في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
غزة- وسط مشهد إنساني يفيض بالدمار والنزوح والحرمان تقف الصحة النفسية في قطاع غزة على حافة الانهيار الكامل، فبعد نحو عامين من حرب إبادة غير مسبوقة لم تترك الحرب حجرا على حجر، ولا إنسانا على حاله، ولا مؤسسة صحية نفسية إلا طالتها يد التدمير.
وبين أنقاض الحرب وركام الذاكرة تنهض محاولات خجولة لإعادة ترميم الإنسان، حيث يقف الأطباء النفسيون في غزة كخط الدفاع الأخير عن الروح، يحاولون أن ينتشلوا الضحايا من بين أنقاض الصدمات.
في هذا الحوار الخاص مع مدير مستشفى الطب النفسي في غزة الدكتور عبد الله الجمل يفتح لنا أبواب المعاناة الصامتة في القطاع بعد حرب مدمرة امتدت لعامين، ويكشف عن المبادرات الميدانية التي تحاول أن تزرع الأمل في أرض أنهكها الخوف، وتبحث اليوم عن شفاء لا يقل صعوبة عن إعادة الإعمار، وكيف يواجه الكادر الطبي أزمة مركّبة بين الألم الإنساني ونقص الإمكانيات.
واقع الصحة النفسية في قطاع غزة مأساوي، لكون الحرب الأخيرة امتدت على مدار عامين متتاليين وشكلت ما يمكن وصفها بحرب إبادة، فالمنظومة الصحية النفسية بالكامل تضررت، والمستشفى النفسي الوحيد في قطاع غزة تعرّض للتدمير، وكذلك العيادات التابعة لوزارة الصحة الفلسطينية، والتي كانت تقدم خدمات متكاملة في الصحة النفسية.
هناك 8 عيادات تقريبا ضمن قطار الرعاية الأولية تعرضت للتدمير الكامل، كما أن الكوادر الصحية نفسها تأثرت بشكل بالغ، بين شهداء ومصابين، أو أشخاص فقدوا أحد أقربائهم أو ممتلكاتهم، أو أصبحوا مشردين ونازحين، حتى لم تعد كفاءة الفرق كما كانت من قبل، وأصبح العاملون ضمن السكان المصابين نفسيا مثل باقي المواطنين، مما أثر بشكل مباشر على تقديم الخدمات.
قبل الحرب، كانت وزارة الصحة تغطي نحو 80% من خدمات الصحة النفسية المقدمة للسكان، أما بعد الحرب فقد انخفضت التغطية كثيرا، وحتى المؤسسات الأهلية والقطاع الخاص الذي كان يعمل في المجال تضررت خدماتها بالكامل.
وخلال الحرب حاولنا استحداث نقاط وخدمات نفسية بديلة، لكن كانت ضيقة، صغيرة، بكادر محدود، مع نقص شديد في الأدوات والأدوية، مما جعل الخدمة غير كافية لتلبية احتياجات السكان.
من أصعب الأمور التي يمكن الإجابة عنها هي تقدير عدد المصابين بالاضطرابات النفسية نتيجة الحرب، فخلال فترة الحرب لاحظنا أن عدد المترددين على خدمات الصحة النفسية كان أقل بكثير من السابق، ربما لأن الناس كانت لديهم أولويات أكبر مثل تأمين الأمن والمأوى والمأكل والمشرب في زمن المجاعة ، مما جعلهم يؤجلون مراجعة الخدمات النفسية.
ومع إعلان الهدنة بدأت أعداد المتقدمين للخدمات تتزايد بشكل ملحوظ، وأنا أعتقد شخصيا أن الأغلبية العظمى من سكان القطاع أصيبوا باضطرابات نفسية تتراوح بين متوسطة وشديدة، وهذا أمر ليس غريبا في ظل ما عاناه السكان من قصف ونزوح مستمر وخسائر فادحة.
أبرز الاضطرابات النفسية التي لاحظناها هي اضطرابات الكرب وما بعد الشدة، وهي الأكثر شيوعا، والتي بدأت تظهر بأعراض مختلفة عن تلك التي كنا نراها سابقا، وأحيانا بأعراض غير موجودة في المراجع الطبية، فعلى على سبيل المثال كان هناك طفل فقد شقيقه الأكبر أمامه نتيجة استهداف المكان الذي كانا فيه، وأدى ذلك إلى فقدان الطفل الشعور بالأمان بشكل كامل.
كما أن هناك فتاة عمرها 18 سنة (طالبة في المرحلة الثانوية) بدأت تظهر عليها أعراض نفسية شديدة خلال الأشهر الستة الماضية، من ضمنها ظهور الشعر الأبيض المبكر بشكل ملحوظ نتيجة صدمة نفسية كبيرة تعرضت لها، هذه الحالات تعكس حجم الكارثة النفسية التي يعانيها السكان.
بالنسبة لموضوع الانتحار لا توجد لدينا بيانات دقيقة، لكننا لاحظنا خلال فترة الحرب سلوكيات محفوفة بالمخاطر، فبعض الحالات الطفيفة قامت بمحاولات تهدد حياتها بشكل مباشر، وهي نوع من الانتحار السلمي أو المجازفة بالنفس في مناطق الخطر، وربما بعض الحالات نتيجة اضطرابات نفسية شديدة.
الفئات الأكثر تضررا نفسيا هي الفئات الهشة، أولا الأطفال، ثانيا كبار السن، ثالثا النساء، فالأطفال يعانون من اضطرابات الكرب بعد الشدة، والنساء وكبار السن يعانون أيضا من آثار نفسية شديدة، كبار السن -خاصة الذين لديهم إعاقات حركية- تأثروا بشكل كبير بسبب انقطاع الخدمات وأدوات المساعدة على الحركة مثل العكاكيز والكراسي المتحركة، بالإضافة إلى عدم قدرة الأهل على دعمهم.
كل هذا أثر على مزاجهم وأشعرهم بالعجز والضعف، النساء الحوامل واللواتي مررن بصدمات خلال الحرب ظهرت لديهن اضطرابات متعددة، أما الأطفال فهم الأكثر تعرضا للتأثيرات النفسية المباشرة نتيجة الصدمات وفقدان الأمان.
الأطفال تأثروا بشدة بسبب القصف المستمر والنزوح وفقدان البيئة الآمنة، بعض الأطفال فقدوا أحد والديهم أو أشقاءهم أمام أعينهم، مما أدى إلى صدمات نفسية شديدة تؤثر على نموهم العقلي والنفسي.
البرامج العلاجية للأطفال محدودة جدا ولا تغطي حجم الأزمة، وهناك حاجة ماسة لتوسيعها فورا.
نعم، التعرض المستمر للصدمات والنزوح قد يؤدي إلى اضطرابات عقلية ونفسية طويلة الأمد، مثل اضطراب ما بعد الصدمة والقلق المزمن والاكتئاب وتأثيرات سلوكية واجتماعية مستمرة لعقود، وقد تعيق نموهم النفسي والاجتماعي في المستقبل.
الأشخاص الذين كانوا يعانون من أمراض نفسية مسبقة تأثروا بشكل كبير، خاصة بسبب فقدان الأدوية النفسية الأساسية وتدمير المؤسسات الصحية وعدم توفر الكوادر.
الخدمات التي نقدمها الآن محدودة جدا، في نقاط طبية ضيقة لا تحافظ على خصوصية المريض وكرامته، والأدوية النفسية المتوفرة لا تتجاوز 50% مقارنة بما كان متاحا قبل الحرب.
قبل الحرب كان القطاع الحكومي يغطي نحو 80% من المرضى المترددين على الخدمة ويقدم العلاج مجانا، أما الآن فهناك فجوة كبيرة للغاية، والحاجة لإعادة بناء المنظومة الصحية النفسية أمر ملحّ.
خلال الحرب حاولنا إنشاء نقاط بديلة وخدمات ميدانية، لكنها كانت محدودة جدا بسبب شح الكوادر والأدوات، ومع إعلان وقف إطلاق النار بدأنا التواصل مع المنظمات الدولية لتوفير أماكن مناسبة تحفظ خصوصية المرضى وكرامتهم، وتواصلنا أيضا مع أطباء نفسيين عرب جاهزين للتدخل عند فتح المعابر، لكن العوائق السياسية والأمنية حالت دون تطبيق هذه الخطط بشكل كامل.
قمنا باستئجار أماكن، لكن بعد أسابيع أصبحت مناطق حمراء، وتم تدمير هذه الأماكن قبل أن نستفيد منها.
الخدمات الحالية محدودة للغاية، تقدَّم في نقاط ضيقة لا تستوعب العدد الكافي من المرضى، كما أن الطواقم غير كافية مقارنة بالحاجة المتزايدة بعد الحرب.
الخدمات تشمل العلاج النفسي الأساسي والدعم النفسي المجتمعي والاستشارات، لكنها لا تغطي الطلب الكبير المتوقع بعد انتهاء النزوح واستقرار السكان.
توجد بعض البرامج المحدودة، لكنها غير كافية للوصول إلى كل المحتاجين، المخيمات ومراكز الإيواء تعاني نقصا شديدا في الدعم، والكثير من السكان لم يحصلوا على أي خدمات حتى الآن.
نسبة توفر الأدوية النفسية منخفضة جدا، أقل من 50% مقارنة بما كان متاحا قبل الحرب، حيث إن معظم الأدوية غير متوفرة في القطاع الحكومي أو الأهلي أو الخاص، مما يجعل تقديم العلاج الفعال شبه مستحيل.
الوصمة النفسية تراجعت بعد الحرب، أصبح الحديث عن المعاناة النفسية مقبولا أكثر، والكثير من المواطنين أصبحوا يتقبلون فكرة أن لديهم اضطرابات نفسية أو يحتاجون لدعم نفسي، ولم تعد هذه الحالة تسبب إحراجا أو أزمة كما كان سابقا.
التعاون مع المنظمات الدولية موجود بشكل نظري، لكن تنفيذه على الأرض محدود، باستثناء عيادة واحدة تابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر في دير البلح ، والتي تقدم خدمات متكاملة رغم القصف الذي تعرضت له البلدية المجاورة.
بعض المنظمات الدولية تدعم إنشاء مقار وعلاج بعض الحالات، لكنها لا تستطيع تغطية كل الاحتياجات في القطاع، خاصة بعد الدمار الكبير الذي طال كل مرافق الصحة النفسية.
أبرز الاحتياجات تشمل توفير أماكن مناسبة للعلاج وأدوات مساعدة للمعاقين وطواقم إضافية وأدوية نفسية كافية وبرامج دعم نفسي للأطفال والنساء وكبار السن، الحاجة اليوم باتت ملحة جدا لإعادة بناء ما تبقى من المنظومة النفسية المتضررة.
المستقبل يعتمد على استقرار الوضع الأمني والسياسي وتوفير الموارد اللازمة لإعادة بناء المنظومة بالكامل.
ربما يتم إنشاء مستشفى ميداني عاجل وكرفانات متنقلة وتوفير أدوية ولوجستيات، بالإضافة إلى برامج دعم نفسي مجتمعي مكثف.
وبمجرد أن يفرغ السكان من النزوح وتأمين احتياجاتهم الأساسية ستصبح الصحة النفسية أولوية، وسيبدؤون بطلب المساعدة والدعم، مما يستدعي تجهيز كل الإمكانيات مسبقا.
أخيرا، أؤكد على أهمية عدم فقدان حقوق المرضى النفسيين الذين غالبا لا يستطيعون التعبير عن معاناتهم، وهم بحاجة ماسة لدعم مستمر من كل الجهات القادرة على تقديم المساعدة.
المصدر:
الجزيرة