في يوم من أيام ربيع عام 1928، بينما كان فلاح سوري يحرث أرضه في قرية رأس شمرا القابعة على الساحل الشمالي لسوريا، بالقرب من خليج المينا البيضا، اصطدم محراثه بشيء صلب.
لم يكن يعلم ذلك الفلاح البسيط أن حادثة ذلك اليوم ستزيح الستار عن واحدة من أعظم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين، ستكشف عن مدينة أوغاريت العظيمة وتغير الكثير من المفاهيم عن تاريخ الكتابة والحضارة الإنسانية.
بعد عام من هذا الاكتشاف العفوي، في الرابع عشر من مايو عام 1929، وصلت بعثة أثرية فرنسية بقيادة العالم كلود شايفر إلى الموقع لتبدأ عمليات تنقيب منهجية أسفرت عن اكتشاف أولى الألواح الطينية التي تعود إلى حضارة كانت ذات يوم مزدهرة في المنطقة.
سرعان ما أدرك العلماء أنهم يقفون على أنقاض مدينة أوغاريت، التي وُصفت بأنها "واحدة من أهم المدن القديمة في الشرق الأدنى".
تعود هذه الألواح إلى العصر البرونزي الحديث، وتحديدا إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهي الفترة الذهبية للمدينة قبل أن تتعرض للدمار حوالي عام 1185 قبل الميلاد.
على مدى عقود من الحفريات، تم الكشف عن آلاف الرُقم الطينية، بلغ عددها حتى عام 1988 حوالي 3557 قطعة، عُثر عليها في مكتبة القصر الملكي ومناطق أخرى من المدينة.
هذه الكنوز الأثرية توزعت بين متاحف سوريا، كالمتحف الوطني في دمشق ومتحف اللاذقية، بينما نُقل جزء كبير منها إلى متحف اللوفر في باريس خلال فترة الاستعمار الفرنسي، ما يشكل فصلا مأساويا في تاريخ هذا البلد وأرثه الحضاري.
الجدير بالذكر أن جوهر أهمية أوغاريت لم يكن في كميتها، بل في نوعيتها ومحتواها المذهل. فقد كشفت هذه الألواح عن تنوع ثقافي وفكري مدهش. فمن بين النصوص التي وجدت، كانت هناك نصوص دينية أسطورية، مثل ملحمة بعل وعنات التي تحكي صراع الإله بعل، إله الخصب والعواصف، مع الإله موت، إله الموت والجفاف. هذه الأساطير التي تشكل جزءا من معتقدات الكنعانيين، أظهرت تشابهاً لافتا مع نصوص توراتية لاحقة، ما يلقي ضوءا جديدا على جذور بعض المعتقدات الدينية في المنطقة.
علاوة على ذلك، ضمت المجموعة قوائم تجارية مفصلة، ومراسلات دبلوماسية بين ملوك أوغاريت وحكام الإمبراطوريات المجاورة، ومعاهدات دولية، ووصايا قانونية تنظم شؤون الحياة اليومية، ونصوصا طبية وبيطرية تعالج الأمراض، وحتى تمارين مدرسية للكتابة تظهر كيف كان الطلاب يتدربون على فنون الخط المسماري.
الأكثر إثارة هو أن هذه النصوص كُتبت بلغات متعددة، تعكس الطبيعة الإنسانية الشاملة لأوغاريت كمركز تجاري وثقافي مهم. فبالإضافة إلى اللغة الأوغاريتية، وهي لغة سامية كنعانية، وجدت نصوص بالأكادية، لغة الدبلوماسية والتجارة في ذلك العصر، وبالحورية والحثية والقبرصية.
هذا التنوع اللغوي يشهد على أن أوغاريت كانت نقطة تقاطع للحضارات، وجسرا للتبادل الثقافي بين مصر والأناضول وقبرص وبقية عالم الشرق الأدنى القديم.
وثقت الألواح بدقة الأنشطة التجارية النشطة للمدينة، من تصدير أخشاب الأرز الثمينة، والأصباغ الأرجوانية التي اشتهرت بها السواحل السورية، وزيت الزيتون، إلى استيراد سلع فاخرة من مختلف أنحاء العالم المعروف. كما حفظت السجلات قوائم بأسماء المدن التابعة للمملكة، وموظفي الدولة، وحتى الأوزان والمقاييس المستخدمة في السوق، ما يقدم صورة حية ومفصلة عن التنظيم الاقتصادي والإداري المتقدم في ذلك الوقت.
لكن يبقى الاكتشاف الأكثر أهمية في أوغاريت هو أبجديتها. فمن بين تلك الآلاف من الرُقم، عثر على لوح طيني صغير لا يتجاوز طوله 10 سنتيمترات، يحتوي على 30 علامة مسمارية. كانت هذه أول أبجدية مكتوبة معروفة في تاريخ البشرية. ابتكرت في أوغاريت خلال القرن الرابع عشر أو ربما الخامس عشر قبل الميلاد، تمثل هذه العلامات نظاما كتابيا أبجديا متكاملا يعتمد على تمثيل الأصوات الساكنة فقط، وهو تطور نوعي هائل انتقل بالكتابة من الأنظمة المقطعية المعقدة التي كانت سائدة في بلاد الرافدين إلى نظام أبجدي أكثر كفاءة ومرونة.
هذه الأبجدية الأوغاريتية، المكونة من 30 حرفا، شكلت الأساس الذي انطلقت منه أبجديات لاحقة كان لها دور محوري في تاريخ المعرفة، مثل الأبجدية الفينيقية التي انتشرت على يد التجار الفينيقيين عبر البحر المتوسط، ومنها تفرعت الأبجديات العبرية واليونانية واللاتينية والعربية فيما بعد. إنها الجذر المشترك الذي تربت عليه حضارات بأكملها.
لا يمكن أيضا إغفال الكنز الفريد الآخر الذي حفظته ألواح أوغاريت ويتمثل في أقدم مقطوعة موسيقية مدونة في التاريخ. إنها ترنيمة للإلهة نيكال، كُتبت حوالي عام 1400 قبل الميلاد، ومزودة بنظام للنوتة الموسيقية سمح لعلماء العصر الحديث بمحاولة إعادة الحياة إلى هذه الألحان التي سمعت آخر مرة قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام.
دار نقاش علمي حول طريقة فك رموز هذه النوتات وطبيعة الموسيقى، سواء كانت متعددة الأصوات أم أحادية الصوت. وحاول العديد من الموسيقيين تجسدي هذه المهمة الصعبة. أبرز من نجح في إحياء هذه الترنيمة كان الموسيقي السوري الشهير مالك جندلي، الذي نشأ في المنطقة المجاورة لأطلال أوغاريت.
بالنسبة لجندلي، لم تكن المهمة مجرد إنجاز فني، بل كانت مسألة شرف وارتباط بالجذور. ففي عام 2009، قدم جندلي أداء لهذه الترنيمة القديمة مع أوركسترا كاملة، ملبسا إياها بأردية موسيقية حديثة، محوّلا النقوش الطينية الصامتة إلى نغم شجي يتردد صداه في قاعات الحفلات الموسيقية، مؤكدا أن روح أوغاريت لا تزال تنبض بالحياة.
هكذا، فإن صدى أوغاريت يخترق الزمن. من صدفة محراث فلاح بسيط، انكشف عالم كامل. لم تكن هذه المدينة مجرد مركز تجاري مزدهر، بل كانت منارة فكرية وثقافية، مكانا ولدت فيه فكرة الأبجدية، وحفظت فيه أقدم أغنية، وازدهرت فيه حياة فكرية ودينية غنية شكلت أساسا لكثير من التراث اللاحق.
ألواح أوغاريت الطينية ليست مجرد قطع أثرية في متاحف، إنها شهادات حية على عبقرية إنسان هذه الأرض، على قدرته على الابتكار والتسجيل والتواصل. إنها تُذكر من جديد بأن الإرث الحضاري لهذه المنطقة عميق ومتعدد الطبقات، وأن اكتشافات الماضي لا تزال تقدم لنا دروسا وألحانا وحروفا تصلح لأن تكون مصدر إلهام للحاضر والمستقبل.
المصدر: RT
المصدر:
روسيا اليوم
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة