تُعد كتابة المذكرات القانونية واحدة من المهام التي تتطلب دقة عالية ومعرفة وثيقة بالقوانين، ووقتاً طويلاً، إلا أنه في ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة، أصبح الذكاء الاصطناعي (AI) يشغل حيزاً كبيراً من حياتنا، ويتم الاعتماد عليه بشكل متزايد، ما دفع العديد من الأشخاص للحصول على استشارات قانونية، أو كتابة عقود تجارية، أو حتى إعداد مذكرات دفاعهم القانونية عبر الاستعانة بالذكاء الاصطناعي بدلاً من اللجوء إلى مكاتب المحاماة، والاستشارات القانونية، فيما حذر محامون من مخاطر استعانة غير المتخصصين بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، مثل «شات جي بي تي» و«ديب سيك» في إعداد المذكرات والاتفاقات القانونية، والمراسلات الرسمية، لما في ذلك من مخاطر قد تكلف العميل خسارة دعواه أو فقدان حقوقه القانونية.
وتفصيلاً، أكد محامون أن الاستعانة ببرامج الذكاء الاصطناعي في إعداد الوثائق القانونية، دون إشراف متخصصين للمراجعة والتصحيح يتسبب في أخطاء وصفوها بـ«الجسيمة»، نتيجة عدم استطاعة الذكاء الاصطناعي التحقق من دقة تلك المعلومات قبل إضافتها إلى الوثائق القانونية، كما أنه لا يستطيع التعامل مع خصوصية كل حالة، مشددين على أن «استخدامه في المحاماة لا يغني عن خبرة ومهارة المحامي البشري، لذا يجب أن يكون ذلك تحت إشراف محامٍ، ليكون قادراً على تقييم وتحليل النصوص التي تولدها برامج الذكاء الاصطناعي ومعالجتها بمهنية واحترافية».
وأضافوا أن الذكاء الاصطناعي، قطع خطوات كبيرة في معالجة كميات ضخمة من البيانات، والتعرف إلى الأنماط، واتخاذ القرارات بناء على خوارزميات معقّدة، إلا أنه لا يمكن استبدال المحامين بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، حيث لايزال عاجزاً في أمور إعمال العقل والموازنة بين الحالات الخاصة لكل حالة قانونية، مشيرين إلى أن تطبيقات مثل «شات جي بي تي» و«ديب سيك» يمكن للمحامين أنفسهم الاستعانة بها كخطوة أولى في إعداد الوثائق القانونية من حيث جمع المعلومات، كما يمكن أن تكون هذه التطبيقات مفيدة للأشخاص العاديين في توفير إجابات فورية عن أسئلة قانونية عامة، أو الأشخاص الذين يحتاجون إلى إرشادات قانونية أساسية قبل التوجه إلى استشارة قانونية متخصصة، حيث يمكن طرح الأسئلة العامة عليه، والحصول على معلومات قانونية أساسية.
وشرح المحامي سالم سعيد الحيقي، أن الذكاء الاصطناعي يمكنه إعداد مذكرات قانونية، باستخدام نماذج متقدمة، وذلك بتوافر البيانات والمعلومات الكافية، ويستطيع توليد مذكرات قانونية مبدئية أو مسودات يمكن البناء عليها، لكن لا يعني هذا أن المذكرة صالحة للتقديم كما هي، لأن القانون ليس نصوصاً فحسب، بل فهم للسياق وتقدير للاجتهاد القضائي.
وأشار إلى أن أبرز المخاطر التي قد تترتب على الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في إعداد مذكرات قانونية، تشمل عدم دقة المحتوى، حيث قد يعتمد على معلومات غير محدثة أو خطأ إن لم يُشرف عليه مختص قانوني، وغياب الفهم للسياق الواقعي بسبب عدم فهمه تماماً للظروف المحيطة بالقضية، كما يفعل محامٍ متمرس، وتجاهل السوابق القضائية المحلية أو الأعراف المهنية في بلد معين، إضافة إلى أنه في حال الخطأ، لا يمكن مساءلة الذكاء الاصطناعي أو تحميله المسؤولية القانونية، بينما المحامي مسؤول أمام موكله، لافتاً إلى أن المخاطر لا تتوقف على الأخطاء القانونية، ولكن تتضمن أيضاً مخاطر الخصوصية، نتيجة إدخال بيانات حساسة في منصات ذكاء اصطناعي، ما يهدد سرية المعلومات القانونية.
وبين الحيقي أن المحامي يتفوق على الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني، في العديد من المجالات، منها التحليل الاستراتيجي، حيث يفكر بزاوية كسب القضية أو تخفيض الخسارة لمصلحة موكله وفقاً لسياق الدعوى، والفهم العميق للنفس البشرية وتقدير سلوك الخصوم، وقراءة ما بين السطور، والترافع والإقناع الشفهي، حيث لا يمكن استبدال مهارة التحدث أمام القضاء بالذكاء الاصطناعي، والاجتهاد القانوني للمحامين، وابتكار حلول قانونية لا تظهر بالضرورة في النصوص الجامدة.
وأضاف أن «الخبرة المحلية والعلاقات المهنية، ومعرفة الإجراءات، كلها عناصر حاسمة لا يملكها الذكاء الاصطناعي، كما أن تحليل الوقائع القانونية، واستخراج النصوص ذات الصلة من القوانين واللوائح، وتقديم صياغات قانونية منظمة ومنطقية كلها أمور لا يمكن استبدالها بالـ(AI)».
وأشار إلى أن تقليل التكاليف المادية يعد أحد أهم العوامل التي تدفع بعضهم للاستعانة بالذكاء الاصطناعي في إعداد مذكراتهم القانونية، ولكن يوجد بعض العوامل الأخرى، منها سهولة الوصول، حيث يمكن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في أي وقت ومن أي مكان، والسرعة وتوفير وقت كبير مقارنة بأخذ موعد مع محامٍ، ورغبة بعضهم في تجربة الحلول التكنولوجية الحديثة والاعتماد على الذات، لافتاً إلى أن «قلة الوعي بأهمية المحامي في الإجراءات القضائية، تدفع بعضهم للاعتماد على أدوات (AI) دون إدراك المخاطر، إضافة إلى غياب الثقة أحياناً ببعض المحامين».
وشدد الحيقي على أن «الذكاء الاصطناعي أداة قوية يمكن أن تكون معيناً جيداً في العمل القانوني، لكنها لا تغني عن المحامي البشري، خصوصاً في القضايا المعقدة التي تتطلب فهماً عميقاً للسياق القانوني والبشري».
ورأى أن «الاعتماد الكامل عليه يحمل مخاطر حقيقية».
وأيدته في الرأي المحامية هدية حماد، مشيرة إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكنه بالفعل، إعداد مذكرات قانونية، ولكنها ستفتقر إلى العديد من الخصائص والتفاصيل، وستكون عامة وأقرب إلى موضوع تعبير، كما أنها ستخلو من الأسانيد القانونية التي تفيد في كل قضية على حدة، خصوصاً أنها مهما تشابهت القضايا في الموضوع فإنها تختلف في التفاصيل والدفوع القانونية.
وأوضحت حماد أن رجل القانون يتفوق على الذكاء الاصطناعي في العديد من الخصائص، منها عامل الخبرة، والتواصل المباشر مع الموكل، وعلمه بالتفاصيل والأسرار والمواقف التي وصلت إليها القضية، وأخيراً دراسة جميع الأوراق والمستندات الموجودة في القضية، لافتة إلى أنه مهما تطورت التكنولوجيا يظل العقل البشري هو الأفضل على الإطلاق.
ورأت أن العامل المادي يعتبر السبب الأول للجوء المتقاضين إلى الذكاء الاصطناعي بدلاً من الاستعانة بمحامٍ.
من جانبه، أكد المحامي سالم عبيد النقبي، أن المحاماة فن وإبداع ورسالة، قبل أن تكون مهنة الفرسان في الدفاع عن المظلومين ونصرتهم، وحماية المحاكمة العادلة للأفراد الجانحين المذنبين في حق المجتمع، فلا توجد دولة في كوكب الأرض إلا وفيها مهنة المحاماة، وذلك لأهميتها البالغة لمشاركتها الأساسية للسلطة القضائية في تحقيق العدالة.
وقال: «شهدت الآونة الأخيرة تطوراً ملحوظاً في التكنولوجيا الحديثة، واجتاح العصر الرقمي تقنيات جديدة لا مثيل لها، ومن أبرزها الذكاء الاصطناعي الذي أصبح يستخدم في المجالات كافة، حيث يمتلك الكثير من المميزات التي حلت العديد من المشكلات البشرية، وعلى الرغم من ذلك لديه العديد من السلبيات التي تشكل مخاوف أمنية وأخلاقية، كما أنه لا يمكن استخدامه بديلاً عن العنصر البشري».
وأضاف النقبي: «قد يلجأ بعض المتقاضين إلى الذكاء الاصطناعي لإعداد مذكرات الدفاع عنهم، ظناً منهم أن ذلك أفضل وأسرع وأوفر مادياً من اللجوء للمحامي الطبيعي، وفي ذلك خطأ وخطر كبيران، لكون مهنة المحاماة مهنة الإبداع والابتكار، والذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الإبداع الفطري الذي يمتلكه البشر وينبع من العمق العاطفي والتفكير المجرد والعملي»، مشيراً إلى أن «الذكاء الاصطناعي يمكنه محاكاة الإبداع، لكنه لا يمتلك الأصالة الحقيقية أو القدرة على التفكير خارج الصندوق كما يفعل المحامي».
وتابع: «تجارب الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في إعداد مذكرات دفاع، أو صياغة عقود قانونية دون تصحيح ومراجعة وتدخل مختصين قانونيين، أثبتت فشلها على مستوى العالم، وأخيراً أثيرت قضية كبيرة عالمياً بسبب تقديم مكتب محاماة مذكرة قانونية معدة كلياً بالذكاء الاصطناعي عبر برنامج (شات جي بي تي)، واكتشاف هيئة المحكمة أن فيها اقتباسات قانونية خطأ، صادرة عن نظام الذكاء الاصطناعي».
وشدد النقبي على أن الذكاء الفطري والإبداع لدى البشر لا يمكن محاكاتهما بالدقة ذاتها، لأن مهنة المحاماة تختلف عن أغلب المهن في كونها إعمالاً للعقل ومحاولة للخلق والإبداع والابتكار، لذا لا يمكن أن يحل الذكاء الاصطناعي محل المحامي، أو يتولى الفصل في القضايا.
شراكة قوية.. نتائج متفوِّقة
أكد محامون أن النماذج التوليدية المتعددة الوسائط مكنت الذكاء الاصطناعي من التفاعل مع محيطه بشكل يشبه الإدراك البشري، حيث باتت أنظمة الذكاء الاصطناعي تُسهم في تأدية مهام كانت حكراً على البشر، وفي مجالات عدة، أبرزها الرعاية الصحية، والتمويل، وخدمة العملاء، والتعليم، والتصنيع، لكنها تظل أدواراً مساعدة تحتاج إلى إشراف بشري. وأشاروا إلى أن الذكاء الاصطناعي والبشر لديهما نقاط قوة متكاملة، ففي حين تتفوق النماذج الذكية في معالجة البيانات والمهام المتكررة، فإن البشر يجلبون الإبداع، والتعاطف، والفهم الدقيق، ومن ثم فإن بإمكان الجانبين أن يبنيا شراكة قوية تحقق نتائج متفوِّقة.
وتابعوا أن الانتشار الواسع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي يطرح الكثير من التحديات التنظيمية والأمنية والاجتماعية التي تتطلب سنّ تشريعات خاصة، خصوصاً مع استمرار قدرات الذكاء الاصطناعي في النمو، كما ستولِّد إمكاناته تحديات متزايدة أمام الأمن السيبراني، ومخاطر جديدة تتعلق بالخصوصية.
ردّ «شات GPT»
أكد «شات جي بي تي» (النسخة المجانية) في رده على سؤال لـ«الإمارات اليوم» حول قدرته على إعداد مذكرة قانونية لتقديمها إلى المحكمة، أنه يستطيع المساعدة. وذكر أنه - حتى يتمكن من إعداد مذكرة قانونية بشكل دقيق ومناسب - يحتاج إلى معلومات، مثل الجهة القضائية المختصة، والمحكمة التي ستُقدَّم إليها المذكرة (المحكمة الابتدائية، محكمة الاستئناف، إلخ..)، ونوع القضية (مدنية، تجارية، جنائية، إدارية، شخصية، إلخ)، وأطراف الدعوى، وملخص الوقائع (موضوع النزاع، والوقائع الرئيسة المرتبطة به)، وما يطلبه المدعي من المحكمة (سداد مبلغ، أو وقف تنفيذ قرار، إلخ..)، والأسس القانونية، إضافة إلى تاريخ الجلسة إن وجد.
وقال: «بعد تزويدي بهذه التفاصيل، سأقوم حالاً بصياغة مذكرة قانونية تتضمن: العنوان، وبيانات الدعوى، والوقائع، والدفوع القانونية، والطلبات الختامية».
وحول نسب ربح الدعوى في حال الاعتماد على مذكرته القانونية، أشار إلى أنه حتى مع وجود مذكرة قانونية قوية، لا يمكن ضمان نسبة الربح بشكل قاطع، لأسباب عدة موضوعية، تشمل عوامل خارجية تؤثر في النتيجة، مثل قناعة القاضي بالأدلة والحجج، والقرائن والأدلة المقدمة من الطرف الآخر، فقد تكون هناك مستندات أو دفوع لم يتم الاطلاع عليها، والقانون المعمول به وتفسيره: «بعض القوانين تحتمل أكثر من تفسير»، ومدى التزام المدعي بتقديم الوثائق والشهادات الداعمة، مشدداً على أن قوة المذكرة القانونية تعتمد على ما تقدمه من مستندات وشهادات صحيحة ومؤيدة للحجج القانونية.
وأضاف: «إذا كانت المذكرة القانونية محكمة، ومدعمة بنصوص قانونية واضحة، وسابقة قضائية مشابهة، ومع غياب نقاط ضعف واضحة في القضية فقد تراوح نسبة النجاح بين 70% و90%، أما إذا كانت هناك ثغرات قانونية أو نقص في الإثباتات، فإن النسبة تنخفض».