أثار الإعلان الدستوري الجديد الذي أصدره رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية الفلسطينية.
الإعلان يحدد آلية انتقال السلطة في حال شغور منصب الرئيس، وينص على أنه "في ظل غياب المجلس التشريعي، يتولى نائب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ونائب رئيس دولة فلسطين مهام الرئاسة مؤقتاً لمدة لا تتجاوز 90 يوماً، تُجرى خلالها انتخابات لاختيار رئيس جديد".
وفي حال تعذر إجراء الانتخابات بسبب "قوة قاهرة"، يمكن تمديد الفترة بقرار من المجلس المركزي لمرة واحدة فقط.
حركة فتح وصفت الخطوة بأنها "إصلاح تنظيمي ضروري"، معتبرة أن الإعلان يأتي لضمان انتقال سلس ومنظم للسلطة.
لكن أطرافاً أخرى رأت فيه محاولة لترتيب مرحلة ما بعد الرئيس عباس في ظل الحديث عن "اليوم التالي" للحرب في غزة.
أما حركة حماس فانتقدت القرار بشدة، ووصفت ما جرى بأنه "تعقيد لإمكانية إصلاح النظام السياسي"، على حد قول المتحدث باسمها حازم قاسم، الذي قال إن التغييرات التي تجريها السلطة "تسببت في تشويه عميق للنظام السياسي"، لأنها تمت "بشكل متفرد ومخالف للقانون الأساسي وبعيداً عن التوافق الوطني".
يرى الباحث الفلسطيني جهاد حرب، مدير مركز "ثبات" في رام الله، في حديثه لبي بي سي، أن الإعلان "جاء مكملاً للإجراءات التي اتخذها الرئيس عباس في الآونة الأخيرة، بما في ذلك تعديل مكانة حسين الشيخ داخل النظام السياسي، بهدف تأمين انتقال منظم للسلطة في المستقبل".
وأوضح حرب أن القرار صدر "في ظل غياب الأفق لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية بسبب الظروف المعقدة التي يعيشها الفلسطينيون، سواء في غزة أو القدس"، مشيراً إلى أن الهدف منه "منع حدوث إشكالات سياسية داخل النظام وضمان استمرارية الحكم".
وأضاف أن الإعلان يعكس "محاولة لتجديد الدماء داخل النظام السياسي الفلسطيني، وإن كان نائب الرئيس في الستينات من عمره، ورئيس المجلس الوطني يبلغ نحو 75 عاماً، ما يعني أن الشيخوخة قد تمتد لتصيب مختلف مفاصل النظام".
من جانبه، اعتبر الباحث مأمون أبو عامر، المتخصص في الشأنين الإسرائيلي والفلسطيني، في حديثه لبي بي سي، أن الإعلان "يعكس أزمة شرعية داخلية وضغوطاً خارجية لترتيب مرحلة ما بعد الرئيس عباس"، موضحاً أن "القضية لا تتعلق بتعيين شخص بعينه، بل بطريقة إدارة النظام السياسي وآليات اتخاذ القرار".
وأضاف أبو عامر أن "جوهر الأزمة يكمن في غياب النظام المؤسسي داخل السلطة الفلسطينية، إذ تم تعطيل المجلس التشريعي بقرار من الرئيس دون وجود بديل قانوني أو تنظيمي، مما خلق فراغاً تشريعياً وشللاً في منظومة الحكم".
وأشار إلى أن السلطة "باتت محصورة في يد الرئيس"، وأن غياب التوازن بين المؤسسات "جعل جميع الصلاحيات مركزة في موقع واحد، ما أفقد السلطة مرونتها وقدرتها على اتخاذ قرارات جماعية".
اختلفت الآراء حول ما إذا كان الإعلان نتيجة لضغوط خارجية أو استجابة فلسطينية داخلية.
جهاد حرب أوضح أن القرار جاء أيضاً "في إطار ضغوط عربية تتعلق بضمان انتقال سريع ومنظم للسلطة في حال شغور منصب الرئيس الفلسطيني الذي يبلغ نحو 90 عاماً"، مشيراً إلى أن هذه الضغوط "صدرت من السعودية والإمارات وبعض الدول العربية الأخرى"، ودَفعت المجلس المركزي إلى "تعيين حسين الشيخ نائباً لرئيس اللجنة التنفيذية ورئيساً لدولة فلسطين"، قبل أن يُستكمل ذلك عبر الإعلان الدستوري الجديد.
وأضاف حرب أن "الضغوط ليست عربية فقط بل دولية أيضاً"، لافتاً إلى أن "ما صرح به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حين قال إنه يحب محمود عباس لكنه لا مكان له مستقبلاً، يعكس جانباً من الضغوط الأمريكية والدولية لإحداث تغيير في هيكل القيادة".
لكن مستشار الرئيس محمود الهباش نفى بشدة أن يكون القرار جاء نتيجة لأي ضغوط.
وقال في تصريحات خاصة لبي بي سي إن الإعلان "جاء لتحصين النظام السياسي وتأمين انتقال منظم للسلطة"، مؤكداً أنه "استجابة لاعتبارات فلسطينية بحتة وليست نتيجة لضغوط خارجية".
وأضاف أن عملية إصلاح السلطة "مستمرة وتأخذ أشكالاً مختلفة بهدف الوصول إلى أفضل مستوى ممكن من الأداء الحكومي وحماية المشروع الوطني".
وأوضح الهباش أن الإعلان "يأتي في نطاق تأمين النظام السياسي في حال شغور منصب الرئيس"، وأن السلطة تعمل على إعداد "دستور مؤقت يحقق التكامل بين السلطات".
ونفى أن تكون الخطوة مرتبطة بما بعد الحرب في غزة، مؤكداً أن الرئيس "مارس صلاحياته وفق القانون في ظل غياب المجلس التشريعي"، وأن المجلس عند انعقاده ، سيكون قادراً على مراجعة أو تعديل أو إلغاء الإعلانات الصادرة عن الرئيس ، مشيراً إلى أن هذه الصلاحيات مؤقتة لضمان استمرارية العمل الدستوري.
يرى مراقبون أن توقيت صدور الإعلان لم يكن معزولاً عن المتغيرات التي تشهدها المنطقة بعد حرب غزة.
فبحسب جهاد حرب، "القرار يرتبط كذلك بالتحضيرات لمرحلة ما بعد الحرب، حيث ترغب السلطة الفلسطينية في تولي إدارة القطاع بعد الحرب، وهو جزء من الخلافات الراهنة بين إعلان الفصائل في القاهرة وموقف السلطة الفلسطينية".
ويضيف أن "عودة السلطة إلى غزة لا ترتبط فقط بالبنية الداخلية للنظام السياسي، بل أيضاً بعوامل خارجية تتعلق بموقف حماس وقبولها بذلك، وبمواقف إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية".
وأشار إلى أن الإعلان الجديد "قد يتيح للرئيس تفويض نائبه بصلاحيات محددة أو موسعة في قطاع غزة تحديداً، في إطار سعي السلطة لتثبيت حضورها هناك".
أما أبو عامر، فيرى أن توقيت القرار "يعكس استجابة لضغوط عربية وأمريكية تهدف إلى تعيين شخصية من داخل السلطة نفسها بدلاً من أن تكون منظمة التحرير هي العنوان السياسي"، مضيفاً أن الرئيس "اختار حسين الشيخ بصفته أمين سر اللجنة التنفيذية وصاحب موقع متقدم داخل السلطة".
واعتبر أبو عامر أن القرار "يعطي انطباعًا بقرب انسحاب الرئيس عباس من المشهد السياسي لصالح حسين الشيخ"، موضحاً أن ما يجري "يبدو تحضيرًا لمرحلة انتقالية مرتقبة".
أثار الإعلان تساؤلات حول مدى شرعيته في ظل غياب المجلس التشريعي وتعطيل الانتخابات منذ ما يقرب من عقدين.
يقول جهاد حرب إن النص "يسمح بتمديد المدة تسعين يوماً إضافية بقرار من المجلس المركزي، ما قد يعني استمرار المرحلة الانتقالية فترة أطول في حال تعذر إجراء الانتخابات".
ويرى أن الخلاف المزمن بين حركتي فتح وحماس "يجعل أي خطوة من الطرفين موضع جدل دائم، رغم أن الحوارات بينهما تتضمن في الغالب إقراراً ضمنياً بمكانة كل طرف، حتى مع بقاء الخلافات الجوهرية حول الشرعية والمشروعية".
أما مأمون أبو عامر، فيقول إن "الحالة الفلسطينية مشوشة تماماً من الناحية الدستورية"، موضحاً أن الرئيس "حل المجلس التشريعي رغم أن القانون الأساسي لا يمنحه هذه الصلاحية"، مضيفاً أن تعطيل الانتخابات منذ عام 2006 "تركّزت معه السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في يد الرئيس".
وأشار إلى أن "إلغاء الانتخابات عام 2022 يعكس غياب الإرادة السياسية لتجديد الشرعيات"، ما أدى إلى "تجميد الحالة السياسية بالكامل لصالح إدارة فردية للسلطة تخضع في معظمها للضغوط الخارجية أكثر من الإرادة الفلسطينية المستقلة".
وأضاف أن منظمة التحرير "تواجه إشكاليات قانونية منذ سنوات، إذ لم يحدث توافق وطني على تشكيل لجنتها التنفيذية منذ فترة طويلة، بينما لا تزال فصائل وازنة مثل حماس والجهاد الإسلامي خارجها"، معتبراً أن ذلك "يضعف شرعية القرارات الصادرة عنها".
وحول ما أثير بشأن اجتماعات القاهرة الأخيرة، قال الهباش لبي بي سي إن "ما جرى لم يكن اتفاقاً، بل اجتماعاً بين أحزاب غابت عنه حركة فتح، وبالتالي فإن ما يصدر عنه لا يكون ملزماً للآخرين".
وشدد على أن "الولاية القانونية والسياسية على الأراضي الفلسطينية هي اختصاص حصري لمنظمة التحرير والسلطة الشرعية ممثلة بدولة فلسطين"، مؤكداً أن "القرار الوطني حق مشروع للقيادة الفلسطينية وليس للأحزاب أو الفصائل".
وأوضح الهباش أن السلطة الفلسطينية، باعتبارها صاحبة الشرعية و القرار السيادي فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني، ترى الأمور من منظورها ووفق رؤيتها السياسية والتزاماتها الوطنية والقانونية. وقال: لا يوجد شيء نقبله أو نرفضه، نحن نتعامل مع الشأن الفلسطيني كشأن واحد، وما يخص قطاع غزة هو ذاته ما يخص الضفة الغربية والقدس والدولة الفلسطينية، فكلها وحدة واحدة لا نقبل ولا نريد ولا نسلم بفصل أي جزء من الأرض الفلسطينية عن الأجزاء الأخرى.
في المقابل، أشار أبو عامر إلى أن "مغادرة وفد السلطة الذي ضم حسين الشيخ وماجد فرج القاهرة بعد يوم واحد من انتهاء الاجتماعات، ثم صدور الإعلان الدستوري لاحقاً باسم حركة فتح وليس منظمة التحرير، يشير إلى وجود ارتباك داخل مؤسسات السلطة نفسها"، متسائلاً "هل القرار نابع من إرادة داخلية أم نتيجة ضغوط خارجية مباشرة؟"
يرى أبو عامر أن "القرار يأتي في سياق ترتيبات المرحلة المقبلة، خاصة ما يتعلق بإدارة قطاع غزة، في ظل مطالب دولية بدمج منظمة التحرير في خطة إصلاح السلطة الفلسطينية التي تشرف عليها دول عربية والولايات المتحدة"، مشيراً إلى أن تلك الإصلاحات "تهيئ النظام الفلسطيني للانخراط في خريطة سياسية جديدة قوامها تغيير القيادة في رأس الهرم".
ويضيف أن هذه الترتيبات "قد تمهد لتولي حسين الشيخ رئاسة السلطة خلال فترة تمتد بين شهر إلى ستة أشهر، كتعبير عن مرحلة انتقالية"، متسائلاً "هل هذا مقبول شعبياً؟ وهل ستُستشار الجماهير الفلسطينية في هذا القرار؟".
وفي ختام حديثه، شدد أبو عامر على أن "أي إصلاح حقيقي يجب أن ينطلق من احتياجات الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها تعزيز الشفافية واستقلال القضاء وضمان وجود مجلس تشريعي منتخب"، داعياً إلى "توافق وطني شامل يعيد بناء الثقة والمشروع الوطني الفلسطيني في مواجهة التحديات الكبرى، خصوصاً مع استمرار الاستيطان وغياب رؤية سياسية واضحة لإدارة الصراع".
بينما قال مستشار الرئيس الفلسطين ، إن المقصود بإصلاح النظام السياسي هو عملية متواصلة لا تتوقف عند حد، ولا يوجد نظام سياسي في العالم وصل إلى درجة الكمال المطلق الذي لا إصلاح بعده ولا تطوير بعده، وأضاف أن إصلاح النظام السياسي الفلسطيني هو جزء من هذه العملية التي تجري في أي مكان في العالم .
المصدر:
بي بي سي
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة