في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
كان الجو باردا عند معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية بعد ظهر يوم الجمعة 6 ديسمبر/كانون الأول 2024، لكن السوريين في هذه المنطقة التابعة لمحافظة إدلب لم يكترثوا للبرد الشديد ذلك الوقت بسبب الحماس والأخبار المتواترة من جبهات القتال الذي اندلع قبل أقل من 10 أيام بدءا من ريف إدلب وحلب، بعدها تحرك الثوار في الجنوب وتحررت درعا.
الآن تردهم الأخبار من حماة بسقوطها في قبضة الثوار، لتتعلق العيون والقلوب بمعركة حمص، التي اعتقد الجميع أن نظام الأسد سيتمسك بها بأي ثمن لوقف الزحف الهادر للثوار.
وبالقرب من باب الهوى، بجانب سيارة مصفحة، كانت تقف مجموعة صغيرة من الرجال الذين لا يبدون منزعجين من البرد، ولا يظهر عليهم أنهم من أهل البلاد أصلا، في بدلات رسمية تغلف وجوههم صرامة ووجوم في انتظار لقاء نسّقه الأتراك مع أحد قيادات المقاتلين لا أحد منهم يعرف وجهه، ولا يعرفون سوى أن اسمه زيد العطار. هو ليس اسمه الحقيقي، فقد عرفوه في السابق بأسماء عديدة، فهو نسيم، وحسام الشافعي، وأبو عائشة الكردي، وأبو عمار الشامي.
جاء العطار، بلحية مهذبة وملابس مرتبة، ولولا جفونه المثقلة من إرهاق السهر المتواصل لما توقع أحد أن الرجل المتوسط القامة المبتسم الوجه يشارك في قيادة معركة ضروس ستحدد مستقبل بلاده والمنطقة. تحرك الجميع سريعا إلى مقر قريب لهيئة تحرير الشام، حيث انعقد اجتماع لا نعلم عنه سوى ما قاله العطار نفسه لاحقا.
في الاجتماع الذي جمع ممثلين روسًا مع العطار وبعض مرافقيه، سأل الروس عن توقعات العطار بشأن وصول الثوار إلى دمشق. "48 ساعة" قال الرجل الذي كان شديد التفاؤل إلى الحد الذي أدهش الروس ومرافقيه معا.
ربما كان الروس يفكرون في الخطوة القادمة، أو ما إذا كان عليهم أن يُلقوا بثقلهم -إن وُجد- لإسناد مِنسأة النظام التي أُكلت وأوشكت أن تُسقطه فيسقط. لكن العطار طمأنهم أن موسكو لن تخسر دمشق الثورة، ومع ذلك فهِم الروس أنهم قد يخسرون سوريا إن استثمروا قشة أخرى لإبقاء النظام.
انتهى الاجتماع، وعاد العطار إلى مقر القيادة ليخبر قائده "أبو محمد الجولاني" بما دار مع الروس، وعندما سمع الجولاني تقييمه قال، في واقعية تعلمها من مفاجآت الحرب الطويلة، "نحتاج 10 أيام للسيطرة على دمشق، لا 48 ساعة". لكن خلال أقل من 36 ساعة تغير كل شيء.
هرب بشار الأسد في جنح الظلام، وصلى "الجولاني" صلاة الفتح في الجامع الأموي بدمشق، وعلم الناس بعدها أنه أحمد الشرع، رئيس البلاد الجديد. أما زيد العطار، فلعل تواصله مع الروس كان سببا إضافيا في قرارهم بالتخلي عن النظام الساقط.
لم يكن ذلك أول انتصار دبلوماسي للعطار، لكنه كان آخر انتصاراته قبل أن يتخلى عن أسمائه المستعارة، ويقدم نفسه للسوريين وللعالم باسمه الحقيقي: أسعد حسن الشيباني، وزير الخارجية السوري الجديد.
بعد هذا اليوم بأحد عشر شهرا، وفي ظهيرة غائمة باردة أيضا، لكن في لندن هذه المرة، كان أسعد الشيباني يقف داخل قاعة تشاتام هاوس، مركز الدراسات والسياسات الأعرق في بريطانيا، كان يتحدث بإنجليزية سليمة ذات لكنة عربية واضحة، يتحدث باستعارات أدبية ويستحضر مبادئ معاهدة وستفاليا في القرن السابع عشر عن سيادة الدولة.
