رام الله- قبل نحو 25 عاما، تلقّى فتحي حمدان (62 عاما) من قرية دير جرير شرق رام الله في الضفة الغربية بلاغا عسكريا يمنعه من الوصول إلى أرضه الواقعة بمحاذاة مستوطنة "كوخاف هشاحر"، بذريعة أنها "منطقة مغلقة لأسباب أمنية"، ومنذ ذلك اليوم، لم تطأ قدماه ترابها، في حين أخذ المستوطنون يزرعونها ويجنون خيراتها.
كانت الزراعة المصدر الأساسي للدخل في دير جرير بنسبة تفوق 60%، لا سيما قبل الانتفاضة الأولى عام 1987، إذ كانت الأرض تُستغل في زراعة محاصيل متنوعة، إلا أن هذا الواقع تغيّر بعد أن صادرت سلطات الاحتلال مساحات واسعة من أراضي البلدة والبلدات المجاورة.
واليوم، بعد ربع قرن من القرار الأول بالمصادرة، يعود الاحتلال ليُضفي على تلك السيطرة "طابعا قانونيا جديدا"، تحت مسمى "المنطقة العازلة"، في خطوة تعد امتدادا عمليا لسياسة المصادرة القديمة، لكنها تأتي هذه المرة ضمن خطة أشمل تهدف إلى ترسيم حدود نفوذ المستوطنات وتوسيعها على حساب القرى الفلسطينية المحيطة.
يمتلك فتحي وعمه 4 دونمات من أصل 29.68 دونماً (الدونم يساوي ألف متر مربع)، أُعلنت مصادرتها من قرى كفر مالك ودير جرير، في إطار قرار احتلالي نصّ على إقامة "منطقة عازلة" حول مستوطنة "كوخاف هشاحر"، صدر بتاريخ 27 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
كما استهدف الأمر الثاني -بحسب نصوص القرار- مصادرة مساحة تبلغ 12.612 دونماً من أراضي دير جرير، لإنشاء طريق أمني يربط المستوطنة بالطريق رقم 449.
يقول حمدان للجزيرة نت، إن "المنطقة التي ورد فيها الأمر العسكري اليوم تبلغ مساحتها 29 دونماً، لكن المساحة المصادرة الحقيقية أكبر بكثير، وكانت هذه المنطقة بالتحديد، في يوم من الأيام، السلة الغذائية لكل سكان دير جرير".
في هذا السياق، يوضح المختص في شؤون الاستيطان سهيل خليلية، أن ما يُعرف بـ"المناطق العازلة" هو مصطلح جديد نسبيًا في الشكل، لكنه متجذّر في المضمون ضمن سياسة إسرائيلية قديمة، هدفها توسيع نفوذ المستوطنات تحت غطاء "التحصين الأمني".
هذه السياسة برزت بوضوح بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين تصاعدت المخاوف الإسرائيلية من إمكانية تكرار سيناريو اقتحام المستوطنات في الضفة الغربية ، ما دفع الحكومة إلى اعتماد خطط أمنية جديدة تتضمن إقامة أحزمة عازلة حول المستوطنات، حسب خليلية.
إلا أن جوهر هذه الخطط -كما يقول- يتجاوز البعد الأمني المعلن، "إذ إنها ترسم فعليًا حدودًا مستقبلية للمستوطنات، وتمنحها مساحة نفوذ أوسع بكثير من حدودها العمرانية الحالية، ما يفتح الباب لتوسع استيطاني جديد تحت غطاء الضرورات الأمنية".
من جهته يرى المحلل السياسي سليمان بشارات، أن هذه السياسة تنسجم مع ما يسميه الاحتلال "التمدد الطبيعي" للمستوطنات، وهي إستراتيجية قديمة تهدف إلى ضمان مساحات مفتوحة حولها، تُقدَّم في الظاهر كـ"مناطق أمنية"، لكنها في جوهرها مخصصة لتوسيع نطاق السيطرة وتهيئة الأرض لعمليات التوسع الاستيطاني المستقبلية.
ويضيف بشارات أن الاحتلال استخدم عبر السنوات تسميات متعددة لمصادرة الأراضي، منها "مناطق أثرية" أو "محميات طبيعية" أو "طرق أمنية"، وكلها تصب في هدف واحد هو السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض الفلسطينية.
ويؤكد بشارات أن الهدف الفعلي لهذه السياسة مزدوج "فمن جهة يسعى الاحتلال إلى خلق مسافات جغرافية فاصلة بين القرى الفلسطينية والمستوطنات لتقليل الاحتكاك، ومن جهة أخرى يمنح نفسه مساحة مرنة للضم الزاحف، بحيث تتحول الأراضي المصادرة إلى مناطق نفوذ استيطاني جديدة".
ويحذر بشارات من أن هذا النهج يؤدي إلى تفكيك الجغرافيا الفلسطينية، وتحويل القرى والمدن إلى جزر معزولة، لا يربط بينها سوى طرق محدودة تخضع لسيطرة الاحتلال، ويضيف أن "آلاف المزارعين فقدوا قدرتهم على الوصول إلى أراضيهم، خصوصًا في مواسم الزيتون، ما أدى إلى تراجع الزراعة كمصدر رئيسي للدخل وازدياد معدلات النزوح الداخلي نحو المدن".
وأوضح مدير قسم الإعلام في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان عبد قباجة، أن سلطات الاحتلال استولت أخيرًا على نحو 73 دونمًا من أراضي المواطنين في محافظة رام الله والبيرة، عبر 5 أوامر عسكرية صدرت تحت مسمى "أوامر وضع اليد".
وأضاف أن مساحة الأراضي التي شملتها الأوامر العسكرية المتعلقة بما يُعرف بـ "المناطق العازلة" وصلت إلى نحو 514 دونمًا، موزعة على 30 أمرًا عسكريًا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تمنع الفلسطينيين من الوصول إلى آلاف الدونمات الزراعية المحيطة بالمستوطنات.
وذكر أن الهيئة تتابع يوميا جميع الأوامر العسكرية والمخططات التي يصدرها الاحتلال تحت مسمى "المناطق العازلة"، موضحًا أن العمل لا يقتصر على التوثيق، بل يمتد إلى متابعة قانونية وميدانية متكاملة، تشمل التواصل مع الجهات الحقوقية وتقديم اعتراضات لدى المحاكم الإسرائيلية.
ويضيف قباجة، أن الهيئة تعمل ميدانيًا عبر تنظيم فعاليات دعم ومساندة في القرى المهددة بالمصادرة، إذ يشارك موظفو الهيئة والمتضامنون الأجانب إلى جانب المزارعين في قطف الزيتون ومواجهة اعتداءات المستوطنين.
ويختتم قباجة "إن أخطر ما تحمله سياسة "المناطق العازلة" هو محاولتها شرعنة السيطرة على الأرض، بذرائع أمنية متجددة، مؤكدًا أن الهيئة تتعامل مع هذه الإجراءات بوصفها "استيطانًا مقنّعًا" يراد له أن يمرّ بهدوء دون إعلان رسمي عن الضم.
ويشدد على أن مواجهة هذه السياسات تتطلب تكامل الجهود الرسمية والشعبية والحقوقية محليًا ودوليًا، لأن المعركة "ليست فقط على الأرض، بل على الرواية والوعي أيضًا" كما يقول.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة