإجابة عليه أكثر من دراسة نقدية موضوعية تعطي القصة وكاتبها حقه في مجال إبداعه القصصي أو لا إبداعه، إن كان من هواة الكتابة القصصية لمجرد أن يقال عنه قاص. وما ينطبق على فن القصة الذي عرفناه ينطبق على فن القصة القصيرة جدا، الذي أصبحنا نعرفه على أيدي كتاب القصة الطويلة ربما تعبوا من الإلمام بكل عناصرها الفنية المطلوبة.
بقي أن نقف عند هذه القصة العالمية القصيرة جدا: "انحنى السائق بسيجارته المشتعلة على محرك السيارة، وكان عمر المرحوم 22 عاما". ألا يمكن أن تكون هذه القصة القصيرة جدا مجرد خبر جاءنا به طفل مرتبك شاهد السائق يحترق مع سيارته؟!
إلى متى نظل ننبهر بما يصدر عن الآداب الأجنبية من نتاج غث أو سمين على السواء لنقلد كل ما يصلنا منها مترجما دون انتباه للتطوير؟