وكان الدبلوماسيون ومحللو الاستخبارات وصانعو السياسات يريدونه للتحدث إليه، لو لم تعرفه من قبل لما فرّقته عن أي تكنوقراطي غربي النشأة، أو دبلوماسي تدرّب في دهاليز الأمم المتحدة أو مكاتب الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
قبل أقل من عام، كان الدبلوماسيون وأجهزة الاستخبارات وصانعو السياسات يريدون الشيباني، لا للتحدث إليه كرجل دولة، بل كهدف ثمين. فالرجل كان أحد المؤسسين الأوائل لجبهة النصرة، وكان هو نفسه أحد مهندسي مشروع الحكم الذي أقامته الفصائل في إدلب. وكان أيضا أحد الوجوه التي رفعت السلاح طويلا وقال إن جهاده لتحقيق أهداف سياسية.
لكنّ الأهم، أنه في الوقت الذي يُنظر فيه إلى صعود هيئة تحرير الشام وإلى الإطاحة بنظام الأسد من زاوية عسكرية بحتة، من حيث تكتيكات القتال، وتمدد الفصائل، وإدارة الصراع داخل البيئة الجهادية، كانت هناك أدوار دبلوماسية مهمة، ربما ليست بأهمية التقدم العسكري على الأرض، لكن بطلها كان أسعد الشيباني.
أما الآن، وبعد أن توقفت البراميل المتفجرة، وسكت هدير الطيران الروسي، فإن بقاء هذه الحكومة ثم إعادة تأهيلها دوليا معقود بناصية الشيباني وفريقه. فهو يمثل نموذجا جديدا ومحيّرا للأصدقاء والأعداء على السواء، "الدبلوماسي الجهادي"، الذي يستخدم لغة ليبرالية غربية لضمان مستقبل مشروع وُلد في أحضان السلاح.
"ما وهنّا، ما وهنّا.. نحن أحفاد المثنى"، إذا كنت من متابعي الحالة الثورية الجهادية في سوريا، فلابد أن هذا النشيد قد طرق سمعك في وقت ما، الثوار وغيرهم كانوا يرددونه في أحيان كثيرة، ولن يكونوا أحفاد المثنى، غير أن وزير خارجية سوريا الجديد بالفعل من أحفاد المثنى الذي قاد بعض فتوح العراق واستُشهد فيها.
يمكن لهذا النسب أن يعطيك لمحة عن البذرة التي تجعل منه شخصا صلبا، لكنْ لفهم براعته الدبلوماسية، لا بد من العودة إلى الطبقات الأولى التي شكّلت بنيته الاجتماعية والفكرية. فأسعد الشيباني ليس نتاج الريف الفقير الذي كوّن القاعدة العريضة للثورة السورية في بداياتها، ولا هو من أبناء البرجوازية الثرية التي شكّل معظمها سندا تقليديا للسلطة. إنه ابن مساحة اجتماعية وسطى، ربيب منطقة رمادية بين عالمين.
وُلد الشيباني عام 1987 في قرية أبو راسين بريف الحسكة الشرقي، وينتمي إلى قبيلة بني شيبان. وهذا الانتماء ليس تفصيلا عابرا؛ فالقبيلة التي انتمى إليها المثنى بن حارثة الشيباني، هي واحدة من بطون بكر بن وائل، ولها حضور تاريخي يمتد إلى العراق وشبه الجزيرة العربية. وفي خريطة العلاقات القبلية المعقدة في سوريا، تحظى بنو شيبان بوزن يتجاوز الحدود، يجعل اسمها موضع احترام في عموم منطقة الجزيرة وعند من يعرف أنساب العرب.
لعل هذا الجذر القبلي منح الشيباني منذ طفولته معرفة فطرية ببُنى السلطة التقليدية، من القرابة، الشرف، الوساطة، والتي حكمت مناطق واسعة ظَل حضور الدولة فيها هشا. هذه البُنى كانت شديدة الأهمية في التفاوض وحل النزاعات القبلية، وزرعت فيه هوية تسبق الدولة البعثية نفسها، وتشكّل لاحقا رصيدا اجتماعيا استند إليه في مفاوضاته مع وجهاء الفرات وقادة الفصائل في الشمال السوري.
لكنّ الشيباني لم يبقَ في الهامش القبلي في ريف الحسكة. فقد انتقلت عائلته إلى دمشق، ليجد نفسه في قلب المشهد الحضري خلال مرحلة الجمود السياسي في السنوات الأخيرة من حكم الأسد الأب والابن. وهناك اكتسب ما سيجعله مختلفا جذريا عن كثير من رفاقه المستقبليين في العمل الثوري المسلح.
في دمشق، التحق الشيباني بجامعة دمشق وتخرّج عام 2009، أي قبل الثورة بعامين، حاملا شهادة في اللغة الإنجليزية وآدابها.
ولا يمكن التقليل من أهمية هذا التكوين. ففي حركة كثيرا ما سعت الأصوات لتصويرها كحركة متطرفة بلا وعي بالعالم أو تقدير للفنون، أو حتى ذات تركيز ديني صرف، قرأ الشيباني ويليام شكسبير وإرنست همنغواي وجورج أورويل، وتعلم اللغة الإنجليزية وربما القدرة على تحليل الخطاب، أو حتى صياغة خطاب يستبطن منطق لغة مختلفا، وأصبح قادرا على التعبير عن مطالب الثوار، وحجج المقاتلين، ومظلومية الشعب السوري بلغة يفهمها الغربيون.
لاحقا حافظ الشيباني على اهتمام أكاديمي، فبينما كان يتحرّك في العمل العسكري والإداري في إدلب، واصل مسيرته الأكاديمية على خط موازٍ. فحصل على ماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة صباح الدين زعيم في إسطنبول عام 2022، وكتب أطروحته في الوقت الذي كان يُنظر فيه إليه كوزير خارجية غير معلن لتنظيم تصنفه الولايات المتحدة ودول أخرى على قوائم الإرهاب. وحتى بعد ذلك واصل دراسة الدكتوراة.
بشكل ما يمكن اعتبار أسعد الشيباني، الدبلوماسي، والمقاتل، والشرعي، ودارس الآداب الإنجليزية ممثلا حقيقيا عن تعدد أوجه الثورة السورية. فهي الثورة التي بدأت جزءا من حراك سلمي عربي أوسع، تطالب بما يطالب به الأحرار في العالم، إلى ثورة مسلحة بعد أن قمعها النظام بوحشية، وبالاعتماد على مليشيات طائفية، لتمر بمراحل يظهر فيها الصراع بين مكوناتها، أو جهات ترد وحشية النظام بوحشية مقابلة، أو تغلب فيها الدبلوماسية على تحركات أفرادها في الداخل والخارج، أو حتى يبرز فيها فن الحكم والإدارة باعتباره أساس العمل وذروة سنام الثورة في المناطق المحررة.
لم يكن الشيباني ملتحقا متأخرا بالثورة أو حتى بالنضال المسلح فيها، فقد كان عضوا مؤسسا في جبهة النصرة، إلى جانب أحمد الشرع. وهذا ما يضعه في نواة المشروع الجهادي في بلاد الشام منذ سنوات الثورة الأولى. وحينها عمل تحت أسماء مستعارة مثل نسيم وأبو عائشة. كانت هذه هوياته التي يتحرك عبرها داخل العمل السري وسط بيئة تعج بعملاء استخبارات النظام.
وبلا ذكر تفاصيل كثيرة منثورة في صدور الثوار وعقولهم، وفي صفحات ذاكرة الثورة السورية ومواقع التاريخ الشفهي، فمع اتساع الحرب، وتحول الخلافات بين النصرة والقاعدة، ومعها صراعها مع تنظيم الدولة (داعش)، إلى شقّ تنظيمي عميق، ظهر الشيباني تحت اسم حسام الشافعي.
بهذا الاسم لعب الشيباني دور الناطق الرسمي باسم جبهة فتح الشام -التي تأسّست بعد إعلان انفصال النصرة عن القاعدة عام 2016-. وكان دوره محوريا في الداخل والخارج، فهو الوجه الذي أوكلت إليه مهمة إعادة تقديم التنظيم المنفصل حديثا عن القاعدة، وإقناع الشارع السوري والحلفاء المحتملين والعالم من خلفهما بأن الحركة بصدد "سورنة" نفسها وخلع عباءتها الجهادية العابرة للحدود.
وفي الوقت نفسه، كان على قيادة الحركة طمأنة القاعدة الصلبة من المقاتلين وأنصار الجبهة بأن هذه المرونة السياسية ليست تخليا عن الدين ولا خيانة للثورة.
في هذه الفترة، كان الشيباني يتحرك على خطّين متوازيين، الأول يتبنى خطابا يُظهِر هيئة تسعى إلى الاندماج في المجتمع السوري، وخطّ تفاوضي خلفي يتعامل مع لحظة مفصلية في الحرب، فقد شكّل اتفاق "المدن الأربع" إحدى أبرز الساحات التي ظهر فيها دوره الحقيقي.
وكانت المفاوضات معقدة ومتعددة الأطراف، وفي قلبها الوساطة القطرية التي حاولت تفكيك حصار مضايا والزبداني مقابل إخراج سكان الفوعة وكفريا. هنا كشف عن وجه آخر هو وجه المُفاوض الذي يدير شبكة مصالح دقيقة بين متطلبات الميدان وضغوط الخصوم والوسطاء.
وما ميّز تلك المرحلة أن الشيباني كان يُختبَر سياسيا للمرة الأولى. فقد أثبت أن الحركة قادرة على التحدث بلغة تتجاوز السلاح، وأنها رغم جذورها الجهادية تستطيع إدارة ملفات معقدة على مستوى إقليمي. كانت هذه لحظة اختبار لمدى قدرة الحركة على أن تتصرف كفاعل سياسي مسؤول.
لكن تلك التجربة بكل تعقيداتها فتحت أمام الشيباني بابا أوسع بكثير. فقد أظهرت أن الرجل قادر على لعب دور يتجاوز وظيفة المتحدث باسم الجبهة إلى التفاوض باسمه والتوقيع على الاتفاقات مع الفرقاء والأطراف المعنية.
ومع تزايد اللقاءات غير المعلنة مع وسطاء ومسؤولين أتراك وباحثين غربيين، بدأت ملامح شخصية أخرى تتشكل أمام العالم، شخصية أكثر هدوءا، وأكثر دقة في التصريحات واستخدام الألفاظ، وأكثر قابلية لتقديم مشروع سياسي. كانت تلك هي البذرة الأولى لظهور قناع الشيباني الجديد الذي سيحمل اسم زيد العطّار.
في هذه المرحلة شغل الشيباني منصب رئيس الإدارة السياسية في حكومة الإنقاذ بإدلب. وكانت سنوات 2017- 2024 المعترك الذي أظهر فيه براعته في إدارة التواصل الخارجي، وملفات أخرى متعددة تقول بعض المصادر إنها شملت وزارات مختلفة في حكومة إدلب.
ففي الوقت الذي كانت فيه بعض القوى الإقليمية والدولية تنظر إلى تجربة إدلب بوصفها جيبًا للجهاديين، كان الشيباني أحد أهم الوجوه التي يتحدث معها الدبلوماسيون الغربيون، والباحثون، وضباط المخابرات، ويرسمون من خلاله تصورا جديدا ليصدروا حكما مختلفا على التجربة بأكملها. كان الشيباني وزارة خارجية مصغرة قبل وقت طويل من أن يصبح وزيرا للخارجية.
في إدلب كانت مهامه واضحة لكنها كانت شديدة الصعوبة، وفي القلب منها كان يريد منع روسيا ونظام الأسد من القضاء على إدلب عبر جعل هيئة تحرير الشام طرفا لا يمكن تجاوزه في الحسابات الدولية والإقليمية.
وقد أدركت الحركة مبكرا أن هذا لن يتحقق إلا بالتحكم في الملفات التي تهم الغرب أكثر من غيرها، فأشرف الشيباني على التنسيق مع وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، لضمان استمرار تدفق المساعدات، مع بقاء حكومة الإنقاذ في موقع المراقبة والإشراف.
وساعدته هيئة تحرير الشام بنجاحاتها العسكرية أيضا، فقد أثبت أحمد الشرع في تلك المرحلة قدرته على حسم الخلافات، والسيطرة على السلاح، وهو ما مكّن الشيباني من تقديم الهيئة باعتبارها القوة الوحيدة القادرة على ضبط الأوضاع وكسب الأرض من الفاعلين غير العقلانيين.
وأخيرا، كان ملف اللاجئين والتعاون مع الأتراك أحد الملفات الأساسية التي برع فيها الشيباني نيابة عن هيئة تحرير الشام وأحمد الشرع. فمن خلال تأمين الهيئة للحدود السورية التركية بتنسيق لصيق مع الأتراك، وبحضور عسكري تركي في الداخل السوري، ومن خلال الإدارة الفعالة عالية الكفاءة للحياة اليومية للسوريين في إدلب، وفّرت الهيئة منطقة عازلة تمنع حدوث موجات لجوء جديدة، بل وتستقبل العائدين، وهو ما كان مكسبا كبيرا لأوروبا وتركيا.
وباسم زيد العطار، عقد الشيباني اجتماعات سرّية في تركيا مع باحثين ودبلوماسيين ومسؤولين أمنيين غربيين. كان يعمل ببطء وبنظرة بعيدة على تكسير الصور النمطية والأسوار العالية المحيطة بالهيئة وبتجربتها في إدلب.
ومع الوقت، أقنع الشيباني من يلتقيهم بأنه ليس "الوجه العاقل" الاستثنائي في الحركة، بل هو يمثل تيارها العام، غير أنه أقدر على شرح تعقيدات الواقع السوري والفقه الجهادي بلغة يفهمها دارسو العلاقات الدولية وخبراء الأمن.
بلغت دبلوماسية الظل التي مارسها أسعد الشيباني ذروتها في تلك الأيام الباردة المحمومة من أواخر عام 2024. فمع تقدّم الهجوم الذي قادته هيئة تحرير الشام في حلب وحماة، بدأت ترتجف ركائز النظام، لا نظام الأسد، بل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط كله. وبينما كان أحمد الشرع يدير العمليات العسكرية، كان الشيباني يخوض معركة دبلوماسية لضمان أن يكون النصر قابلا للاستمرار.
كان اللقاء الذي بدأنا به المقال، والذي عُقد عند معبر باب الهوى على الحدود التركية لحظة حاسمة في هذا التحوّل. فمع اقتراب الثوار من دمشق، نجح الشيباني في ترتيب اجتماع مع مسؤولين روس رفيعي المستوى. كان سياق اللقاء بالغ الخطورة فقد حافظ الروس على وجود جوي في قاعدة حميميم.
وقال الشيباني لاحقا: إن الروس "كان بإمكانهم تدمير كل ما بنيناه" إذا تدخلوا بقوتهم الجوية الضاربة. وقد روى لاحقا تفاصيل هذا اللقاء قائلا إن الحديث مع المبعوث الروسي كان أشبه بـ"الحديث مباشرة مع الرئيس فلاديمير بوتين".
وخلاف نبوءة الـ48 ساعة التي قدمها الشيباني للروس، كان الجانب الأكثر أهمية في تلك اللحظة هو المنفذ الإستراتيجي الذي عرضه على موسكو. فقد قال لهم "سقوط نظام الأسد لا يعني أن على روسيا مغادرة سوريا.. لا تربطوا مستقبلكم ببشار. هو عابر. هناك حكومة قائمة يمكنكم بناء علاقة معها".
كانت هذه ذروة براغماتية الشيباني، أو "مرونته" إن كانت كلمة "البراغماتية" ذات وقع سلبي على أذنك، فقد أدرك أن التزام روسيا لم يكن بشخص الأسد، بل بمصالحها الإستراتيجية على البحر المتوسط. وبضمان سلامة تلك المصالح، نزع فتيل القوة الجوية الروسية وفتح الطريق إلى دمشق.
وبُعيد انهيار النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، انعقد "مؤتمر انتصار الثورة السورية" الذي أُعلن فيه التحوّل رسميا. اختفت الوجوه التي ترتدي البزّات العسكرية لتحلّ محلها شخصيات ترتدي بدلات رسمية.
وفي 21 ديسمبر/كانون الأول 2024 عُين أسعد الشيباني وزيرا للخارجية والمغتربين. ومع تسلّمه منصبه، بدأ على الفور ترسيخ الطابع للمرحلة الجديدة. فعقد مؤتمرات صحفية في أروقة وزارة الخارجية، ووقف تحت العلم السوري الجديد، وتحدث عن بناء المؤسسات، والتعددية، والمواطنة، وإعادة الإعمار. في فصل الثورة الأخير، عاد أسعد حسن الشيباني إلى اسم أبيه وسيرته الأولى.
في الأشهر التي تلت سقوط النظام وتولي الشيباني منصبه، بدأت ملامح عقيدة سورية جديدة في السياسة الخارجية تتسم بالبراغماتية الحادة في التشكل. يرفض الشيباني الجمود الدبلوماسي الذي حكم مسار سوريا الأسد لـ6 عقود، سواء في طورها البعثي الأول مع المعسكر الشرقي، أم في محور المقاومة، ولذلك فهو لا يرى سوريا الجديدة محكومة بالبقاء رهن سردية "الجهاد العالمي" وصوره النمطية.
بشيء من الترخص، يمكن وصف السياسة الخارجية السورية الجديدة مع الشيباني لا بسياسة فك الارتباط عن أطراف بعينها، بل سياسة فرط الارتباط بكل الأطراف الممكنة.
في مقابلة تشرح فلسفة الرجل قال الشيباني إن حكومته "لا تؤمن بالمَحاور"، وتابع بالقول "إننا مثل هوائيّ، نوجه لاقط الإشارة حيثما تكمن مصلحة سوريا". وهذا خطاب شديد الاختلاف عن الخطاب الثوري أو الجهادي المغرق في المثالية.
ورغم أن هذا الموقف قد يظهر كتخل عن مبادئ بعينها، يصف الشيباني سياسته بـ"الدبلوماسية الصادقة"، التي تعتمد على مقاربة تستثمر الموقع الجغرافي لسوريا وقيمتها الإستراتيجية من أجل انتزاع الضمانات الأمنية وعقد التحالفات مع كل اللاعبين من غير أن ترهن نفسها لراع واحد.
فمثلا، لا يمكن الاستغناء عن تركيا في الحسابات السورية الجديدة، لكن العلاقات السورية التركية تبدو مبنية على الشراكة والتفاهم أكثر مما هي مبنية على التبعية. فالتناغم بين أنقرة ودمشق اليوم شبه كامل، وهو أمر لا يمكن القول إن الفضل فيه يعود للشيباني وحده، لكنه أحد الوجوه الرئيسية التي تحافظ على هذا التناغم.
زيارة أسعد الشيباني الأولى إلى أنقرة مطلع 2025، وزيارة الشرع سريعا كذلك، والاستقبال الرسمي الذي حظي به من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، شكلت إشارة مبكرة إلى أن دمشق الجديدة تُعامَل كندٍ سياسي. وقد أسست تلك الزيارة للجان مشتركة تعالج ملفات الحدود وعودة اللاجئين والأمن الإقليمي بطريقة مؤسساتية لم تكن ممكنة في زمن الفصائل.
ويكفي النظر إلى عملية دمج فصائل الجيش الوطني ضمن هيكلية وزارة الدفاع السورية، كي يتضح أن العلاقة باتت تقوم على تسليم تدريجي بالسيادة السورية، لا على إعادة إنتاج مناطق نفوذ منزوعة الهوية.
وما عزّز هذا الاتجاه أيضا هو التفاهم الثلاثي الذي تشكّل خلال 2025 بين دمشق وأنقرة وواشنطن حول ملف قوات سوريا الديمقراطية. فقبول تركيا بفكرة إدماج وحدات كردية ضمن الجيش السوري، ومنح بعض قادتها تسويات بضمانة دمشق، كان دليلا على أن أنقرة باتت ترى في الحكومة الجديدة شريكا قادرا على إدارة أخطر ملفات الأمن القومي التركي.
ويدير الشيباني وحكومته العلاقة مع روسيا بذكاء كذلك، فلا يزال الوجود العسكري الروسي على الأراضي السورية يمثل مفارقة سيادية. ويتعامل الشيباني مع هذا الملف بمنهج التفاعل باحترام لكل الأطراف.
وكانت زيارته لموسكو في يوليو/تموز 2025 في أول زيارة لمسؤول سوري بعد الأسد لحظة فارقة، فلقاؤه مع بوتين ولافروف أرسل للسوريين وللغربيين رسائل كثيرة منها أن الحرب انتهت، وأن سوريا لا تتبنى الموقف الأميركي من روسيا، بل وأن الخصم السابق بات شريكا محتملا.
في واحدة من تعليقاته وصف الشيباني الدعم الروسي السابق للأسد بأنه "خطأ يمكن تصحيحه"، مانحا موسكو مخرجا مشرّفا لتبقى لاعبا محوريا في سوريا والمنطقة من دون الالتصاق بالديكتاتور الـ"عابر".
أما مع إيران فالأمر يبدو أعقد بكثير، فالدعم الإيراني كان الشريان الرئيس لنظام الأسد لسنوات قبل التدخل الروسي، وكان لتضافر العوامل الدينية والطائفية أسوأ الأثر في النظرة المتبادلة بين الطرفين.
ومنذ اللحظة الأولى لسقوط النظام، أدرك الشيباني أن التعامل مع إيران يتطلب معادلة حساسة، فهو لا يمكن أن يطبّع معها، ولا يمكن له أن يحاربها أيضا ولا يمكن لإيران أن تحاربه في ظل الظرف الإقليمي الحالي.
وكانت إيران بالفعل قد دخلت مرحلة انسحاب تكتيكي قبل سقوط نظام الأسد بأيام، بترتيب شارك فيه وسطاء، ورجال من التيار العسكري داخل هيئة تحرير الشام، الأمر الذي سمح لطهران بالخروج من دمشق من دون خسائر كبرى.
كان الأمر واضحا من البداية للإدارة السورية الجديدة وللإيرانيين، فلن يكون هناك نفوذ عسكري إيراني، ولا وجود لمليشيات أو مجموعات مسلحة من غير الدولة، وفي المقابل ستكون هناك مرونة في العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية غير الحساسة. فالخروج الكامل للمليشيات الإيرانية كان شرطا مسبقا لبناء المنظومة الأمنية الجديدة، لكنه لم يشمل القنوات السياسية غير المباشرة التي ظلت مفتوحة عبر الدوحة وأنقرة وربما مسقط وبغداد.
ومع أن الإعلام الإيراني ما زال يصوّر الشيباني باعتباره جهاديا أعيد تدويره بتفاهمات مع قوى الاستكبار، أدركت طهران أن قدرة الإدارة الجديدة على الإمساك بجهاز الدولة وعلى ضبط الفصائل في الجنوب والشمال، يجعل منها شريكا واقعيا لا يمكن تجاهله. الشيباني من جهته لم يمنح إيران أكثر من نافذة سياسية صغيرة تكفي لاحتواء التوتر، ولا تسمح لها بالعودة كلاعب مهيمن.
أما المفاجأة التي لفتت أنظار العالم، فقد كانت الانعطافة التي أخذتها الإدارة السورية باتجاه الولايات المتحدة. فلم يدخر كوادر الخارجية السورية ودبلوماسيوها جهدا للتأكيد أنه إذا كانت روسيا الشريك الذي ورثناه، فإن أميركا هي الشريك الذي نريده. أرادت الدبلوماسية السورية في البداية أهدافا محددة قبل البحث عن المزيد من الإنجازات.
كان الهدف الأول هو رفع العقوبات القاسية التي أرهقت كاهل البلاد وعلى رأسها قانون "قيصر"، والثاني هو إزالة تصنيف قيادات الدولة السورية الجديدة من على قوائم الإرهاب الأميركية. لاحقا زار الشيباني واشنطن في سبتمبر/أيلول 2025 أول زيارة لمسؤول سوري منذ 25 عاما، ومهد الطريق لزيارة الشرع إلى البيت الأبيض ليكون أول رئيس في تاريخ الجمهورية السورية يزور واشنطن.
ويبدو أن التقارب الأميركي السوري ينبني على التعاون الاستخباراتي أيضا. فتشير تقارير إلى أنه قبل سقوط دمشق، نسّق الشيباني تعاونا عميقا مع جهات غربية وأميركية لاستهداف خلايا تنظيم الدولة.
وقد استطاع الأميركيون من خلال دراسة الحالة الجهادية والإدارية في إدلب اختبار قيادة هيئة تحرير الشام، والتوصل إلى نتيجة اعتبارهم شركاء محتملين، حتى قبل وصولهم إلى السلطة في دمشق.
لكنْ مرة أخرى، لا تنضوي سوريا الجديدة تحت جناح راع وحيد. فقد اتجه الشيباني بقوة نحو الصين، وأفضت زيارته للصين في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 إلى تفاهمات واضحة تؤكد أنه ليس معنيا بتبني الرؤية الأميركية تجاه العالم.
فقد أكد الشيباني علنا، وفي بيانات رسمية، التزام سوريا بمبدأ "الصين الواحدة"، واعتراف دمشق بحق بكين في تايوان، وهو الأمر الذي يعطي لسوريا أوراقا تفاوضية مع الغرب، ويُعَد بادرة حسن نية للصينيين الذين يستثمرون في المنطقة بقوة، بل ويسعون إلى بناء نظام عالمي جديد.
ولعل الشيباني وفريقه يراهنون على أن الاستثمارات الصينية في البنية التحتية قادرة على إعادة تشغيل الاقتصاد السوري بسرعة تفوق أي مساعدات غربية مشروطة.
لعل الملف الأكثر تعقيدا الذي ورثه الثنائي الشرع والشيباني هو ملف العلاقة مع إسرائيل. فبينما كانت شرعية النظام السابق تستند (ولو نظريا على الأقل) إلى خطاب الممانعة، تتبنى سوريا الجديدة عقيدة مبنية على "الغموض البنّاء" وتقديم "سوريا أولًا".
كان تصعيد إسرائيل في الجنوب عقب سقوط النظام، ودخول قواتها إلى جيوب داخل محافظة القنيطرة والسويداء ودرعا، الاختبار الأول للحكومة السورية الجديدة. وبينما كانت أنظار العالم تتوقع مواجهة، اتجه الشيباني إلى قناة دبلوماسية تقودها واشنطن، وبدأت مفاوضات غير مباشرة عبر الأردن وقبرص لتهدئة الوضع أو تثبيته على الأقل.
لا يثق الإسرائيليون بالقيادة السورية ولن يثقوا بها في أي وقت قريب مهما بدا غير ذلك، لكن الشيباني وفريقه استطاعوا أن يقنعوا بعض الأطراف الدولية، ومنها أطراف في الإدارة الأميركية نفسها، بأن سوريا لا تشكل تهديدا على "جيرانها".
بالنسبة لأحمد الشرع وأسعد الشيباني، لا تمثل إسرائيل في المرحلة الراهنة هدفا عسكريا بالفعل، بل واقعا جيوسياسيا يجب تحييده للتفرغ لإعادة الإعمار. مرة أخرى، لن تسمح إسرائيل بوجود دولة سورية قوية.
لكنْ تشير التحليلات إلى أن الشيباني من خلال لقاءاته المتعددة مع مسؤولين إسرائيليين هندس معادلة يريد منها التهدئة في الجولان مقابل عدم عرقلة إسرائيل للمسار الانتقالي في دمشق.
في المقابل، يرى نتنياهو أشباحا في كل مكان، فبعد ضربة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. تنظر المؤسسة الأمنية في تل أبيب إلى التغيير في دمشق بمزيج من الارتياح التكتيكي والقلق الإستراتيجي.
والارتياح نابع من الضربة القاصمة التي تلقاها النفوذ الإيراني؛ فسقوط نظام الأسد يعني بالنسبة لإسرائيل قطع الجسر البري الذي كان يمد حزب الله بالسلاح، وتفكيك البنية التحتية للحرس الثوري على الحدود الشمالية.
في المحصّلة، يُعد أسعد الشيباني التجسيد الحي للشكل النهائي والمعقد للثورة السورية. وبعيدا عن الأحكام القيمية، فقد حققت "دبلوماسيته الصادقة" -كما سماها- ما بدا مستحيلا قبل أشهر قليلة، وهو بقاء حكومة يقودها إسلاميون من أقصى اليمين في قلب المشرق العربي، يعترف بها الغرب ويستقبل قادتها، وتتقبلها روسيا وتتحالف معها، وتمولها الدول العربية الغنية.
لقد نجحت الدولة السورية الجديدة من خلال تبني دبلوماسية تحولها إلى مرآة تعكس ما يريده كل حليف محتمل. فبالنسبة للأميركيين، هو شريك مكافحة الإرهاب الذي سحق تنظيم الدولة. وبالنسبة للروس، هو البراغماتي الذي حمى قواعدهم في وقت كان يمكن للأمر أن يتم إخراجه بشكل أسوأ بكثير.
وبالنسبة للأتراك، هو الحليف المخلص الذي أمّن الحدود ويحجز الأكراد وإسرائيل. وبالنسبة للحاضنة السنية السورية، فهو الثوري الذي دخل دمشق والدبلوماسي الذي يدافع عنها في العالم ضد ادعاءات أعداء الخارج، أو حتى فرقاء الداخل.
لكنّ المرآة لا عمق لها ولا حقيقة تميزها. لذلك فالسؤال الذي سيظل يلاحق الشيباني، من أصدقائه وأعدائه، هو ما إذا كان قادة الحكومة التي يمثلها قد تحولوا حقا، أم أنهم تعلموا لغة النظام الدولي كي يحفظوا ثورتهم من مصير الثورات التي ضاعت.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة