غزة- حطّت الحرب أثقالها، لكن غزة ما زالت تتسلم رسائلها المتأخرة من الموت، فلم تغلق المدينة باب مآتمها بعد، وسرادق العزاء فيها لا يزال يُفتح لشهداء تم التعرف على مصيرهم أخيرا.
في مستشفى ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوب القطاع، تدور ملحمة من نوع آخر؛ جثامين عبرت الحدود بعد احتجاز طويل في الجانب الإسرائيلي سُلمت مقابل جثث إسرائيلية يكفل اتفاق وقف إطلاق النار تبادلها.
ثوانٍ لكل صورة تُعرض على شاشة كبيرة في "قاعة العرض" بالمستشفى، التي تم توسيعها مؤخرا لتكفي المتوافدين للبحث في فم الموت عن أبنائهم، تتركز الأنظار نحو الشاشة، يتفرس المعنيون في الصور جيدا ليتحققوا من أن بقايا هذا الوجه أو الجسد تخصهم، في مهمة يصفونها بأنها قاتلة بل وأقسى من الموت نفسه، حيث يغدو التعرف على جثامين ذويهم نعمة يُغبط عليها أصحابها.
وبينما تبدو حدود المشهد أروقة المستشفى، لكن صدى ألمه يضرب بأطنابه قلوب المنغمسين فيه، كأم بهاء وهي امرأة مسنة تتهدل ملامحها من التعب، تحدق في شاشة تتبدل عليها وجوه الشهداء، تبحث بين صور الموت عن وجه ابنها بهاء.
مع كل صورة جديدة تنادي على الرجل خلف جهاز العرض "انتظر قليلا"، ثم تقوم من كرسيها بخطوات متعثرة، تقترب من الشاشة، تتفحص الملامح بقلق يشبه الرجفة، ثم تعود أدراجها هامسة بكسرة تكاد تُسمع "ليس هو، اقلب الصورة".
مرت الساعات طويلة وهي تتأمل الوجوه واحدا تلو الآخر، حتى توقّف الزمن عند صورة بعينها، هناك في زاويتها، رأت حذاء تعرفه جيدا، "ذاك الذي كان ينتعله ابنها يوم خرج ولم يعد"، عرفته منه ومن بنطاله، تقول للجالسين "ابني إنسان مدني بسيط، لا يعرف حمل السلاح، دخل حدود الأراضي المحتلة مندفعا ككثير من الشباب"، تصمتُ قليلا "يبدو أنه عومل كمقاتل مقتحم كي يتلقّى كل هذا التعذيب"، ثم خرجت تجر معها أذيال اليقين بأنه لن يعود.
خرجت أم بهاء بينما كانت أم حمزة بجوارها لا تزال تتفرس في الوجوه المعروضة باستنكار، تقول لابنها الذي يمسك كفها "لماذا أحضرتني إلى هنا يمّة، هؤلاء شهداء، وأخوك حمزة معتقل، لقد رأيته في الصور المنتشرة على وسائل الإعلام الإسرائيلية"، فيجيب أحمد "اصبري يمّة نتأكد".
أحضر أمه بعدما أبلغه البعض أن صورة أخيه موجودة، وبينما تستنكر وجودها في هذا المكان المحفوف بالموت، لكن الزمن تجمّد عند صورة طلب أحمد بالتوقف عندها، قبل أن تمزّق الصمت بصرخة حادة ارتعدت لها أروقة القاعة، رأت وجه ابنها حمزة، وقد مات الشك بكونه أسيرا حين بدت آثار شنقٍ على عنقه تخبرها أن ولدها أُعدم في المعتقل، في لحظة قاسية سقطت فيها الحقيقة على رأسها بين جدران قاعة امتلأت بوجوه الفقدان، ولم يكن فيها متسع إلا للبكاء.
"هذا وجه حامد"، قالت شقيقته هناء في سرها، ثم التفتت لزوجته وشقيقه، فلم يبديا تعرفهما عليه، صمتت ثم حملت سرّها إلى المنزل، يحاصرها خبر وزارة الصحة بأنهم سيدفنون هذه الجثامين إن لم يجدوا لها هوية بعد يومين.
لجأت هناء لرابط الاستدلال الإلكتروني الذي أطلقته الوزارة، والذي توثق فيه صور الجثامين الواصلة إليها عبر الصليب الأحمر، وبينما تتصفح الصور بحثا عن وجه أخيها، وصلت لتلك التي شكت بها، كانت دليلا صعبا فقد أودت رصاصة فجّرت عينه اليسرى بجزء من وجهه، وهنا لم يكن إصرارها عبثيا فقد تحقق أهل حامد من هويته بعدما فحصوا العلامات الفارقة في جسده، كما أنه لباسه نفسه الذي خرج به ولم يعد.
وتقول للجزيرة نت "لقد كان شكي في محله، أخي حامد كان مُرقّما بـ(إتش 19)، فتحنا عزاء بعد عامين من مقتله، كنا قد رأيناه جثة هامدة مسجاة على الأرض يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكن رغم ذلك كان لدينا أمل بأن يكون مصابا أو على قيد الحياة".
تحدثت الجزيرة نت مع المختص في الأدلة الجنائية وعضو اللجنة المركزية لإدارة تسلم الجثامين سامح حمد، الذي أفاد بأنهم استلموا حتى 22 من الشهر الجاري 195 جثمانا، تم التعرف على 70 منها، في حين جرى دفن 54 جثمانا مجهول الهوية في مقبرة الشهداء وسط قطاع غزة، في دفعة أولى ثم 41 في دفعة ثانية، على أن تُدفن دفعات أخرى لاحقا ممن لم يتم التعرف على هويتهم.
وكشف عن أن عملية التعرف على الجثامين تمر عبر مراحل، إذ يبدأ الفحص الأولي للطبيب الشرعي وتحديد العلامات الفارقة والمقتنيات الشخصية للجثة، ثم توثيقها بالصور، على أن تُعرض على العائلات سواء في صالة العرض الوجاهي أو عبر رابط الاستدلال الإلكتروني.
وعقب تأكد ذوي المفقود من أن أحد الصور خاصة بفقيدهم، يتم الانتقال إلى مرحلة التدقيق والمطابقة بين ما تذكره العائلة من علامات مميزة في جسد ابنها وما تم توثيقه، ثم المطابقة الظاهرية مع وجود الطبيب الشرعي والموثق للتأكد العيني قبل إتمام إجراءات عملية الدفن. وأوضح أن نسبة الخطأ بعد المرور بهذه المراحل للتعرف على الجثامين شبه معدومة.
وتُحفظ الجثامين -وفق حمد- في ظروف استثنائية، إذ توضع داخل ثلاجات متنقلة كانت مخصصة سابقا لحفظ المثلجات، بهدف تمديد فترة التعرف عليها من قبل العائلات قبل أن تُنقل دفعات جديدة.
وأضاف أن الجثامين تصل في حالة تجمد تام بدرجات حرارة تصل إلى 180 درجة تحت الصفر، وقد تُترك أحيانا تحت الشمس لأكثر من 24 ساعة حتى يبدأ الجليد بالذوبان، لتتمكن الفرق المختصة من مباشرة الإجراءات المعتادة للفحص والتوثيق.
وأشار أيضا إلى أن عددا كبيرا من الجثامين تظهر عليها آثار تعذيب، أبرزها تقييد الأيدي، وعصب الأعين، وكدمات وضربات على الجسد، وآثار دهس بعجلات مركبات، بالإضافة إلى عمليات بتر لبعض الأصابع التي يرجح أنها أُجريت لأخذ عينات "دي إن إيه" (DNA).
وفيما يتعلق بالشائعات الدائرة حول سرقة الأعضاء، نفى حمد بشكل قاطع وجود حالات ثبت فيها سرقة أعضاء بشكل قطعي، لكن حالة وصفها بأنها "مريبة للشك" من بين 195 جثمانا وصل الجانب الفلسطيني، كانت لرجل من بيت لاهيا في الخمسينيات من العمر، على جسده غرز جراحية ممتدة من أسفل الذقن حتى أسفل البطن، مخيطة بأكثر من 70 غرزة، وكانت الأعضاء الداخلية مقطعة ومحشوة بالقطن، يذكر أن الترجيحات تشير إلى كونه معتقلا تم تشريح جثته لتوثيق سبب الوفاة.
هكذا، وبين جدران المستشفيات وثلاجات الموتى، لا تزال غزة تفتح دفاتر الغياب صفحة تلو أخرى، كمن يراجع سجلّا لا ينتهي من الفقدان. لم يعد الموت حدثا استثنائيا في هذه المدينة، بل طقسا يوميا. وبين كل نعشٍ يوارى، تبقى للأمهات عيون معلّقة بالأمل وقلب يواصل الخفقان.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة