في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
كشفت تحقيقات صحافية مشتركة تفاصيل دقيقة عن واحدة من أخطر وأوسع العمليات العسكرية والاستخباراتية التي استهدفت إيران منذ عقود. نفذت إسرائيل، بدعم أميركي مباشر وغير مباشر، حملة متعددة الأبعاد ضد البرنامج النووي الإيراني، شملت اغتيال كبار العلماء، وضرب منشآت التخصيب، وتحييد الدفاعات الجوية، في إطار ما عُرف باسم "عملية نارنيا" ضمن الحملة الأوسع المسماة "الأسد الصاعد".
وفقاً لصحيفة "واشنطن بوست"، كانت الاستعدادات للحرب شبه مكتملة. عشرات العملاء المدربين لصالح إسرائيل كانوا على الأرض داخل إيران، مسلحين بأسلحة متطورة جديدة. طيارو سلاح الجو الإسرائيلي كانوا في حالة تأهب بانتظار أوامر لشن هجمات على البنية التحتية النووية الإيرانية، ومنصات إطلاق الصواريخ الباليستية، ومنظومات الدفاع الجوي. توصلت إسرائيل والولايات المتحدة، الداعم الرئيسي لها، بعد جدل طويل إلى توافق تقريبي بشأن مدى اقتراب طهران من امتلاك سلاح نووي. في الوقت نفسه، كانت تُدار حيل دبلوماسية لإعماء إيران عن الهجوم الوشيك.
أدرك المسؤولون الأمنيون الإسرائيليون أنه لإلحاق ضرر يتجاوز التأثير المؤقت بالبرنامج النووي الإيراني الواسع، لا بد من القضاء على "العقل المدبر"، وهو جيل كامل من المهندسين والفيزيائيين الإيرانيين الذين تعتقد أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية أنهم يعملون على الجوانب المعتمة لتحويل المواد النووية الانشطارية إلى قنبلة ذرية.
في نحو الساعة 3:21 فجر 13 يونيو (حزيران)، وفي الدقائق الأولى من حرب إسرائيل التي استمرت 12 يوما مع إيران، بدأت الأسلحة الإسرائيلية تضرب مباني سكنية ومنازل في العاصمة الإيرانية. انطلقت "عملية نارنيا"، الحملة التي استهدفت كبار العلماء النوويين الإيرانيين.
قُتل محمد مهدي طهرانجي، وهو فيزيائي نظري وخبير متفجرات خاضع لعقوبات أميركية بسبب عمله في مجال الأسلحة النووية، داخل شقته في الطابق السادس بطهران في مبنى يُعرف باسم "مجمع الأساتذة". بعد ساعتين، قُتل فريدون عباسي، الفيزيائي النووي الذي سبق أن ترأس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية وكان خاضعاً لعقوبات أميركية وأممية، في ضربة أخرى بطهران. اغتالت إسرائيل 11 عالماً نووياً إيرانياً بارزاً في 13 يونيو والأيام التي تلت ذلك.
هزت الهجمات الإسرائيلية والأميركية الواسعة والمتعددة المحاور على البرنامج النووي الإيراني الشرق الأوسط، وأشعلت رغبة إيرانية بالانتقام، وأطاحت في الوقت الراهن بإمكانية التوصل إلى اتفاق دبلوماسي يقيّد عمل طهران النووي ويضعه تحت رقابة دولية مشددة.
كشفت صحيفة "واشنطن بوست" بالتعاون مع برنامج "فرونت لاين" التابع لـPBS عن تفاصيل جديدة حول الهجمات، والتخطيط الذي سبقها، وتأثيرها داخل إيران. يستند هذا التقرير إلى مقابلات مع مسؤولين حاليين وسابقين من إسرائيل وإيران ودول عربية والولايات المتحدة، تحدث بعضهم للمرة الأولى، وبشرط عدم الكشف عن هوياتهم، لوصف عمليات سرية وتقييمات استخباراتية.
سبق لإسرائيل أن اغتالت علماء إيرانيين، لكنها كانت تفعل ذلك دائمًا مع إمكانية الإنكار. كان عملاء على دراجات نارية يلصقون قنابل مغناطيسية بسيارات العلماء وسط زحام طهران. نجا عباسي بصعوبة من محاولة اغتيال من هذا النوع عام 2010. كما قُتل محسن فخري زاده، أحد أبرز العلماء النوويين، بسلاح رشاش يعمل بالتحكم عن بُعد في كمين خارج العاصمة الإيرانية عام 2020. في يونيو، خرج الدور الإسرائيلي إلى العلن. تعززت ثقة إسرائيل بعد أن وجهت ضربات علنية مدمّرة لوكلاء إيران في قطاع غزة ولبنان وسوريا.
قال جنرال في سلاح الجو الإسرائيلي شارك في التخطيط للهجوم على إيران: "كانت لدينا أخيرًا فرصة عملياتية لتنفيذ ذلك".
في إطار "عملية نارنيا"، أعدّ محللو الاستخبارات الإسرائيلية قائمة بأهم 100 عالم نووي في إيران، ثم جرى تقليصها إلى نحو 12 هدفًا. أُعدّت ملفات تفصيلية عن عمل كل شخص، وتحركاته، ومنازله اعتمادًا على عقود من العمل الاستخباراتي.
اتفقت إسرائيل والولايات المتحدة، في عهدي الرئيسين جو بايدن ودونالد ترامب، على أن إيران كانت تعمل باتجاه امتلاك سلاح نووي. لكن أجهزة الاستخبارات لدى الطرفين اختلفت أحياناً في تقييمها لما كان العلماء الإيرانيون يفعلونه وما يعنيه ذلك.
ابتداء من عام 2023، جمعت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية معلومات تفيد بأن باحثين يعملون في وحدة بوزارة الدفاع الإيرانية تُعرف باسم "سبند" كانوا يستكشفون طرقاً لتسريع بناء سلاح نووي في حال قرر المرشد الإيراني علي خامنئي التراجع عن فتواه الصادرة عام 2003 التي تحظر الأسلحة النووية.
وقدّرت وكالة الاستخبارات الأميركية أن الإيرانيين كانوا يدرسون تصنيع جهاز نووي بدائي يمكن إنتاجه خلال نحو ستة أشهر باستخدام مخزونات اليورانيوم المخصب المتاحة لديهم. ولم يكن من الممكن اختبار هذا الجهاز مسبقاً أو إطلاقه بصاروخ باليستي، لكنه مع ذلك سيكون مدمّراً إذا ظهر للنور.
كما بدا أن الإيرانيين يدرسون أسلحة اندماجية، وهي نوع أكثر تقدماً وقوة من القنابل النووية. واتفق محللو الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية على أن القنبلة الاندماجية، رغم خطورتها، كانت خارج قدرات إيران.
لكن بحلول ربيع 2025، لم يعد المحللون الإسرائيليون واثقين من أن خامنئي سيعلن علناً تراجعه عن الفتوى، أو أنهم سيتمكنون من اكتشاف ذلك في الوقت المناسب إذا بدأت إيران تجميع سلاح نووي.
وفي 12 يونيو، عشية عملية "الأسد الصاعد"، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن طهران انتهكت التزاماتها المتعلقة بمنع الانتشار النووي وهو أول توبيخ من هذا النوع منذ 20 عاماً.
عندما زار نتنياهو ترامب في بداية الولاية الثانية للرئيس الأميركي كأول زعيم أجنبي يفعل ذلك عرض عليه أربع تصورات لكيفية تنفيذ الهجوم على إيران، بحسب شخص مطّلع على الأمر تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته لوصف مشاورات دبلوماسية خاصة.
أظهر نتنياهو أولاً كيف ستبدو العملية إذا نفذتها إسرائيل بمفردها. ثم خياراً ثانياً تتولى فيه إسرائيل القيادة مع دعم أميركي محدود. والخيار الثالث كان تعاوناً كاملاً بين الحليفين. أما الخيار الأخير فكان أن تقود الولايات المتحدة العملية.
وبدأت بعد ذلك أشهر من التخطيط الاستراتيجي المكثف والسري. وكان ترامب يرغب في منح الدبلوماسية النووية مع إيران فرصة، لكنه واصل تبادل المعلومات الاستخباراتية والتخطيط العملياتي مع إسرائيل، وفقاً لشخصين مطّلعين. وقال أحدهما: "كان التفكير هو: إذا فشلت المحادثات، فنحن جاهزون".
ورأى قادة إسرائيل أن إعطاء الدبلوماسية فرصة أمر مهم للرأي العام العالمي إذا قرروا في النهاية ضرب إيران. لكنهم خشوا أيضاً أن يوافق ترامب، بدافع رغبته في التوصل إلى صفقة، على اتفاق لا يرضيهم.
وفي منتصف أبريل (نيسان)، منح ترامب إيران مهلة 60 يوماً للتوصل إلى اتفاق نووي. وانتهت المهلة 12 يونيو. وخلال ذلك، عمل ترامب ونتنياهو على إبقاء الإيرانيين غير مستعدين لما سيحدث لاحقاً.
قال ترامب للصحافيين في ذلك اليوم إن ضربة إسرائيلية على إيران "قد تحدث بالفعل"، لكنه أشار إلى تفضيله حلاً تفاوضياً. وسرّب مسؤولون إسرائيليون معلومات تفيد بأن مستشار نتنياهو رون ديرمر ورئيس الموساد ديفيد برنيا سيجتمعان قريباً مع المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف. كما كان من المقرر عقد جولة جديدة من المحادثات النووية الأميركية-الإيرانية يوم الأحد 15 يونيو.
لكن إسرائيل قررت الضرب، والولايات المتحدة على علم بذلك. وكانت الدبلوماسية المخططة مجرد خدعة، وشجّع مسؤولون من البلدين تقارير إعلامية تتحدث عن خلاف أميركي-إسرائيلي.
وعلق الشخص المطّلع: "كل التقارير التي تحدثت عن أن نتنياهو ليس على نفس الصفحة مع ويتكوف أو ترامب لم تكن صحيحة. لكن كان من الجيد أن يكون هذا هو الانطباع العام، لأنه ساعد على المضي قدماً في التخطيط دون أن يلاحظ الكثيرون”.
وحتى بعد بدء حملة القصف والاغتيالات الإسرائيلية، بذلت إدارة ترامب محاولة دبلوماسية أخيرة. فقد نقلت سراً إلى إيران مقترحاً لحل المواجهة حول برنامجها النووي. وما لم تكن إيران تعلمه هو أن هذه المبادرة ستكون فرصتها الأخيرة قبل أن يوافق ترامب على انضمام القوة النارية الأميركية إلى إسرائيل.
وكانت شروط الصفقة، التي حصلت عليها "واشنطن بوست" ولم يُكشف عنها سابقاً، قاسية، إذ تضمنت إنهاء طهران دعمها لوكلاء مثل "حزب الله" و"حماس"، إضافة إلى "استبدال" منشأة فوردو لتخصيب الوقود النووي و"أي منشأة عاملة أخرى" بمرافق بديلة لا تسمح بالتخصيب. وفي المقابل، ستقوم الولايات المتحدة برفع "جميع العقوبات المفروضة على إيران"، بحسب المقترح المؤرخ في 15 يونيو. وبعد وقت قصير من قيام الولايات المتحدة بنقل المقترح إلى إيران عبر دبلوماسيين قطريين، رفضت طهران العرض، وأعطى ترامب الإذن بشن ضربات أميركية، بحسب دبلوماسي رفيع شارك في العملية.
يقول مسؤولون أميركيون وإسرائيليون، إلى جانب مسؤولي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إن الضرر الذي لحق بالبرنامج النووي الإيراني وإن لم يكن كاملاً يُعدّ كبيراً، إذ أعاد البرنامج سنوات إلى الوراء، ومن المرجح أنه أنهى، في الوقت الراهن، قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم الذي يمكن استخدامه في إنتاج سلاح نووي.
وأعلن معهد العلوم والأمن الدولي في تقييم صدر في نوفمبر، استند جزئياً إلى صور أقمار صناعية، أن "الأضرار التي تسببت بها الضربات الجوية في العديد من المواقع النووية كانت واسعة النطاق، وفي كثير من الحالات كارثية".
وصرح المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل ماريانو غروسي، لبرنامج "فرونت لاين" بأن حجم الأضرار “كبير جداً”. وأضاف أن إيران لا تزال تحتفظ بمخزونها الذي يناهز 900 رطل من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة، وهي نسبة تفصلها خطوة واحدة فقط عن مستوى 90 في المئة المطلوب لإنتاج سلاح نووي. وأوضح أن هذا المخزون "لا يزال إلى حد كبير في مكانه"، في مواقع أصفهان وفوردو ونطنز. غير أن مسألة قدرة إيران على الوصول إلى هذه المواد لا تزال غير واضحة، خاصة أن مفتشي الوكالة مُنعوا من دخول منشآت رئيسية منذ الضربات. وعلق غروسي: "من الواضح أنه من دون الوصول المادي إلى الموقع، تبقى أي تقييمات جزئية".
وكانت "واشنطن بوست" قد أفادت في سبتمبر بأن إيران، منذ انتهاء الحرب، كثّفت أعمال البناء في موقع غامض تحت الأرض يقع جنوب نطنز مباشرة ويُعرف باسم "جبل الفأس". كما تحاول إيران إعادة بناء مخزونها من الصواريخ الباليستية بمساعدة من الصين، بحسب ما قاله مسؤولون إسرائيليون ومحللون مقيمون في الولايات المتحدة للصحيفة. وهدد ترامب بشن ضربات جديدة إذا عادت إيران إلى تخصيب اليورانيوم بمستويات مرتفعة.
من جهته، بدا علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، غير متأثر بهذه التهديدات، وذلك في مقابلة مع فرونت لاين، هي الأولى له مع وسائل إعلام أجنبية منذ حرب يونيو. وأكد أنه "لا يمكن تدمير البرنامج النووي الإيراني أبداً، لأنه بمجرد أن تكتشف تكنولوجيا ما، لا يمكنهم انتزاع هذا الاكتشاف".
المصدر:
العربيّة