في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في تغيير جذري عن إستراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2022 التي دعت إلى تعزيز الديمقراطية في ظل النظام العالمي الحالي، نشرت إدارة الرئيس دونالد ترامب ، أمس الجمعة، إستراتيجية جديدة شددت على مبدأ عدم التدخل ووضع "أميركا أولا".
وتصدر كل إدارة أميركية تقريبا إستراتيجية للأمن القومي، تعد بمثابة البيان الأشمل الذي يُعرف كيف ترى الولايات المتحدة العالم، وما تعتبره تهديدا أو فرصة، وما الأدوات التي تعتزم استخدامها لحماية مصالحها.
ويعود هذا التقليد إلى قانون الأمن القومي لعام 1986، الذي ألزم البيت الأبيض بتقديم وثيقة دورية إلى الكونغرس تشرح التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية والدفاعية، وتعتبر مرجعا لتحديد أولويات الإدارة الأميركية، سواء بما يتعلق بتحديد الخصوم أو شكل استخدام القوة العسكرية أو دور التحالفات.
ولا يعد إصدار إستراتيجية جديدة أمرا روتينيا بالنسبة إلى الإدارات الأميركية، بل تكشف عن التحول في نظرة الولايات المتحدة لطرق صياغة مكانها في النظام العالمي.
تكشف إستراتيجية ترامب الجديدة عن قطيعة نسبية مع النهج الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة وحتى النسخة الأولى من "أميركا أولا" خلال الفترة الرئاسية الأولى لترامب عام 2017.
فبدلا من الانطلاق من فكرة قيادة أميركية لنظام دولي ليبرالي يرتكز على توسيع التحالفات والمؤسسات متعددة الأطراف، تنطلق الوثيقة من فكرة أن العالم مؤلف من دول قومية ذات سيادة، وكل دولة معنية أولا بحماية حدودها وهويتها ومصالحها الاقتصادية.
وفي هذا السياق، حمّلت الإستراتيجية الجديدة ما تصفه بـ"نخب السياسة الخارجية" مسؤولية تبديد القوة الأميركية في حروب طويلة با لشرق الأوسط ، وفي التوسع غير المدروس للالتزامات الأمنية في أوروبا وآسيا، وفي التهاون مع آثار العولمة على الطبقة الوسطى الأميركية.
ويتمثل التغيير الأبرز في أن "قضية الهجرة" صارت في قلب مفهوم الأمن القومي، رابطة بين أمن الحدود، والجريمة المنظمة، والمخدرات، والضغط على الهوية الثقافية الأميركية، لتضع هذا الملف في مرتبة تهديد لا تقل عن منافسة القوى الكبرى، معلنة أن "عصر الهجرة الجماعية يجب أن ينتهي".
كما تعيد الإستراتيجية تعريف السياسة الخارجية كامتداد مباشر لبرنامج داخلي اقتصادي واجتماعي يقوم على إعادة التصنيع، واستعادة الهيمنة في مجال الطاقة، وتقليص الاعتماد على الخصوم في التكنولوجيات الحساسة وسلاسل التوريد.
بالنسبة إلى الشرق الأوسط، تتعامل الوثيقة الجديدة معه بوصفه "إقليما تراجعت ضروريته الإستراتيجية للولايات المتحدة" دون أن يفقد أهميته بالكامل.
وفسرت ذلك بأن حاجة واشنطن إلى نفط المنطقة تراجعت مع تحولها إلى منتج ومصدّر للطاقة، بالإضافة إلى أن الشرق الأوسط "لم يعد ذلك المصدر الدائم للإزعاج والمصدر المحتمل لكارثة وشيكة كما كان. بل إنه يظهر الآن كمكان للشراكة والصداقة والاستثمار وهو اتجاه ينبغي الترحيب به وتشجيعه"، حسب الإستراتيجية.
مع ذلك أكدت أن إمدادات الطاقة العالمية، وأمن إسرائيل، وحرية الملاحة عبر مضيق هرمز وباب المندب والبحر الأحمر ، ما زالت تُعتبر "مصالح حيوية" تستوجب حضورا عسكريا وسياسيا أميركيا.
واعترفت الإستراتيجية بأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يزال معقدا، لكنها أشادت بسعي ترامب نحو السلام من خلال اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ بقطاع غزة في 10 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
كما اعتبرت أن إيران خسرت الكثير من قوتها في المنطقة جراء حرب الـ12 يوما في يونيو/حزيران الماضي، مصورة طهران بأنها "تهديد يجب احتواؤه لا استئصاله".
وذكرت الإستراتيجية أن مكافحة التطرف بالمنطقة يكمن بتخلي واشنطن عن سياساتها القديمة التي قادتها إلى حربي العراق وأفغانستان، أو المتمثلة بالضغط على الدول لتغيير نظام حكمها.
تضع الإستراتيجية الأميركية الجديدة نصف الكرة الغربي، وتحديدا أميركا اللاتينية والكاريبي، في مرتبة متقدمة على بقية الأقاليم، معتبرة أن القرب الجغرافي يجعل الاستقرار في هذه المنطقة امتدادا مباشرا للأمن القومي الأميركي.
وتعتمد الوثيقة على إعادة إحياء صريحة تقريبا لـ"مبدأ مونرو"، الذي أعلنه الرئيس جيمس مونرو عام 1823، ونصّ على رفض أي تدخل أو توسع للقوى الأوروبية في الأميركيتين، مقابل امتناع الولايات المتحدة عن التدخل في الشؤون الأوروبية. ومع الزمن، تحوّل هذا المبدأ إلى قاعدة تَعتبر بموجبها واشنطن أن الأميركيتين "مجال نفوذ حصري" لا تُقبل فيه أي قوة عسكرية أو اقتصادية منافسة.
وفي الإستراتيجية الجديدة، يُعاد استخدام هذا المنطق، إذ تُحذّر الوثيقة من محاولات الصين وروسيا بناء نفوذ اقتصادي أو أمني داخل أميركا الجنوبية والكاريبي، وتربط ذلك مباشرة بمخاطر على الأمن الداخلي الأميركي، سواء عبر شبكات المخدرات أو الهجرة أو الاستثمارات التي قد تمنح بكين وموسكو مواطئ قدم دائمة في المنطقة.
لهذا، تتحدث عن تعزيز الوجود البحري الأميركي في البحر الكاريبي ، وتوسيع التعاون الاستخباراتي مع دول المنطقة، وتكثيف الضغوط السياسية والاقتصادية على أنظمة تُعتبر "معادية"، وعلى رأسها فنزويلا.
تبدلت زاوية النظر إلى الصين في الإستراتيجية الأميركية الجديدة، فالوثيقة لا تقدم العلاقة مع بكين على أنها مواجهة أيديولوجية بين "الديمقراطية والاستبداد" كما جاء في إستراتيجيات سابقة، بل بوصفها علاقة تعتمد على رهانات طويلة على الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا.
واعتبرت الإستراتيجية الجديدة أن التحدي الصيني "اختلال في ميزان القوة الاقتصادية" من خلال التقدم السريع في مجالات الذكاء الاصطناعي والاتصالات والسيطرة على سلاسل التوريد والمعادن النادرة والمواد الخام، ساعية إلى إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية، بحيث لا تعتمد الولايات المتحدة في صناعاتها على الصين، مع تشجيع نقل الإنتاج إلى داخل أميركا أو دول "قريبة وصديقة".
في الوقت نفسه، لا تغيب الحسابات العسكرية تماما، إذ تشدد الإستراتيجية على ضرورة ردع أي محاولة صينية لفرض أمر واقع جديد بشأن تايوان ، باعتبار أن السيطرة على هذه المناطق تعني عمليا قدرة بكين على خنق التجارة العالمية.
وبشأن الدول الأوروبية، تعتمد الإستراتيجية لغة هجومية غير معتادة تجاه حلفاء تقليديين. فهي تصف القارة بأنها تعاني "شيخوخة ديموغرافية" و"أزمة هوية".
وبخلاف الخطاب الأميركي الكلاسيكي الذي يقدم أوروبا كامتداد طبيعي للغرب السياسي، تتحدث الوثيقة عن احتمال "محو حضاري" إذا استمرت سياسات استقبال اللاجئين وتراكم القيود التنظيمية على الاقتصاد، وتضع هذا التوصيف في سياق تبرير مراجعة عميقة لدور الولايات المتحدة داخل القارة.
وكذلك تدعو الأوروبيين إلى تحمل المسؤولية الرئيسية عن دفاعهم، ورفع الإنفاق العسكري إلى مستويات أعلى بكثير مما هو متعارف عليه في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، كما تشكك في جدوى التوسع المستمر للحلف، وفي اعتباره تحالفا يمكن توسيعه بلا سقف جغرافي أو سياسي.
ولمّحت إلى أن دور واشنطن لن يبقى "مظلة مفتوحة" بلا شروط، بل سيخضع لمعادلة أكثر صرامة تتلخص بأنه "من يدفع أكثر، ويحمل عبئا أكبر، يحظى بالتزام أمتن".
تجسّد الإستراتيجية الحالية صياغة مكتملة لعقيدة "أميركا أولا"، حيث يُعاد ترتيب سلم الأولويات على النحو الذي يضع أمن الحدود، وإعادة بناء الطبقة الوسطى، وتعزيز القاعدة الصناعية والتكنولوجية في صدارة الاهتمامات، بينما تُعاد هيكلة الالتزامات الخارجية بما يخدم هذه الأهداف.
ويتضح ذلك في التركيز على نصف الكرة الغربي بوصفه "المجال الحيوي" للولايات المتحدة، حيث تسعى واشنطن إلى منع أي اختراق صيني أو روسي، مع إشارة واضحة إلى استعدادها لتوسيع حضورها البحري والعسكري في أميركا اللاتينية والكاريبي تحت عنوان مكافحة المخدرات والجريمة العابرة للحدود.
في المقابل، تتعامل الإستراتيجية مع آسيا من زاوية مزدوجة: المحيط الهادي كساحة ردع عسكري ضد الصين، والهند ودول جنوب شرق آسيا كسوق بديلة تتيح فك الارتباط الجزئي عن الاقتصاد الصيني.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة