آخر الأخبار

سعيد ناشيد: أراهن على الفلسفات الشعبية لتقليص الجهل والشقاء والعنف

شارك

سعيد ناشيد: أراهن على الفلسفات الشعبية لتقليص الجهل والشقاء والعنف

يعد الباحث والمفكر المغربي سعيد ناشيد أحد أهم الأصوات العربية المشتغلة بقضايا التجديد والإصلاح الديني بما يتناسب والعصر الراهن وتحولاته المتسارعة على جميع المستويات.

وهو أحد الموظِّفين للفكر الفلسفي التنويري في مقاربته للقضايا الدينية والمجتمعية والسياسية، والمشتغلين بشكل متواصل بتقريب الفلسفة من عموم الناس، لما للفلسفة من دور أساسي في النهوض بحياة الناس والتقليص من عوامل الجهل والشقاء والعنف.

لا يأتي رهان المفكر سعيد ناشيد على الفلسفات الشعبية من فراغ، بل هو يؤمن بدورها الرئيسي وبكون "الفلسفة هي الحل" المناسب للكثير من المشاكل والأمراض التي تتخبط فيها المجتمعات العربية الإسلامية.

حيث يقول إن لها قدرة على:


* أولا، تحسين الفهم لدى الناس من خلال التحرر النقدي من المواقف الجاهزة والآراء المسبقة، وعدم التسرع في إصدار الأحكام، ومن ثمة يتطور الذكاء العمومي، ويصبح الانتقال الديمقراطي آمنا.
* وثانيا، تحسين قدرة الناس على الحياة من خلال السيطرة على المشاعر السلبية، والتقليص من مصادر الشقاء الوجودي، ومن ثمة يتحقق السلوك المدني والمواطنة الإيجابية.
إعلان

* وثالثا، تحسين قدرة الناس على العيش المشترك من خلال التحكم في الغرائز الحيوانية المدمرة، ومن ثمة تتطور القوانين والمواثيق والأخلاقيات، وبالتالي تتطور الحضارة.

ولهذا السبب، فإن الباحث سعيد ناشيد، أصدر في السنوات الأخيرة مجموعة من الكتب حول سؤال الفلسفة منها "التداوي بالفلسفة" 2018، و"الطمأنينة الفلسفية" 2019، و"الوجود والعزاء: الفلسفة في مواجهة خيبات الأمل" 2020، إضافة إلى الكتاب الجماعي "فيم تفيد الفلسفة؟" الذي راجعه وقدم له.

وما زال يواصل رهانه على أن الأداة الفعالة للإصلاح تمرّ عبر بوابة الفلسفة والفكر، حيث يعمل حاليا، كما كشف في هذا الحوار للجزيرة نت، على إنجاز كتاب حول "الفلسفة في الشارع"، وهو ما يمكن اعتباره امتدادا لمبادرة "الفلسفة في الزنقة" التي كانت وراءها مجموعة من الناشطين الشباب إبان "الربيع العربي".

ولكنها عرفت الكثير من المضايقات والمنع بسبب مواضيعها الجريئة. وما كان ينقص تلك المبادرة، حسب ناشيد، هو الإطار المرجعي والرؤية الإستراتيجية والمنهاج العام والنصوص المرجعية التي تضبطها وتوجه نشطاءها، وهذا هو ما ينكب عليه حاليا.

لم يُكتب للباحث سعيد ناشيد، أستاذ الفلسفة السابق الذي تم طرده من الوظيفة العمومية وأنصفه القضاء بعدما تحولت مشكلته إلى قضية رأي عام، أن يواصل دراساته العليا ويحصل على الدكتوراه بسبب المضايقات التي تعرض لها.

ولكنه استطاع أن يستثمر كل تلك المحن وأن يواصل مشروعه الفكري بفضل استثماره الجيد للإنترنت وللعوالم الافتراضية أو "القارة السادسة" كما يصطلح عليها، فتمكن من البروز بأعمال قيمة وآراء واضحة وجريئة في قضايا وإشكالات تتعلق بالتجديد الديني والإسلام السياسي والتطرف والعنف، وتتميز بالاعتماد على المنهج العقلاني الحداثي في تناول النصوص الدينية.

وشأن تلك الأعمال شأن كتاباته في المجال الفلسفي التي تمتع القارئ ببساطتها وعمقها، إذ نهل صاحبها من الأشياء القريبة منا كالرياضة والطبيعة وغيرها من الأمور التي تقرب الفلسفة من المواطن العادي وتجعل منها أسلوبا للحياة والعيش، شأنه شأن الفلاسفة الرواقيين، الذين يدين لهم بالفضل في البحث عن التناغم مع الطبيعة والصبر على المشاق، والأخذ بأهداب الفضيلة.

إعلان

ومن يعرف الباحث سعيد ناشيد عن قرب سيلمس مدى الانسجام بين طروحاته الفكرية وأسلوبه في الحياة، فالموسيقى والعزف على آلة العود جزء أساسي من معيشه اليومي.

كما أن الرياضة حاضرة فيه أيضا، وخاصة رياضة "الجودو" التي لا يسعى من ورائها إلى تعزيز القدرات القتالية، بقدر ما يهدف إلى تعزيز الثقة في النفس وتقوية الصحة العقلية تطبيقا لمقولة "العقل السليم في الجسم السليم".

مصدر الصورة سعيد ناشيد يمارس رياضة الجودو (مواقع التواصل)

وقد كانت الرياضة منطلقا أساسيا له في كتابه "نقد القوة: رسائل فلسفية إلى الضعفاء" الذي يقدم فيه منظورا فلسفيا حول مفهوم القوة والضعف ويسلط الضوء على أهمية المرونة واستثمار كل الطاقة الكامنة والهائلة في كل نقاط ضعف الإنسان إذا كان لا يرغب في خسارة معارك حياته.

وذلك لأن الحياة كما يقول: "لا تقوم على القوة، بل حتى عناصر القوة نفسها لا تقوم على القوّة، بل على الأسلوب. القوة وهم بدائي، وذكوري، وأيديولوجي، لا يزال كامنا في لا وعي الإنسان إلى الآن، لا يزال كامنا في معارك السلطة والحظوة والشهرة والدين، إلا أنه وهم يضيع الأسلوب، يدمر جودة الحياة، ويسبب الشقاء للكثيرين."

لا يتهيب سعيد ناشيد التكنولوجيا المتطورة والذكاء الاصطناعي وتوظيفهما في المجال الفكري والفلسفي، لأنه يؤمن بناء على تجارب عملية بأن الذكاء الاصطناعي قادر فقط على تقديم إجابات منهجية منظمة بشكل دقيق، ولكنه لا يستطيع القيام بفعل التفلسف، الذي يعد اللحظة القصوى من شغف المعرفة وإرادة الحياة والتفكير في اللامفكر فيه.

ولكنه في المقابل لا يستطيع التنبؤ بالمجالات التي سيبقى فيها الإنسان متفوقا على الآلة، لأنه مستقبلا قد يتقلص الفرق بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، وهنا مكمن الخطر والقلق في رأيه، وهو ما يضع الفلسفة أمام تحدٍّ راهني كبير يقتضي إعادة النظر في العديد من المفاهيم الأساسية في الفلسفة.

إعلان

وإلى جانب الكتب المتعلقة بالسؤال الديني المذكورة سلفا، صدر للمفكر سعيد ناشيد مؤسس "مركز ناشيد من أجل مجتمع متنور"، وعضو "رابطة العقلانيين العرب"، وعضو مجلس أمناء مؤسسة "تكوين الفكر العربي" والإطار المكلف بالدراسات في وزارة العدل المغربية حاليًّا، كتاب "الاختيار العلماني وأسطورة النموذج" 2010، و"قلق في العقيدة" 2011، و"الحداثة والقرآن" 2017، و"دليل التدين العاقل" 2017، و"رسائل في التنوير العمومي" 2018، و"الخدائع والذرائع في خطاب الإسلام السياسي" 2019، و"السلام عليكم، خطاب إلى المسلمين" 2022، و"لماذا نعيش" 2022.

وأغلب هذه الكتب صادرة عن "دار التنوير" البيروتية التي احتضنت الكاتب وأعماله. كما ترجمت بعض كتبه وعلى رأسها كتاب "التداوي بالفلسفة" إلى اللغتين الفارسية والكردية.

مصدر الصورة الندوة الفكرية التي نظمها أخيرا "مركز ناشيد من أجل مجتمع متنور" بالمغرب (مواقع التواصل)

وفيما يلي نص الحوار:


*

أبدأ معك هذا الحوار من الندوة الفكرية التي نظمها أخيرا "مركز ناشيد من أجل مجتمع متنور" بالمغرب و"مؤسسة تكوين للفكر العربي" بالقاهرة، حول سؤال محوري: هل للفلسفة بنية ذكورية؟ فماذا لو أجبت عن هذا السؤال أستاذ؟ وما هي الخلاصات التي توصلتم إليها في الندوة؟

يتعلق الأمر بأول نشاط عمومي لمركز ناشيد من أجل مجتمع متنور، وذلك منذ تأسيسه قبل سبع سنوات مضت، حيث ظل المركز جامدًا في سياق الضغوط التي واجهتها في المستويات الشخصية والمهنية والأكاديمية.

فبعد أن مُنعت من استكمال الدراسات العليا، تعرضت للطرد من الوظيفة العمومية بقرار حكومي، وحُرمت قبلها من حقوق كثيرة، ثم حسبتُ المركز وُلد ميتا وكل ما كان عليّ فعله هو أن أنجو بنفسي أولا، وكانت المحنة هي الحافز الذي أعادني إلى الرواقية لأجل اكتشافها مجددا.

الآن، ربما أذن الله وأذنت الحياة أيضا بشيء من الفرج! إلا أن الندوة المذكورة صغيرة وإمكانياتها بسيطة، وقد ارتأيت ألّا يبتعد موضوعها عن انشغالي العام بالفلسفات الشعبية، وطبعا لا شيء أكثر زهدا من "مهنة سقراط".

إعلان

يتعلق الأمر بندوة هي عبارة عن مائدتين مستديرتين، الأولى بعنوان "دور الفلسفة في ترسيخ الأمن الروحي"، والثانية بعنوان "هل للفلسفة بنية ذكورية؟".

من خلال هذا السؤال الثاني حرصتُ على إظهار كيف أن الفلسفة التي هي جرأة النقد، لا تتردّد في إعمال النقد على ذاتها، فقد سبق لها أن ساءلت نفسها بجرأة حول مدى تورط بعض التصورات الكلاسيكية لمفاهيم العقل والحقيقة والتقدم والتاريخ في صعود النظم الشمولية إبان النصف الأول من القرن العشرين.

وساءلت نفسها بدون حرج حول الدور الذي يمكن أن يكون قد لعبه التصور الديكارتي حول السيادة على الطبيعة في تخريب المجال البيئي؟

على المنوال نفسه بوسعنا اليوم أن نطرح السؤال، ألا يكون مفهوم العقلانية في تاريخ الفلسفة قد ساهم في تكريس النزعة الذكورية داخل الفلسفة نفسها؟

لقد حاول عديد من الباحثين مقاربة الإجابة برؤى وزوايا متقاطعة، أما خلاصة الندوة فربما تتقاطع مع مقاربتي.

لقد ظهرت الفلسفة في العصور القديمة، حيث كانت البنية الذكورية مهيمنة على كل مجالات المعرفة والسلطة، وبما فيها الفلسفة، إلا أن تفكيك تلك البنيات هو دور العقل النقدي، وفي النهاية دور الفلسفة.


*

منذ الفلسفة اليونانية وعصر الأنوار وإلى الآن ترسخت النظرة الذكورية للمرأة التي لا ترى فيها كائنا يستطيع التفكير أو يصلح للتفلسف، لدرجة جعلت الباحث ديفد شريدر المدير التنفيذي للرابطة الفلسفية الأمريكية يؤكد بأن "الفلسفة تعاني من مشكلة جنسانية وشوفينية واضحة"، وهو ما أثبتته المفكرة الأمريكية سالي هاسلانجر عبر دراسة لها تنص على التمييز الذي تتعرض له المرأة في مجال الفلسفة تحديدا، فكيف يمكن تصحيح هذه العلاقة المتوترة للفلسفة بالمرأة وبناء عالم عادل يعتمد على المساواة والإنصاف للجميع رجالا ونساء؟

بالفعل، عانت الفلسفة بدورها من الطابع الذكوري حيث هيمن الذكور على معظم عصورها، مع استثناءات ملفتة، فلا ننسى الفيلسوفة هيباتيا في العصر القديم التي قتلها المسيحيون بتهمة الإلحاد.

إعلان

كما أن لوحة مدرسة الفلاسفة الشهيرة التي رسمها رفائيل في القرن السادس عشر، والموجودة داخل الفاتكان، لا تخلو من فيلسوفات، وهذا مثير بالنظر إلى زمن ومكان اللوحة.

ثم إن سيمون فايل، فيلسوفة القرن العشرين، التي تُعدّ من عظماء الفلسفة، كانت أول من انتبه إلى أن الرواقية هي فرصة تجديد كل من الماركسية والمسيحية، وشخصيا أفترض أن يكون للحدس الأنثوي دورا ملهما في صوفية سيمون فايل.

وهناك أيضا حنا أريندت، وسيمون دي بوفوار، رغم ذلك لا ننكر أن الذكور ظلوا مهيمنين على تاريخ الفلسفة وبحيث لا تنازعهم إلا القليلات، وهي الهيمنة التي امتدّ أثرها إلى العصر الحديث بنحو متطرف في بعض الأحيان.

ومثلا فرنسا صاحبة التقاليد الفلسفية العريقة، وبلد "البكالوريا فلسفة"، كانت أقسام الفلسفة فيها موصدة أمام النساء حتى الجمهورية الثالثة.

هل يمكن للفلسفة والحال كذلك المساهمة في تفكيك البنيات الذكورية؟ حسنا، سأجيب بطريقة واضحة، فلاسفة كثيرون دعموا الاستبداد لكن تفكيك البنيات الذهنية المنتجة للاستبداد هو أحد وظائف الفلسفة.

إن هيدجر الذي تواطأ بالسكوت عن جرائم النازية، سرعان ما انتبه الجميع إلى أن مفاهيمه تساهم في تقويض الأسس النظرية للأنظمة الشمولية، بما فيها النازية.

شوبنهاور الذي خلق انطباعا عاما بأنه فيلسوف التشاؤم هو في المقابل من بين المراجع الأساسية لفلسفة السعادة.

نيتشه الذي لديه بعض الأقوال القاسية في حق المرأة قدم للحركات النسائية العالمية آليات تفكيك أخلاق كراهية المرأة التي هي كراهية للحياة والجسد والحدس والحواس.

حين يتعلق الأمر بإعمال العقل لا يكتفي الفيلسوف بنقد خطاب العبودية، بل يجرؤ على إخضاع خطاب التحرر والحرية نفسه للنقد، إنه يحاول أن يكشف عن بذور العبودية التي قد تكون متوارية بين ثنايا خطاب التحرر، ويحاول الكشف عن بذور الهيمنة التي قد تتوارى خلف خطاب الحرية.

إعلان

يفكك الفيلسوف بنيات التسلط الكامنة في خطاب السلطة، وفي الوقت نفسه يفكك بنيات التسلط التي قد تتوارى خلف خطاب السلطة المضادة، يفكك البنيات الذكورية الكامنة في الخطاب الذكوري، وفي الوقت نفسه يفكك البنيات الذكورية التي قد تتوارى ولو بنحو لا واع خلف الخطاب النسائي نفسه.

دور الفيلسوف أن يرى اللّامرئي، يفكر في اللّامفكر فيه، ويقول ما ينفلت من اللغة. بقايا البنيات الذكورية قد تكمن في اللغة نفسها التي نستعملها حتى حين ندافع عن المرأة في بعض الأحيان، أو قد تتخفى في بعض المستويات اللامرئية.

هنا تكمن الكثير من التفاصيل الميكروسكوبية لمواصلة معركة تفكيك البنيات الذكورية، التي قد تكون المهمة الباقية للفلسفة خلال القرن الواحد والعشرين.


*

العالم العربي ليس بمنأى عن هذا التمييز الذي تتعرض له المرأة في مجال الفلسفة، فباستثناء الفيلسوف ابن رشد الذي انتصر للعقل ولم يستثن المرأة منه، نجد أن أغلب المفكرين والفلاسفة لم يولوها الاهتمام اللازم، بل إن المجال لم يفسح لها في عالم الفلسفة من أجل الاشتغال، على عكس مجالات أخرى أثبتت فيها كفاءتها وجدارتها، فمتى سيتم التعامل مع المرأة، في رأيك أستاذ، باعتبارها إنسانا قادرا على التفكير؟

الخروج من البنية الذكورية صيرورة كونية لم تبدأ إلا منذ حوالي قرن من الزمن، وهي جارية في العالم برمته وإن بدرجات متفاوتة، كما أنها لا تخلو من فترات من المد والجزر تبعا لموازين القوى الثقافية والحقوقية.

عموما ليس من قبيل المصادفة أن تكون فترات المد "الأنثوي" مقرونة بالسلم الأهلي والشعور العام بالأمن والأمان.

لذلك بوسعنا أن نلاحظ كيف أن حضور المرأة في مختلف مناحي الحياة العامة يتزايد كل يوم مع تزايد مساحات التمدن والسلم الأهلي، لكنه يرتبط أيضًا بتحولات كبرى داخل المجالات التي تخترقها المرأة، وهذا الأمر طبيعي.

إعلان

فعلا ليست الذكورة والأنوثة جوهرين ثابتين، لكن هناك في كل الأحوال ذكورة مقابل أنوثة، على أساسها نفهم وجود قدر من الذكورة في كل امرأة، وقدر من الأنوثة في كل رجل، وعلى أساسها أيضا نتحدث عن فئة المتحولين.

انطلاقا من ذلك المبدأ يتناسب تأنيث الفلسفة اليوم مع التحول الجاري في حق الاشتغال الفلسفي، والموسوم بتراجع الفلسفات الخلاصية، والعودة إلى التقاليد التي تجعل من الفلسفة فنّا للحياة.


*

انصب اهتمامك في السنوات الأخيرة على سؤال الفلسفة وخصصت لها بعض الكتب من مثل "التداوي بالفلسفة" 2018، و"الطمأنينة الفلسفية" 2019، و"الوجود والعزاء: الفلسفة في مواجهة خيبات الأمل" 2020، إضافة إلى الكتاب الجماعي "فيم تفيد الفلسفة؟" الذي راجعته وقدمت له، حيث راهنت على الإصلاح عبر بوابة الفلسفة والفكر، وطالبت بإخراج الفلسفة من دائرة الشعارات والأيديولوجيات، وذلك حتى تستعيد الفلسفة إحدى أهم وظائفها وهي أن تعلمنا كيف نعيش، فهل يمكن للفلسفة فعلا أن تحقق ذلك في عالم اليوم المشحون بالحروب والعنف والخراب على كل المستويات؟

للفلسفة دور أساسي في تعزيز العيش المشترك، طالما (أنها) تنمي مهارات التواصل والتخاطب والتحاور والنقد، كما تنمي السلوك المدني لدى المواطنين، وتنهض بمستوى الذكاء العمومي لدى المجتمع.

يقول سبينوزا، لا نولد مواطنين لكننا نصير كذلك، (وهو) ما يعني أن المواطنة شيء نتعلمه. كيف ذلك؟ سبق لأفلاطون أن اشترط على الحاكم أن يكون حكيما طالما (أن) من يحكم الناس ينبغي أن ينجح في حكم نفسه أوّلا، وإلّا سيغدو مجرد طاغية، الحكيم لغة هو من يحكم نفسه، والحاكم من يحكم غيره.

في عصر الديمقراطية اليوم حيث يساهم المواطنون كافة في تدبير الشأن العام، أو هكذا يفترض، ينبغي أن يمتلك المواطنون قدرا من الحكمة.

الديمقراطية لغة هي أن يحكم الشعب نفسه، أن يكون الشعب سيد نفسه، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا حين يكون كل مواطن سيد نفسه، أي سيد انفعالاته ورغباته. إن الشعوب التي لا يتحكم معظم أفرادها في انفعالاتهم واندفاعاتهم عادة ما تنتهي إلى إعادة إنتاج الطغيان أو الفتنة.

إعلان

معظم الفتن والحروب الأهلية مصدرها مشاعر سلبية فشل الإنسان في السيطرة عليها، من قبيل الحقد والخوف والغيرة والغضب.


*

ألا ترى أنك تحمل الفلسفة أكثر مما تحتمل حينما تقول إن "الفلسفة مواجهة مفتوحة ضد الوهم الذي يلازم العقل، ضد الشقاء الذي يلازم الحياة، وضد العنف الذي يلازم الحياة المشتركة" ما دام الرهان على الفلسفة له حدوده، ولا يمكن أن يكون الأسلوب الوحيد للمقاومة والعيش؟

لكل فكرة حدود، ولكل رهان حدود كذلك. الحكمة هي أن ندرك حدود ما سنفعله قبل أن نفعله، ثم نفعله بعد ذلك بكل قناعة واقتناع.
بخصوص رهاني حول الفلسفات الشعبية، فإن الحدود واضحة أمامي، حيث أدرك مسبقا أن المعركة ضد الجهل والشقاء والعنف لن تنتهي إلى أي انتصار حاسم ونهائي، إلا أن الهدف العملي الممكن هو التقليص من عوامل الجهل والشقاء والعنف، رويدا رويدا، جيلا بعد جيل، وإلى أبعد مدى ممكن من التاريخ.


*

في زمن التكنولوجيا والتقنيات الرهيبة والمتطورة باستمرار، هل هناك مكان للفلسفة؟

قبل نحو عامين تقريبا تم إجراء تنافس في اختبار مادة الفلسفة في البكالوريا بفرنسا بين الفيلسوف الفرنسي رفائيل أنتوفن من جهة، والذكاء الاصطناعي "شات جي بي تي" من جهة ثانية.

وإذا كان هذا الأخير قد حصل بدوره على المعدل، 11/20، فقد كانت إجابته منظمة وممنهجة بنحو دقيق، لكن الذي كان ينقصها هو التأمل، أي أن الذكاء الاصطناعي قدم إجابة فلسفية تستحضر المنهجية بكل دقة لكنها تخلو في المقابل من فعل التفلسف.

(وهو) ما يعني أن منظومات التقويم التي تركز على المنهج كما يحدث في معظم مجتمعاتنا، قد يحصل فيها الذكاء الاصطناعي على 20/20، وما يعني كذلك أن مناهج التعليم تحتاج إلى ثورة في آليات التقويم.

القدرة على التفلسف ليست مجرد قدرة على ترتيب المعلومات أو تنظيم المعرفة، التفلسف هو اللحظة القصوى من شغف المعرفة وإرادة الحياة. التفلسف هو التفكير في اللامفكر فيه، واستنفاد ممكنات الحياة.

إعلان

لكن بعد ذلك كله، ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أن الذكاء الاصطناعي لا يزال في جيله الأول، وأن بضعة أجيال قادمة قد تقلص الفارق بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، فلا أحد يستطيع التنبؤ بالمجالات التي سيبقى فيها الإنسان متفوقا على الآلة؟

هنا يكمن مبعث القلق، ماذا لو تفوق الذكاء الاصطناعي يوما ما على الإنسان في الخيال والشعر والحب والإبداع والرسم والموسيقى، ماذا لو تفوق في كل ما يمكن أن يقال؟

إيلون ماسك مؤمن بهذا المصير، ويراهن على زرع شرائح إلكترونية في أدمغة البشر حتى يبقى الذكاء البشري متفوقا، وحتى لا يخسر الإنسان سيادته أمام الآلة، لكن المفارقة أن الشرائح هي نفسها نوع من الذكاء الاصطناعي.

في واقع الحال فإن الذكاء الاصطناعي يضع الفلسفة أمام تحدٍّ راهني كبير يقتضي إعادة تعريف عديد من المفاهيم الأساسية في الفلسفة، ما التفكير؟ ما التأمل؟ ما الإبداع؟ ما الوعي؟ ما المشاعر؟ ما الحب؟ وفي النهاية ما الإنسان؟ وبعد ذلك كله، كيف يمكن للإنسان ألا يخسر سيادته أمام الآلة بعد أن بدأ يكسب سيادته أمام الطبيعة؟

إنّ مصائر النوع البشري في ظل الذكاء الاصطناعي والتعديل الوراثي واستيطان الفضاء، ستكون هي الموضوع الإشكالي الأكثر أهمية طيلة القرن الواحد والعشرين، وكذلك القرن الذي يليه.


*

هل يمكن للخطاب الفلسفي أن يملأ الفراغ الذي خلفته الأديان، التي تعاني في رأيكم من أزمة متفاقمة في الوقت الحالي، ولم يعد خطابها مغريا للشباب ولا محققا للأمن الروحي والسلام بين كل الأديان؟

يصعب التنبؤ بأفول قريب للأديان، حتى وإن كان الغلو الديني يحيل إلى وجود أزمة حقيقية داخل معظم الأديان، ورأيي أن الحاجة إلى الأديان ستدوم ما دام الإنسان لم ينتصر على الموت.

أمام حتمية الفناء يبقى العرض الذي تقدمه الأديان هو الأكثر قدرة على الإقناع، لا سيما في اللحظات الحرجة من الحياة، وذلك بصرف النظر عن الحقيقة. صحيح أن الموت لا يعني أي شيء للأموات، وهذا عزاء أبيقوري جيد، لكن الموت يعني كل شيء بالنسبة للأحياء.

إعلان

في كل الأحوال، لا أتوقع الخروج عن الدين، بل كل ما أتوقعه هو الخروج من الدين، والفرق واضح، إذ إن الخروج عن الدين هو بمثابة انتقال من الدين إلى خارج الدين، أما الخروج من الدين فهو صيرورة داخلية طويلة الأمد، وقد لا تنتهي بالضرورة إلى أي شكل من أشكال الإلحاد.

صحيح أن الإلحاد في مستوى الخيارات الفردية قد نعتبره خيارا ممكنا إلى حد ما، وذلك حين ننسى تجاوزا عوامل كل من اللاوعي الفردي واللاوعي الجمعي، لكن الإلحاد في المستوى الجمعي مجرد وهم أيديولوجي من نوع آخر، على الأقل حتى إشعار آخر.

إن الحل هو استكمال صيرورة إصلاح الأديان، التي قد تساهم فيها الفلسفة من خلال إعادة بناء المفاهيم الدينية والقيم الروحية، بل في عالم معلمن مثلما هو عالم اليوم سيكون للفلسفة دور كبير في تأصيل الأخلاق الإنسانية والسلوك المدني بين المواطنين.


*

بما أن الإصلاح الديني لا يدخل ضمن مهام رجال الدين، بل هو وظيفة أساسية للفلسفة، فكيف يمكن لهذه الأخيرة أن تخرج الدين من حالة الجمود والأزمة، إلى حالة الفعالية والنجاعة والتنوير؟

الآلية الأساسية التي تمتلكها الفلسفة هي الحس النقدي الذي من شأنه أن يخلص الإنسان ولو جزئيا أو رويدا رويدا من عوامل الجهل والشقاء والعنف.

الملاحظ أن الخطاب الديني السائد والشائع في معظم مجتمعات العالم الإسلامي ينمي المشاعر السلبية القائمة على الخوف والغيرة والغضب والكراهية والانتقام، بل بعض الأدعية الشهيرة تنمي تلك المشاعر السلبية بنحو رهيب، وذلك قبل أن تتحول إلى طاقة سلبية تهدد التنمية البشرية والسلم الأهلي.

تلك الطاقة السلبية يسميها سبينوزا بالأهواء الحزينة، ويسميها نيتشه بغرائز الانحطاط، ويسميها فرويد بدوافع الموت (الثاناثوس)، وهي العائق الأكبر أمام بناء التفكير الإيجابي والمواطنة الإيجابية.

إعلان

إن الجهاز المفاهيمي والنسق القيمي للخطاب الديني السائد والشائع في مجتمعاتنا، يشجعان المواطنين على الحزن والخوف والكآبة والتوجس، ومن ثم تتدهور طاقة النمو لدى الإنسان.


*

ثم ألا تحتاج الفلسفة نفسها التي تعقد عليها الكثير من الآمال إلى الإصلاح، خاصة أنها على مر هذه العقود لم تستطع أن ترسخ الكثير من القيم والمبادئ الإنسانية؟

لكي تساهم الفلسفة في إصلاح كينونة الإنسان فإنها تحتاج بدورها إلى الإصلاح، أقصد أن هناك حاجة ماسة إلى إصلاح مناهج تعليم الفلسفة بنحو يجعلها تكتسي طابعا عمليا.

لا تقتصر غاية الفلسفة على تنمية القدرة على التفكير من خلال التقليص من منابع الوهم، بل أيضا تنمية القدرة على الحياة من خلال التقليص من منابع الشقاء البشري، وكذلك القدرة على العيش المشترك من خلال التقليص من منابع العنف. إن الأسلوب المدرسي في تدريس الفلسفة القائم على النصوص لا يحقق الهدف كما ينبغي.

الفلسفة ليست شيئا ندرسه، بل شيئا نتعمله، مثل التمارين الرياضية. يشبه الأمر الطبخ مثلا، الذي لا يمكنني أن أتعلمه من خلال دراسة ما كتب حوله، أو دراسة تاريخ الطبخ، بل أتعمله من خلال ورشات الطبخ.

قد أكون محاضرا جيدا في الطبخ لكن هذا لا يجعلني طباخا بالضرورة. إلا أن الطباخين إن كانوا أكثر من المحاضرين في مجال الطبخ، فالذي يحدث في مجال الفلسفة هو العكس، حيث المحاضرون في الفلسفة أكثر من الفلاسفة.

مصدر الصورة ناقش كتاب "دليل التدين العاقل" للباحث سعيد ناشيد، الصادر عام 2017 أشكال التدين والمفاهيم الدينية المغلوطة التي يعتمد عليها الإسلام السياسي (الجزيرة)
*

إلى جانب انشغالك بالهم الفلسفي والفكري الذي خصصت له مجموعة من الكتب والدراسات، يأتي موضوع الإسلام السياسي وتفكيك الخطاب الديني والإشكالات التي يتخبط فيها النص الديني على مستوى الفهم والتأويل الذي كان منطلق مشروعك الفكري، فكيف يمكن في رأيك تجيد الخطاب الديني في ظل هذه الإكراهات المتواصلة، التي ازدادت تعقيدا مع الفصائل والجماعات الدينية المتطرفة اليوم؟

إعلان

الخطاب الديني هو الخطاب الأكثر تأثيرا في نفوس شعوب العالم الإسلامي، من هنا أهميته القصوى في تحديد مصائر الوعي.

الملاحظ أن الخطاب الديني السائد والرائج في مجتمعاتنا ينحاز في الغالب إلى دعم المشاعر السلبية التي تضعف قيم المواطنة، وتهدد النسيج المجتمعي، وتنذر بالتالي بإشعال جحيم الفتن، ولذلك ليس مستغربا أن يكون تاريخنا مليئا بالفتن منذ موقعة الجمل والفتنة الكبرى إلى فتن اليوم.

أومن بوجود حاجة ماسة إلى تجديد الخطاب الديني، بل تحديثه، وذلك من خلال إعادة بناء الجهاز المفاهيمي ومنظومة القيم. إن خطابا يصر على ربط الأرزاق بالغيب بدل ربطها بالجهد المبذول ليمثل تهديدا للتنمية، إن خطابا يصر على التخويف من عذاب القبر والثعبان الأقرع والدجال الأعور وأهوال القيامة ليمثل تهديدا للقدرة على الحياة، إن خطابا يصر على أدعية الويل والثبور وعظائم الأمور ليمثل تهديدا للعيش المشترك.

أومن بأن تحديث الخطاب الديني في أفق عقلاني وإنساني سيكون هو السبيل إلى التنمية البشرية والسلم الأهلي داخل مجتمعاتنا كافة.

مصدر الصورة يوجه ناشيد كتاب "السلام عليكم.. خطاب إلى المسلمين" إلى المسلم الحائر إزاء الظروف الصعبة التي يعيشها ماديا وروحيا، الناتجة عن خطاب ديني يقوم على الترهيب والتخويف (الجزيرة)
*

توجهت في كتابك "السلام عليكم خطاب إلى المسلمين" الصادر عام 2022 عن دار التنوير، إلى المسلم الحائر إزاء الظروف الصعبة التي يعيشها ماديا وروحيا، الناتجة عن خطاب ديني يقوم على الترهيب والتخويف، ودعوت إلى تحرير الدين من الخطاب الديني، فكيف يمكن لمسلم اليوم أن يحقق ذلك ويتخلص من الحيرة والأسئلة المقلقة حول دينه في رأيك؟

هذا الكتاب هو أول كتاب أصدرته عقب طردي من الوظيفة العمومية، وقد صغته في شكل خطبة دينية موجهة إلى المسلمين بلسان امرأة، والغاية هي المساهمة في تحفيز المسلمين أكثر فأكثر على قيم الحياة، السلوك المدني، والحس النقدي.

إعلان

إن المعركة الأساسية التي هي معركة الوعي، هي مواجهة مع خطاب يستند إلى الدين لكي ينمي مشاعر الرعب والخوف والغيرة والغضب وغيرها من المشاعر السلبية التي تضعف قدرة الإنسان على التفكير الإيجابي والحياة الجيدة.


*

وما هي قراءتك للأوضاع الحالية في العالم، التي يتداخل فيها السياسي والديني ويطغى فيها منطق القوة، الذي وجهت له نقدا في كتابك "نقد القوة: رسائل فلسفية إلى الضعفاء"؟

سبق لياسين الحافظ أن اعتبر أن هزيمة 1967 ليست مجرّد هزيمة عسكرية كما ادعت السلطات، ليست هزيمة أنظمة كما ادعت المعارضات، ليست هزيمة بورجوازيات كما ادعى الماركسيون، بل هي هزيمة الحضارة برمتها وفي كل تفاصيلها.

(وهو) ما يعني أننا بكل طبقاتنا وفئاتنا وحكامنا ومحكومينا مهزومون، لكن الحاصل اليوم أن حضارتنا لم تعد مهزومة وحسب، بل صارت مريضة، والحال أن الحضارات تمرض وتصح كما سبق أن أكد نيتشه.

لقد تحولت مشاعر الهزيمة إلى حالة مرضية، وإلى درجة أننا نبحث عن أي انتصار وهمي أو رمزي صغير لغاية التعويض النفسي عن كسل الروح.

يحز في نفسي أن أرى مجتمعات تخطط لاستيطان المجموعة الشمسية، وللتعديل الوراثي للنوع البشري، ولاكتشاف إلى أين تؤدي الثقوب السوداء؟ مقابل مجتمعات أخرى لا تزال معظم أسئلتها تدور حول ماذا تلبس المرأة؟ وهل يجوز الاحتفال بالمولد النبوي؟ وهل يجوز تهنئة المسيحيين في أعيادهم؟ وهل يجوز الكذب على جمارك "دار الحرب"؟ وما إلى ذلك من أسئلة تعبر عن أمراض الروح.

مصدر الصورة كتاب نقد القوة للباحث سعيد ناشيد (مواقع التواصل)
*

الجميل في كتاباتك هو أنك تقرب الفلسفة من المواطن العادي، وتجعل منها أسلوبا للحياة والعيش، وتنهل من الأشياء القريبة منا كالرياضة والطبيعة وغيرها من الأمور التي تدلل بها على طروحاتك مثلما فعلت في كتابك الأخير عن نقد القوة الذي دخل إلى السجون وكان رفيقا للمقاومين، وهو ما يجعل كتاباتك محببة ومقروءة في العالم العربي على عكس بعض الكتابات المتعالمة، فما هي وصفتك لتقريب الكتاب إلى القارئ؟

إعلان

إن كانت لي وصفة، فهي ما سبق أن قاله فتجنشتين: كل ما يمكن قوله يمكن قوله بوضوح. أضيف، كل ما يمكن قوله لحامل دكتوراه يمكن قوله لطفل صغير عند امتلاك الفكرة.

الواقع أن الغموض ليس مشكلة تقنية بل معضلة أخلاقية، حين أجعل الفكرة واضحة أمام الجميع فأنا في المقابل أتحمل مسؤوليتي كاملة في الفهم أو سوء الفهم.

شخصيا لستُ من نوع المثقفين الذين يتباهون بصعوبة فهمهم من طرف الآخرين، فيا سادتي الكرام ليس في صعوبة فهمكم أي فخر لكم!


*

خرجت من المحنة التي تعرضت لها في المغرب بسبب القرار التعسفي بفصلك عن العمل مدرسًا للفلسفة من طرف وزير التعليم، وإنصافك من القضاء المغربي عبر الحكم لصالحك عام 2021 بعدما تحولت قضيتك إلى قضية رأي عام، بكتاب قيم يحمل سؤالا إشكاليا: "لماذا نعيش؟" ينفذ إلى جوهر الأشياء وإلى أس الحياة، فكيف حولت هذه المحنة إلى منحة من العطاء والإنتاج والاعتراف بالداخل والخارج؟

القرار المجحف كان هو العزل عن الوظيفة العمومية بشكل نهائي، وبقرار وقع عليه كل من وزير التعليم سعيد مزازي ورئيس الحكومة وقتها سعد الدين العثماني، كانت أوقاتا عصيبة لكني قاومتها بفعل قوة التضامن الوطني والدولي بعد أن تحولت قضيتي إلى قضية رأي عام، دون أن أنسى التذكير بالمناسبة بالمبدأ الذي أومن به، لا يكفي التضامن مهما عظم شأنه ما لم تحسن الضحية التصرف.

ثم إني في انتظار إنصاف القضاء تفرغت لإصدار ثلاثة كتب متتالية: "السلام عليكم: خطاب إلى المسلمين"، "لماذا نعيش؟"، و"نقد القوة: رسائل فلسفية إلى الضعفاء". هكذا أكون على طريقة الرواقيين قد حولت المأساة إلى فرصة ليست للنجاة وحسب، بل للذهاب إلى ما بعد النجاة.


*

بعد هذه المحنة التحقت بوزارة العدل المغربية للعمل إطارًا مكلفًا بالدراسات، وواصلت نشاطك في "مركز ناشيد من أجل مجتمع متنور" الذي أسسته عام 2017 لغاية النهوض بالمجتمع وتحديثه، فهل تمكن هذا المركز من تحقيق كل غاياته؟

إعلان

في البداية تراءى لي كأن المركز ولد ميتا، لا سيما وقد عانيتُ من تضييقات استغرقت سنوات عجافًا، ثم وجدت نفسي أمام أبواب موصدة بإحكام، ولولا ظهور الإنترنت لما كان لي مكان تحت الشمس، حتى الدراسات العليا حرمت منها في ظروف لا يزال يكتنفها الغموض، ومن ثم لم أحصل على الدكتوراه التي كانت طموحي البسيط قبل أن أغير اتجاه الأشرعة نحو أعالي البحار، وعبر اللجوء إلى العوالم الافتراضية التي كان البعض في بدايتها يصطلح عليها باسم "القارة السادسة".

مدين للفلاسفة الرواقيين، لكني مدين أيضا لعصر الإنترنت. والحال كذلك طبيعي أن أكون من بين المثقفين الذين ينظرون إلى تكنولوجية الاتصال والتواصل الحديثة بعين التفاؤل، بل أول محاضرة لي في تونس مباشرة عقب سقوط نظام الرئيس بن علي، في مطلع ما كان يسمى بـ"الربيع العربي"، كانت حول المثقفين في زمن آليات التواصل الأفقي، حرصت فيها على تشجيع المثقفين على مسايرة الانتقال الرقمي الذي سيؤثر لا محالة على أسلوب الكتابة ونمط التفكير.

طبعا لا يريحني أن أرى منظومات التواصل الحديثة تهدد مؤسسات الدولة الحديثة، من الأحزاب والنقابات والجامعات، لكن تقديري أن الطابع التحكمي الضيق للكثيرين، قد حرم مجتمعاتنا من طاقات وذكاءات حقيقية، وذلك لحسابات تتعلق أحيانا بغرائز الانحطاط، وهذا مؤسف لأني أستطيع أن أقدر حجم الذكاءات التي نكون قد خسرناها بنحو مجاني.

بعد الإنصاف تم تكليفي بالدراسات في وزارة العدل، وأنا سعيد بأن صادف وجودي هناك سيرورة الإصلاحات التي تهم قانون الأسرة، والقانون الجنائي، ولا أخفي أنني في هذا الباب أتقاسم الكثير من القناعات مع وزير العدل الحالي الذي امتلك جرأة كانت تنقص سابقيه، وأعتبر ما يفعله جزءا من منطق التاريخ الذي لا يهمه من يفعلها، بقدر ما يهمه أن يفعلها أحدهم.


*

على الرغم من الجدل الكبير الذي أثير حول مؤسسة "تكوين الفكر العربي" بالقاهرة واستقالة الكاتب يوسف زيدان من مجلس أمنائها وابتعاد مجموعة من الكتاب عنها، نجد المفكر المغربي سعيد ناشيد يلتحق بهذه المؤسسة ويصبح عضوا بمجلس أمنائها، فما هي الأسباب التي دفعتك إلى الانضمام لهذه المؤسسة الجدلية؟

إعلان

طالما الامتناع عن قبول الدعوة هو الذي يحتاج إلى مبررات، فأنا أسألك بكل لطف، ما المانع إذا؟


*

لا مانع طبعا، ولكن حينما يتعلق الأمر بمؤسسة أثير حولها الكثير من الجدل فالسؤال مشروع في رأيي، خاصة أنكم تفرغتم في السنوات الأخيرة للإنتاج الفكري. ألا يتعارض هذا مع مشروعكم الفكري التحرري البعيد عن أي أجندة مهما كانت؟

نعم أثير الجدل في بداية التأسيس، بل أثير جدل كبير وغير مسبوق، كما ليس خافيا كيف ساهم بعض المنتسبين إلى مؤسسة الأزهر في شن حملة إعلامية عارمة لإجهاض ولادة المشروع، ولديهم باع طويل في هذا المجال.

على أثر ذلك كانت الضربات عنيفة بالفعل، لكن في تقديري الإجمالي فإن المؤسسة نجحت في امتصاص معظم الضربات، لا سيما عقب استقالة عضوين بارزين، وهو ما أتاح لي فرصة الالتحاق بمجلس الأمناء، ومن ثمة التعاون مع الإدارة التنفيذية قصد مواصلة العمل بأسلوب لا يخلو من حكمة وفعالية.

هل سيؤثر هذا على تفرغي لمشروعي الفكري؟ في الواقع لست متفرغا لمشروعي الفكري، أو ليس بعد، فـ"لسوء الحظ" أنصفني القضاء الإداري العادل، وعدت إلى الوظيفة العمومية، أنا الآن موظف في وزارة العدل مكلف بالدراسات، ورغم ساعات العمل اليومية، فالتجربة منحتني أبعادا جديدة قد تساهم في إغناء مشروعي الفكري.

مقابل ذلك فإن مهمتي في مؤسسة "تكوين الفكر العربي" لا تكلفني إلا ساعة واحدة في كل شهر، مقابل الاطلاع على خلاصات أهم النقاشات الفكرية في العالم العربي.

حافظتُ على نموي في أسوأ الظروف، وسأحافظ عليه في كل الظروف، وطبعا أتفق معك، هذا هو الرهان الحقيقي. ورهاني الأخير أن أحافظ على ذلك الرهان.


*

وهل بإمكان المؤسسات البحثية والفكرية اليوم، من مثل مؤسسة "تكوين الفكر العربي"، التي أثيرت حولها الكثير من الانتقادات بمصر، أن تحرك هذه البركة الآسنة، وأن "تبث روح التجديد والإصلاح الذي يعيد للفكر الديني مكانته اللائقة وتواصله وتكامله مع مستجدات العصر ومواكبة التقدم في كافة المجالات العلمية والفكرية والقيمية" كما جاء في ديباجة رؤية المؤسسة بموقعها الإلكتروني؟

إعلان

طالما يتعلق الأمر بسؤال الأمل، فباعتبار ظروف التاريخ والجغرافية الصعبة، أنا لا أملك إلا إجابة واحدة، أعمل مع صديقاتي العزيزات وأصدقائي الأعزاء في مجلس أمناء مؤسسة "تكوين الفكر العربي"، الذين أتبادل معهم كل المحبة والتقدير، بأكثر ما يمكن من الحب وأقل ما يمكن من الأمل.


*

ثم ألا ترى أن اشتغال مركزك بالتعاون مع مؤسسة "تكوين الفكر العربي" في المغرب، يعطي الشرعية لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود" التي تحاول العودة من جديد للعمل بالمغرب بعدما أغلقت أبوابها بالمغرب وأُثير الكثير من الجدل حولها، والتي يشار إلى أنها هي التي تقف وراء تكوين؟

حظي مع مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" بالمغرب كان سيئا، وأنا هنا لا أشتكي طالما (أن) الأمر لا يستحق أي شكوى، لكني أعيد التذكير بما يعرفه الجميع، مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" في المغرب، لم تستدعني للمشاركة في أي نشاط ولا أي ندوة ولا أي استكتاب، وبصرف النظر عن الدواعي التي هناك اليوم من يتبادل حولها الاتهام، فقد كنت ولا أزال أواصل بناء ذاتي بذاتي بصرف النظر عما قد يتوفر لي بين الفينة والأخرى.

أومن بأن التنوير لا يحتاج إلى كثير من المال بل يحتاج إلى كثير من الأفكار الجيدة والجديدة. من خلال عضويتي في مجلس أمناء مؤسسة "تكوين الفكر العربي" يمكن القول إن المؤسسة موجودة فعليا في المغرب، لكن إن كنت تقصدين أنها قد تستثمر اسمي لتقوي وجودها في المغرب، فربما العكس هو الأقرب إلى المنطق، وعموما فإن الجميع يعلم، والمؤسسة نفسها تعلم، أني لست بالحصان الرابح.


*

في الوقت الذي ينتقل فيه الكتاب بين ناشر وآخر، تظل وفيا لناشرك "دار التنوير للنشر والتوزيع" البيروتية، فما السر وراء هذا الوفاء؟ وهل تقدم لك الدار ما تنتظره منها على مستوى نشر وترويج وتوزيع الكتاب؟

علاقتي بحسن ياغي، مدير "دار التنوير" ببيروت، ليست مجرد علاقة بشخص يطبع وينشر ويوزع كتبي، بل هي علاقة بشخص يتبنى مشروعي الفكري، ذلك أن الرجل -بعيدا عن حسابات الربح التجاري- قد آمن بمشروعي الفلسفي والإصلاحي منذ لبناته الأولى، لذلك فإنه يحرص على إغناء مسودات كتبي بملاحظات دقيقة.

إعلان

حيث إن الرجل قد اشتغل لأزيد من نصف قرن في مراجعة أشهر المؤلفات العربية. حين طُردت من الوظيفة العمومية وفر لي حسن ياغي دعما ماليا سخيا مقابل ألا أتوقف عن الكتابة، ذلك أنه مؤمن فعلا بما أفعله.

وسؤال أخير، ما هو جديدك أستاذ؟

"الفلسفة في الشارع".. ربما يكون هذا هو آخر المشوار! هناك تجربة بسيطة سبق أن خاضها بعض الشباب المغربي ضمن ما اصطلحوا عليه باسم "الفلسفة في الزنقة"، لكن التجربة لم تدم طويلا.

ربما كان ينقصها الإطار المرجعي، الرؤية الإستراتيجية، والمنهاج العام. وربما لسوء حظها تزامنت مع ما كان يسمى "الربيع العربي" بكل ما حمله من أحلام وأوهام أيضا.

كما أن أجواء الحماس الثوري لم تكن ملائمة للتفكير النقدي، لكن تجربة الفلسفة في الشارع تحتاج بادئ الأمر إلى نصوص مرجعية تضبطها وتوجه نشطاءها، لعلها تحتاج إلى استنساخ سقراط جديد، بل لعلها تحتاج إلى استنساخ ألف سقراط جديد بثقافة ومفاهيم القرن الواحد والعشرين.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار