عاشت سوريا أسبوعاً دموياً من القتل والانتقامات الطائفية، وُصف بأنه الأسوأ منذ سقوط النظام. لكن وسط هذا الدمار، كان السوريون يواجهون معركة إضافية من نوع آخر - معركة الشائعات والأخبار المضللة على منصات التواصل الاجتماعي.
إذ وجد سوريون أنفسهم ضحايا لتيار هائل من الصور المفبركة، والفيديوهات القديمة التي أُعيد نشرها وكأنها توثق أحداثاً تجري الآن. حتى أن بعض الأشخاص شاهدوا صورهم تُتداول مرفقة بعبارات نعي، معلنين وفاتهم وهم لا يزالون على قيد الحياة، فكيف تحولت مأساة الساحل السوري إلى أداة تضليل إعلامي؟
مع بدء الأحداث الدامية في الساحل السوري، وجد سوريون كثر أنفسهم في حالة ارتباك وضياع، غير قادرين على الوصول إلى معلومات دقيقة وموثوقة. الروايات كانت تتغير بالكامل بحسب هوية من ينقل الخبر: فهناك من أصرّ على أن مرتكبي مجازر الساحل هم فصائل تابعة للحكومة الجديدة، بينما ألقى آخرون باللوم الكامل على فلول نظام الأسد. وبين هذا وذاك، سيطر الانحياز واللغة التحريضية على المشهد الإعلامي.
وفي ظل هذا المشهد المعقّد، لم يكن غياب صوت رسمي موثوق هو السبب الوحيد لهذا الارتباك، بل جزء من مشهد أوسع تتصارع فيه جهات دولية وإقليمية ومحلية، كل منها تحاول توظيف الأخبار والمعلومات بما يخدم مصالحها.
وحتى المنظمات الحقوقية التي عُرفت بجهودها في توثيق انتهاكات نظام الأسد خلال العقد الماضي، لم تسلم من الهجوم العنيف خلال أحداث الساحل الدامية. إذ كانت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" واحدة من الجهات التي تعرضت لحملة شرسة، لمجرد نشرها تقارير توثق عمليات القتل الأخيرة، ولأنها لم تتوافق مع قناعات البعض في الشارع السوري المنقسم، فاعتبروها "أخباراً كاذبة" أو "انحيازاً سياسياً".
فضل عبد الغني، مؤسس الشبكة، تحدث مع بي بي سي عن حجم الهجوم الذي تعرض له، موضحاً أن جزءاً منه كان شخصياً، وجزءاً آخر جاء من "جهل الناس بطريقة عمل المنظمات الحقوقية"، كما وصفه. ويقول:"كثيرون لا يعرفون كيف يجري التوثيق، ولا يفهمون منهجية العمل، هم فقط يطلقون الاتهامات من وراء شاشات التواصل الاجتماعي".
ويضيف فضل أن الشبكة اعتمدت على قاعدة بيانات ومراجعة عشرات مقاطع الفيديو الموثقة، إلى جانب فريق من الباحثين المنتشرين على الأرض، ساعدهم ذلك على التحقق من سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين. "المشكلة أن البعض يرى الأمور بعيون طائفية ضيقة"، يضيف فضل، موضحاً كيف تلقى رسائل استغراب وشتائم من أشخاص تساءلوا: "كيف يمكن لحموي أن يدافع عن علوي؟" في إشارة إلى أنه ينحدر من مدينة حماة ويتبنى موقفاً محايداً دون الانحياز لطائفة ضد أخرى.
وتوثيق الحقائق في بيئة كهذه ليس سهلاً، وهو ما يؤكده أحمد بريمو، مؤسس منظمة "تأكد" التي تعمل على مكافحة الأخبار المزيفة. ويقول في حديثه مع بي بي سي، "نحن نعمل في حقل ألغام حقيقي. أي خطأ صغير قد يُستغل لتقويض سنوات من العمل. حتى أدوات البحث العكسي قد تعطينا نتائج مضللة أحياناً. ولهذا نحرص على الشفافية الكاملة وتصحيح أي خطأ علناً فور اكتشافه".
وبرزت منصة "تأكد"، وصفحات أخرى مماثلة خلال الأسابيع القليلة الماضية، كإحدى أبرز المبادرات التي تحاول التصدي للحجم الهائل من الأخبار المضللة. وتعتمد منصات تقصي الحقائق السورية على منهجية عرض الادعاء أولًا، ثم توضيح الحقيقة إلى جانبه، ويقول الصحفي السوري إنه أسس "تأكد" عام 2016، بعد سنوات من العمل الصحفي الذي دفع ثمنه باهظاً، موضحاً "تعرضت للاعتقال من قبل نظام الأسد ثلاث مرات، وتم اختطافي من قبل تنظيم داعش، وكل ذلك بسبب عملي الصحفي".
ليث عبيدو، صحفي من إدلب، وجد نفسه فجأة بين "ضحايا" الحرب. وفي حديث مع بي بي سي، قال ليث إنه كان يتصفح المجموعات الإعلامية التي يتابعها كجزء من عمله، ليصدم بصورة له منشورة في قناة على منصة "تلغرام" تحمل اسماً وصفه بالـ "طائفي"، ويتابعها أكثر من 15 ألف شخص. وتحت صورته كُتب: "مقتل الشاب ليث من قرية السلمية بسبب رفضه السماح للمسلحين بدخول منزله".
ويقول ليث: "أنا أصلاً لست من السلمية، أنا من إدلب، الصورة صورتي، والاسم اسمي، لكن كل شيء حولها كان خاطئاً"، ويرى ليث أن الهدف من ضخ الأخبار الكاذبة هو بشكل رئيسي "محاولة للتأثير في الرأي العام وإثارة الكراهية الطائفية، كانوا يريدون نشر الرعب، وتقديم الثورة وكأنها حملة انتقامية ضد فئات معينة".
ليث حاول الوصول إلى القناة للرد أو التصحيح، لكنه اصطدم بجدار الصمت، "قنوات تلغرام مغلقة، لا مجال للتواصل معها، فقط ماكينة نشر دون مسؤولية"، يقول ليث.
ويضيف أنه رأى لاحقاً نفس الصورة منشورة على فيسبوك، فقرر حينها مواجهة الأكذوبة بسخرية، وكتب تعليقاً ساخراً تحت صورته: "الله يرحمه". ويقول:"المدهش أن أحدا لم ينتبه أن صاحب التعليق هو نفسه أنا "الميّت" في الصورة"، وبرأيه كان ذلك "أكبر دليل على انتشار الأكاذيب دون أن يسأل أحد عن مصدرها أو يدقق في صحتها".
الصور المضللة لم تقتصر على ليث، بل تعرض كثيرون من جنسيات متعددة لمواقف مشابهة، خاصة على منصة إكس (تويتر سابقا)، ومنهم سحر، التي هددت باتخاذ إجراءات قانونية ضد كل من يعيد نشر صورتها، وقالت عبر حسابها:
"أنا سحر شبعى، مواطنة أمريكية مقيمة في ولاية نيفادا. أحذر رسمياً، وبموجب القانون الأمريكي، من نشر معلومات زائفة عني أو استخدام صورتي دون إذن. وأطالب بحذف هذه المنشورات فوراً، وإلا فسوف أتابع المسؤولين قانونياً".
وفي خضم الفوضى الدامية التي اجتاحت الساحل السوري، لم تبقَ ساحة التضليل محصورة داخل حدود البلاد، بل سرعان ما عبرت إلى الخارج، لتجد طريقها إلى مؤثرين عالميين أعادوا صياغة المأساة وفق رواياتهم الخاصة.
بدأت القصة بتغريدة من حساب "Peter Sweden"، الذي زعم أن ما يحدث في سوريا هو "مجزرة ضد المسيحيين"، ووجدت هذه الرواية طريقها بسرعة إلى حسابات ضخمة ذات تأثير عالمي. فإيلون ماسك، صاحب أكبر منصات التواصل الاجتماعي، ساهم في تضخيم الرواية بإعادة نشر التغريدة دون أي تحقق.
الإعلامي الأمريكي تاكر كارلسون بدوره قدم القصة على أنها حملة إبادة ضد المسيحيين، مخاطباً أكثر من 15 مليون متابع.
وفي الوقت نفسه، حاولت الكنائس السورية بث رسائل التهدئة، ونشر بيانات تدعو إلى الوحدة والمصالحة الوطنية، رافضة "أي محاولات لتحويل الأزمة إلى نزاع ديني أو طائفي".
كما نفت "مطرانية اللاذقية للروم الأرثوذكس" ، الشائعات المتداولة حول لجوء مدنيين لحماية أنفسهم داخل الكنائس، داعية المتابعين "بتبني الأخبار الصادرة من الصفحات الكنسية فقط".
وفي محاولة لنشر روايات دقيقة، أطلق ناشطون وسم FactCheckSyria#، الذي أصبح مساحة يتجمع فيها الناس للرد على التغريدات الأكثر انتشاراً والتي تروّج لمعلومات خاطئة، في محاولة جماعية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصداقية.
أما منصة "تأكد" التي بدأت بجهود بسيطة في حلب، قأصبحت اليوم شريكاً موثوقاً لمنصة "ميتا" في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومن خلال هذه الشراكة، يعتمد موقعي "فيسبوك" و"إنستغرام" بشكل مباشر على منصات كهذه في عمليات التحقق من الأخبار المتداولة، حيث يتم إنشاء رابط مباشر بين المحتوى المشكوك فيه وبين فرق التحقق المحلية، ويتم مراجعة الأخبار وتحليلها، ثم تزوّد الشركة بنتائج موثقة تظهر لاحقاً للمستخدمين عبر إشعارات توضّح صحة الخبر.
ويصف أحمد بريمو، مؤسس "تأكد"، المشهد بقوله: "اليوم قوام أي كارثة هو المعلومات المضللة. التحريض على العنف لا يمكن أن يحصل من دون روايات كاذبة، وخطاب الكراهية بدوره يستند دائماً إلى أكاذيب وتلاعب بالحقائق. هذه الأخبار الزائفة قد تبدو مجرد منشور عابر، لكنها قد تتحول إلى شرارة تبيح دماء الناس، خاصة في بلد السلم الأهلي فيه هش، كما هو الحال في سوريا".