مع اقتراب الغروب فوق مدينة لوسيل، كانت موجات المشجعين تتدفق نحو الملعب كأنها نهر من الألوان واللغات واللهجات. وعلى الرغم من الزحام، كانت الحركة تنساب بسلاسة مدهشة، كما لو أن يدا خفية تنظّم كل خطوة وتفتح الطريق أمام كل قادم. لم يكن المشهد مجرد تنظيم محكم لبطولة رياضية… بل حياة يومية صغيرة تنبض داخل الملاعب، بوجوه البشر وقصصهم.
عند إحدى البوابات، كانت أمّ مغربية تمسك بيد طفلتها بحنان، ثم تتوقف أمام مكتب صغير يحمل لافتة "تسجيل الأطفال". تنحني الموظفة لتربط سوارا بلاستيكيا على معصم الصغيرة، وتقول بابتسامة: "إذا ضاعت، سنعيدها إليكم خلال دقائق". تهزّ الأم رأسها بامتنان، وتتمتم: "لم أتوقع هذا المستوى من التفاصيل… كأنهم يفكرون بدلا عنا".
في الساحة المقابلة، يقف شيخ خليجي متكئا على عصاه وقد بدت عليه علامات التعب. يقترب منه شاب في زيّ المتطوعين ويسأله: "عمّي… تحتاج توصيلة؟"، بعد دقائق قليلة، تجري عربة الجولف بين الجماهير، وفي مقعدها الخلفي يجلس الرجل المسن وهو يضحك ويرفع يده محييا الناس. كانت الرحلة لا تتجاوز مئات الأمتار، لكنها بدت له كأنها طوق نجاة.
داخل ملعب لوسيل، كانت المدرجات تهتز بهتافات عشرات الآلاف خلال مباراة المغرب والسعودية.
وفجأة، يقطع الهتاف صراخ قصير من الصفوف الخلفية. يتحرك مسعفان في ثوانٍ، يشقان طريقهما بين المقاعد.
يقول أحد المشجعين الذي شهد الواقعة: "ظننا أن الأمر سيأخذ وقتا طويلا… لكن في دقائق كانت العربة تنقل الرجل إلى عيادة مجهّزة داخل المدرج نفسه". في تلك الغرفة البيضاء الصغيرة، كان الأطباء والممرضون يعملون بهدوء، ويشرح أحد المنظمين: "هنا لا نترك شيئا للصدفة".
في محطة المترو بعد انتهاء المباراة، جلس أحمد العتيبي، مشجع سعودي، يستعيد تفاصيل يومه. لم يكن مهموما بخسارة فريقه بقدر ما كان مأخوذا بالتجربة كلها. يقول للجزيرة نت: "أنا أول مرة أحضر بطولة بهذا الحجم… وعلى الرغم من حضور 78 ألف مشجع، لم نتعب لا في الدخول ولا في الخروج. التنظيم رائع، بصراحة يشرح الصدر".
كان أحمد يبتسم وهو يتحدث، لدرجة أنك لا تعرف إن كان يتحدث عن مباراة كرة قدم أم عن رحلة إنسانية بامتياز.
على بعد خطوات، كانت دينا، مشجعة مغربية، تحتفل بفوز منتخبها. لكنها، وسط الفرح، توقفت لتحكي عن تجربتها: "صراحة تفاجأت… كل شيء واضح وسهل. من المترو إلى الملعب… كل خطوة فيها أحد يساعدك. حضرت مباريات قبل في دول أخرى، لكن هنا التنظيم مختلف".
كانت دينا تضحك وهي تستعيد لحظات اليوم، وكأنها تتحدث عن رحلة سياحية لا عن حضور مباراة.
وفي الجانب الآخر من هذا المشهد الجماهيري، كان يقف محمد عادل، شاب سوداني أنهى دراسة الطب حديثا، لكنه اختار أن يحمل شعار "متطوّع" في 3 مباريات متتالية. يقول بابتسامة هادئة: "أجمل شيء لما تشوف الابتسامة على وجه الناس… تحس أنك قدمت لهم خدمة حقيقية".
محمد عادل متطوع سوداني في كاس العرب قطر 2025 (الجزيرة)يتحدث محمد عن مسؤولياته في بوابة الضيافة، إذ يراجع التذاكر، ويوجه الجماهير، ويحصي أعدادهم، لكن عينيه تلمعان حين يروي موقفا واحدا: "كنت شايف زحمة من بعيد… بسرعة تواصلت مع رجال الأمن، وتعالج الموضوع في لحظات. حسّيت وقتها إني جزء من فريق كبير يحمي الناس".
مع نهاية يومه، يعود محمد إلى منزله وهو يشعر أن اختياره لمهنة الطب والتطوع ليس صدفة، فهما يلتقيان في المعنى نفسه: خدمة الإنسان.
بين طفل يحمل سوار الأمان، ومسن يلوّح من عربة الجولف، ومشجع يبتسم على الرغم من الهزيمة، وطبيب متطوّع يفتخر بموقف إنساني… تمتد تجربة كأس العرب في قطر أبعد من المدرجات والنتائج.
متطوع مغربي في اتنظيم بطولة كأس العرب قطر 2025 (الجزيرة)هذه بطولة لا تُحكى فقط بالأهداف، بل بالوجوه التي تعبرها، وبالأيادي التي تخدمها، وبالقصص الصغيرة التي تعيش وتُروى في كل زاوية منها.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة