قد يلاحظ قريباً مشتركو منصات البث التلفزيوني المباشر، مثل نتفليكس وديزني بلس وباراماونت بلس وغيرها من المنصات، أن مشاهداتهم المتواصلة، باتت تتخللها إعلانات لعلامات تجارية، لم يكن لها أي حضور سابق على شاشات التلفزيون التقليدي.
وستأتي هذه الإعلانات بأسلوب يشبه تماماً ما اعتاد المستخدمون رؤيته على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ ستظهر بتنسيقات ديناميكية وتفاعلية، أقرب إلى المحتوى الإعلاني على إنستغرام و تيك توك وفايسبوك.
ويعود التحول المنتظر في النمط الإعلاني على شاشات التلفزة، إلى رغبة صناعة التلفزيون في الرهان على الذكاء الاصطناعي، لمساعدتها في انتزاع أموال الإعلانات، التي سلبتها منها شركات التكنولوجيا العملاقة مثل ميتا وغوغل، التي ترتفع ثرواتها بشكل كبير، بفضل العائدات الضخمة التي تدرّها إعلانات ملايين الشركات الصغيرة والمتوسطة على منصاتها.
وبحسب تقرير أعدته صحيفة "وول ستريت جورنال"، واطّلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فإن العديد من شركات التلفزيون، تتعاون فيما بينها، لتحسين قدرتها على منافسة شركات مثل Meta وGoogle وAmazon، من خلال بناء منصاتها الخاصة للخدمة الإعلانية الذاتية، المدعومة بالذكاء الاصطناعي، بهدف جذب مُعلني وسائل التواصل الاجتماعي المُعتادين، مثل العلامات التجارية التي تتوجّه للمُستهلكين بشكل مباشر، ومُطوّري التطبيقات والألعاب.
فبفضل قدرات التلفزيون المُتصل بالإنترنت، أصبح بإمكان الشركات الصغيرة، استهداف جمهورها بدقة غير مسبوقة، وبدلاً من بث إعلان عام على نطاق واسع ودفع تكاليف باهظة الثمن، يمكن مثلاً لصاحب متجر رياضي أن يطلب عرض إعلانه حصراً للأشخاص المهتمين بالرياضة، ما يمنحه وصولاً مباشراً إلى الفئة الأكثر اهتماماً بعرضه، ويجعل حملاته الإعلانية أكثر فعالية وأقل هدراً للميزانية.
ويكشف تقرير "وول ستريت جورنال"، أن شركات الإعلام العملاقة مثل كومكاست، إضافة إلى شركات تصنيع أجهزة البث التلفزيوني مثل روكو، تقوم بتطوير أدوات ذكاء اصطناعي ومنصات خدمة ذاتية، هدفها جعل الإعلانات على منصات البث التلفزيوني، في متناول يد الشركات الصغيرة والمتوسطة، في حين قدّمت القناة الرابعة البريطانية هذا الصيف، خدمة مدعومة بالذكاء الاصطناعي التوليدي، يمكنها خفض تكلفة إنتاج إعلان مدته 30 ثانية بنحو 90 في المئة.
أما شركة Roku التي تروّج إلى قدرتها على مساعدة المعلنين، في استهداف الجمهور باستخدام بيانات المُشتركين، فتمتلك برنامجاً يعمل عبر الذكاء الاصطناعي، يُمكنه المساعدة بظهور مقاطع الفيديو ذات الجودة المُنخفضة بشكل أفضل، على شاشات منصات البث التلفزيوني، كما تستخدم Roku خدمات شركة Spaceback الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، لمساعدة المُعلنين على تحويل منشوراتهم الاجتماعية الحالية، مثل فيديوهات TikTok، إلى إعلانات تجارية.
وبحسب جيمس بورو، نائب رئيس قسم المنتجات والهندسة في Universal Ads، وهي منصة المبيعات الرقمية التابعة لشركة Comcast، فإن بائعي الإعلانات، يسعون إلى خفض التكاليف من خلال تقديم خدماتهم المدعومة بالذكاء الاصطناعي مجاناً للمُعلنين، مشيراً إلى أن Universal Ads ستُطلق خلال أيام مساعدها لتوليد الفيديو بالذكاء الاصطناعي.
وتأمل التكتلات الإعلامية ومنصات البث التلفزيوني، في أن يُسهم تبني مفهوم وسائل التواصل الاجتماعي لعرض الإعلانات، بمساعدة من أدوات الذكاء الاصطناعي، في مواجهة الانخفاض المستمر في مبيعات الإعلانات التلفزيونية التقليدية. فوفقاً لشركة الأبحاث eMarketer، سينخفض الإنفاق على إعلانات "البث والكابل" أي إعلانات التلفزيون التقليدي في الولايات المتحدة، بنسبة 15.5 في المئة هذا العام ليصل إلى 49.94 مليار دولار، في حين سينمو الإنفاق على إعلانات "التلفزيون المتصل" بنسبة 13.2 في المئة ليصل إلى 31.91 مليار دولار. كما تشير تقديرات eMarketer أن الإنفاق على إعلانات "التلفزيون المتصل"، سيتجاوز الإنفاق على إعلانات التلفزيون التقليدي بحلول عام 2028.
ولكن التحدي الحقيقي أمام منصات البث التلفزيوني المباشر، لا يكمن فقط في مدى قدرتها على سحب أموال الإعلانات من وسائل التواصل الاجتماعي وجذب معلنيها، بل في إثبات أن الأسلوب الجديد لعرض الإعلانات، قادر على تحقيق نتائج ملموسة، فبينما تراهن صناعة التلفزيون على هذا التحوّل، يحذّر البعض من أن اعتماد التلفزيون أسلوب وسائل التواصل الاجتماعي، في عرض الإعلانات، قد يضعف من قيمة المحتوى الإعلاني.
ويقول الإعلامي والخبير في الإعلان والإعلام الرقمي فيليب أبو زيد، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن ما نشهده اليوم هو تحوّل جذري في العلاقة بين التلفزيون والإعلانات، يُشبه ما حصل قبل عقد من الزمن، عندما دخلت المنصات الرقمية، وأزاحت الصحف والمجلات عن عرش الإعلانات، مشيراً إلى أن الإيجابيات الواضحة لهذا التحوّل، هو أن منصات البث التلفزيوني ستصبح أكثر جاذبية للمعلنين الصغار والمتوسطين، فهؤلاء لم يكن بوسعهم شراء أوقات بث تلفزيونية تقليدية بسبب تكاليفها المرتفعة، أما الآن فيستطيعون أن يوجّهوا حملاتهم بدقة وبميزانيات محدودة، لجمهور معيّن يهتم بمنتجاتهم، وهذا ما سيفتح باب "الإعلان التلفزيوني" أمام قطاع كامل من الشركات الناشئة والمتاجر المتوسطة.
ويشرح أبو زيد أن التلفزيون المتصل بالإنترنت، يملك معلومات دقيقة عن عادات المشاهدة وسلوكيات المستخدمين، وهي ثروة تسويقية لم تكن متاحة للإعلانات التلفزيونية سابقاً، حيث أن استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل هذه البيانات، يعزّز فرص النجاح، ويجعل العائد على الاستثمار أكثر وضوحاً وقابلاً للقياس، وهي نقطة أساسية كانت غائبة في الإعلانات التلفزيونية التقليدية، مشيراً إلى أن هذه الخطوة قد تعيد إحياء قطاع الإعلانات التلفزيونية، الذي يعاني من تراجع مطّرد، فإذا نجحت المنصات في تقديم تجربة إعلانية ذكية، فإنها لن تستعيد حصتها من السوق فقط، بل ستخلق أيضاً نموذجاً هجينا يمزج بين قوة "التلفزيون كوسيلة مؤثرة"، ومرونة "الإعلانات الرقمية القابلة للقياس"، وهذا الدمج قد ينتج سوقاً إعلانية أكثر تنوعاً، ويعيد توزيع القوة بين عمالقة التكنولوجيا وشركات الإعلام.
من جهتها تقول الخبيرة في التسويق الرقمي والتقليدي غادة كمون، في حدث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن التلفزيون يسعى لاستعادة جزء من عائدات الإعلانات، التي استحوذت عليها شركات التكنولوجيا العملاقة، ولكن نجاحه في هذا الأمر، يتوقف على أكثر من مجرد استنساخ نموذج إعلاني موجود، فصحيح أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يقلل التكلفة، ويُسرّع من إنتاج الإعلانات، ولكنه قد يؤدي إلى وفرة محتوى إعلاني متشابه ومكرر، مما يضعف إبداع الحملات ويجعلها أقرب إلى "ضوضاء رقمية"، لا تترك أثراً حقيقياً لدى الجمهور، وهنا قد يجد المعلنون أن العائد الفعلي أقل بكثير من التوقعات.
وتلفت كمّون إلى أن عرض شاشات التلفزة المُتصلة، للإعلانات بأسلوب وسائل التواصل الإجتماعي، قد يُفقد التلفزيون تميّزه كمنصة "محتوى راقٍ"، مقارنة ببيئة "المحتوى السريع والعابر"، التي نجدها في تيك توك، أو إنستغرام أو فايسبوك، كما أنه لا يجب إغفال الجانب النفسي للمشاهد، فالمستخدم الذي يدفع اشتراكاً شهرياً لخدمة مثل نتفليكس أو ديزني بلس، قد لا يتقبّل الإعلانات الرخيصة، ويشعر بالانزعاج منها إذا فُرضت عليه، وهنا يكمن التحدي أمام هذه المنصات، في كيفية تحقيق التوازن بين تسجيل إيرادات إضافية من الإعلانات، وبين الحفاظ على تجربة مشاهدة مميزة لا تُفقدها عملاءها.
وتشدد كمّون على أن استهداف المشاهدين بناءً على بيانات دقيقة حول اهتماماتهم وسلوكياتهم، قد يثير جدلاً واسعاً حول حماية البيانات، فالجمهور اعتاد على "تطفل" إعلانات السوشيال ميديا، ولكن رؤية هذا النمط يتسلل إلى التلفزيون الذي كان يُعرَف بأنه مساحة محمية من هذا النوع من المراقبة، قد يثير رد فعل سلبي، إذا لم تُدار هذه المسألة بشفافية ووضوح، وهو ما قد يضر بثقة المشاهدين في المنصات نفسها.