في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
بفيض من الألم والفخر، تمضي شبكة الجزيرة نحو عامها الثلاثين، وهي مثقلة بذكريات مراسليها الشهداء، لكنها ماضية بخطى واثقة، كما لو أن كل دم أريق من مراسليها وذويهم، صار وقودا جديدا يمدها بالحياة.
وفي تقرير أعدّه ماجد عبد الهادي، تبدو الجزيرة، وهي تستقبل عقدها الثالث كمن يقف على حافة الألم لتعلن ميلادا جديدا، يجمع بين الحزن النبيل والعناد المهني.
ففي عامها التاسع والعشرين وما سبقه، واجهت الشبكة حربا غير مسبوقة على الصوت والصورة والحقيقة، قُتل مراسلوها في غزة، أُبيدت عائلات بعضهم، وسُوِّيت بيوتهم أرضا، لأنهم اختاروا أن يبقوا شهودا على الإبادة لا شركاء في الصمت.
في غزة، لم تكن العدسات تُوجَّه من خلف خطوط الأمان، بل من قلب النار، كان المراسلون هناك يصوّرون تحت وابل القذائف، وهم يعلمون أن كل بثّ قد يكون الأخير.
بعضهم نعى نفسه قبل أن يُستشهد، فقد قالوا على الهواء مباشرة: "التغطية مستمرة عبر شاشة الجزيرة، حتى لو تم اغتيال أنس واغتيال جميع الزملاء"، ولم تكن الجملة شعارا بل وصية ممهورة بالدم، التزمت بها القناة كما لو كانت عهدا لا يُكسر.
وما بين دمعة الفقد ووهج الشهادة، حافظت الجزيرة على صورتها صوتا يخرق جدار الصمت العربي والدولي، كما فعلت دائما منذ انطلاقتها الأولى في أواخر التسعينيات، حين وُصفت بأنها الحجر الذي حرك بركة الإعلام الراكدة.
فمنذ اللحظة التي انطلقت فيها من الدوحة ، كسرت احتكار المنابر الرسمية، وفتحت الفضاء لصوت جديد جريء، يواجه السلطة بالسؤال، ويمنح الشعوب حق النظر إلى نفسها في المرآة بلا تزييف، لكنها لم تنجُ من شكوك العالم العربي ولا من مكر خصومها.
في بداياتها تساءل كثيرون: كيف لقناة تنطلق من بلد خليجي صغير أن تمتلك هذا القدر من الحرية؟ كان الظن أن التجربة ستُكبح سريعا، غير أن من عملوا على تأسيسها سمعوا وعدا واضحا بأن حرية الكلمة فيها لن تقلّ عن نظيراتها في أكثر دول العالم انفتاحا.
ذلك الوعد تحوّل مع السنوات إلى فلسفة عمل وأسلوب حياة، وإلى ما يمكن أن يُسمّى "سر الخلطة" الذي صنع أسطورة الجزيرة، وفي ربع قرن ونيف، تحوّلت الشبكة إلى مدرسة صحفية كبرى خرّجت أجيالا متعاقبة.
جاء بعد الجيل المؤسس شبابٌ لم يكونوا قد وُلدوا عند انطلاقتها، فأصبحوا الوجوه الجديدة التي يراها الملايين اليوم على الشاشة، في أعينهم يلمع الحلم ذاته، وفي أصواتهم صدى الجيل الأول الذي تعلّم أن الصحافة موقف قبل أن تكون مهنة.
لكن المفارقة المؤلمة أن كثيرا من هؤلاء الشباب سقطوا شهداء في غزة، لأنهم تمسكوا بالدرس الأصعب: أن تقول الحقيقة ولو تحت القصف.
ورغم الجراح، لم تتوقف الجزيرة عن المضيّ قدما، لم تختر أن تحيي ذكرى الشهداء بصمت ثقيل، بل فتحت منابر جديدة في فضائها الرقمي، لتتسع لأصوات أكثر وأقلام أشدّ حرية.
من هناك يواصل المئات من زملاء أنس الشريف ، وإسماعيل الغول ، وحمزة الدحدوح، وعلي الجابر، ومحمد الحوراني، وطارق أيوب، مسيرتهم، حاملين الكاميرا والميكروفون راية ضد النسيان.
وفي كل مرة حاولت فيها آلة الحرب إسكاتها، ازداد صوت الجزيرة وضوحا. وفي كل مرة أُطفئ فيها مكتب أو هُدّد مراسل، ولدت نافذة جديدة تُطلّ على الحقيقة، فشبكة بهذا التاريخ لا تنكسر، لأنها لم تُبنَ على الخوف، بل على الجرأة، ولم تُخلق لتساير، بل لتُسائل وتكشف وتواجه.
وها هي الجزيرة بعد أعوام من الصعود والمحن، تقف على أعتاب عقد جديد، بدماء شهدائها وشغف شبابها ونبض جمهورها الممتد في 4 جهات الأرض، وتمضي بخطى ثابتة في زمن يتراجع فيه الإعلام عن دوره، لتبقى شاهدة وشهيدة في آن، تدفع ثمن كلمتها غاليا، لكنها لا تساوم على معناها.
تلك هي "خلطة الجزيرة" التي لا تُكتب في وصفة سرية، بل تُسقى من عرق الميدان ووهج الحقيقة، أن تبقى الكلمة حرة، مهما كلّف الثمن.
المصدر:
الجزيرة