تخيّل أن تقطع المسافة بين مدينة سيدني في أستراليا ولوس أنجلوس في الولايات المتحدة الأميركية، أي نحو 12 ألف كيلومتر، في زمن أقصر من مدة فيلم سينمائي، أو ربما أن تقطع طائرة مقاتلة المسافة بين واشنطن وبكين، والتي تساوي نحو 10 آلاف كيلومتر، في أقل من ساعة.
هذا "الحلم"، الذي طالما بدا أقرب إلى الخيال العلمي في أدبيات فيزياء وهندسة الطيران، قد يقترب اليوم من الواقع بفضل أبحاث جديدة حول الطيران بسرعات "فرط صوتية"، كما أوضحت دراسة جديدة في دورية "نيتشر كومينيكيشنز".
قد يبدو قطع نصف الكرة الأرضية في ساعة واحدة أمرا مستحيلا، إلا أن التكنولوجيا ليست بعيدة المنال كما تبدو. تصل بعض الطائرات العسكرية بالفعل إلى سرعات تعادل ماخ 2 أو ماخ 3، لكن الوصول إلى ماخ 10 يتطلب تجاوز تحديات هائلة، أهمها الحرارة الشديدة.
الماخ هو مقياس للسرعة يعتمد على سرعة الصوت، عندما نقول "ماخ 1″، فهذا يعني أننا نسير بسرعة تساوي سرعة الصوت، والتي تبلغ تقريبا 1235 كيلومترا في الساعة عند مستوى سطح البحر.
أما "ماخ 2″ فهو ضعف سرعة الصوت (حوالي 2470 كيلومترا في الساعة)، و"ماخ 6″ يعني 6 أضعاف سرعة الصوت (حوالي 7410 كيلومترات في الساعة)، و"ماخ 10" تتخطى 12 ألف كيلومتر في الساعة.
عند هذه السرعات، يتحوّل الهواء أمام الطائرة إلى بلازما بسبب السخونة الناتجة عن الاحتكاك.
إلى جانب ذلك، يتغيّر سلوك الهواء جذريا كلما ارتفعت السرعة، ففي السرعات المنخفضة، يبقى الهواء "غير قابل للانضغاط" تقريبًا، فتظل كثافته ثابتة. أما قرب سرعة الصوت وما فوقها، يصبح الهواء قابلا للانضغاط، أي يتغيّر في الكثافة والحرارة مع تغيّر الضغط، وهذا يربك حسابات الرفع والسحب والدفع.
إلا أن كل ما سبق من الممكن، على الأقل نظريا، التعامل معه، لكن هناك مشكلة طالما حيرت العلماء دائما في هذا النطاق، وتتعلق بتغير اضطراب الهواء مع زيادة السرعة بشكل غير قابل للتنبؤ.
لكن المفاجأة جاءت من فرضية قديمة تعود إلى منتصف القرن الماضي، وهي "فرضية موركوفين"، والتي تقول إن الاضطرابات الهوائية تحديدا، عند سرعات عالية جدا، مثل ماخ 5 أو ماخ 6، ليست مختلفة جذريا عن اضطرابات الهواء عند السرعات المنخفضة.
لو ثبتت هذه الفكرة، فهذا يعني أنه لا حاجة لنظرية جديدة بالكامل لفهم الاضطراب الهوائي، ويمكن استخدام مبادئ ديناميكا الهواء التقليدية مع تعديلات بسيطة فقط، ومن ثم يصبح تصميم طائرات تصل إلى ماخ 10 أسهل، لكن المشكلة كانت دائمًا أنه لا توجد تجارب قوية تثبت ذلك بشكل قاطع.
هنا جاءت الدراسة الجديدة، التي قادها باحثون من معهد ستيفنز للتقنية في الولايات المتحدة، حيث حقنوا غاز الكريبتون داخل نفق رياح بسرعة ماخ 6، واستخدموا ليزرا لتحويل الغاز إلى خط متوهج من الذرات المتأينة.
بعد ذلك، سجل الباحثون كيفية التواء هذا الخط وانحرافه باستخدام كاميرات عالية الدقة لرصد تفاصيل "الاضطراب" لحظة بلحظة، يشبه الأمر تتبع ورقة تطفو وسط دوّامات صغيرة في نهر.
وأوضحت النتائج إنه عند ماخ 6، بدا سلوك الاضطراب قريبا جدا من سلوكه في السرعات المنخفضة، وهي إشارة قوية لصحة فرضية موركوفين.
هذا المعيار يفتح الباب لتطوير الطائرات (التجارية والمقاتلة)، فبدلا من حسابات اضطراب هواء مستحيلة تتطلب حواسيب عملاقة، يمكن الآن تبسيط النماذج واستخدام معادلات مشابهة لتلك المستخدمة في الطائرات التقليدية.
يعني ذلك قدرة على تطوير الطائرات بشكل أسهل، بل ويشير الباحثون إلى أن الطيران الفرط صوتي قد يُستخدم في المستقبل القريب للوصول إلى الفضاء دون صواريخ.
وسيؤثر ذلك لا شك في النقل العالمي، ربما ليس غدا، لكن الدراسة الجديدة تقرّب الأمر أكثر من أي وقت مضى، حيث إن فهم الاضطراب الهوائي عند ماخ 6 كان من أكبر العقبات العلمية، وإذا ثبتت صحة فرضية موركوفين بالكامل، سيكون الطريق ممهّدًا نحو جيل جديد من الطائرات التي "تقلص العالم" بالفعل.
يجري ذلك أيضا على الطائرات المقاتلة، لأنها تتعامل مع نفس نوع جريان الهواء واضطراباته، ما يفتح الباب أمام طيران عسكري أسرع من الحالي، إلا أن الدراسة لا تناقش تصميم طائرة تجارية مألوفة أو عسكرية، فهي بحث أساسي حول طبيعة الاضطراب.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة