غزة- منذ اليوم الأول لسريان وقف إطلاق النار في قطاع غزة ، يراجع مدير الطواقم الميدانية في جهاز الدفاع المدني بغزة قائمة طويلة من المهام الشاقة المنتظرة لفرق الإنقاذ، لانتشال جثامين شهداء عالقة تحت الأنقاض منذ عدة أشهر.
وبدأت طواقم الإنقاذ بانتشال جثامين الشهداء من تحت الركام بعدما كانت الأوضاع الميدانية واستمرار المهام المستعجلة على مدار عامين من الحرب تحول دون الوصول إليهم، كما أن شُح الإمكانات وعدم توفر المعدات والآليات الثقيلة لا يزال يعيق استكمال عملهم.
ويحتفظ عناصر الدفاع المدني بذاكرتهم بمشاهد قاسية لجثامين تحللت مع طول أمد الحرب ولم يتبقَ منها إلا بعض العظام، ومع ذلك يرقب ذووهم اللحظات التي يدفنون بقايا أبنائهم تحت التراب.
يسرد مدير الطواقم الميدانية في الدفاع المدني إبراهيم أبو الريش كيف يقضي عناصر الإنقاذ ساعات طويلة لاستخراج الجثامين التي أطبقت عليها أطنان من الركام، وفي النهاية بالكاد يجدون بقايا عظام لها بعد تحلل الجسد.
ويشير أبو الريش -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن أهالي الضحايا يتعرفون عليهم من ملابسهم أو أحذيتهم، أو المكان الذي كانوا يوجَدون فيه داخل المنزل قبل تدميره فوق رؤوسهم.
وتأخذ مهام الدفاع المدني وقتا طويلا، وأحيانا يعودون دون الوصول إلى الجثامين بسبب افتقارهم للمعدات اللازمة لرفع الركام، واقتصار جهودهم على الحفر اليدوي فقط.
ويراود أبو الريش وفريقه الميداني القلق في كل مرة وهم يبحثون عن الجثامين، لأنهم يخشون ألا تسعفهم الظروف بالوصول إليها، رغم تلهف ذوي الشهداء لهذه اللحظة، لأنهم يريدون أن "تستريح أجساد الشهداء داخل قبورها".
وتتبع طواقم الإنقاذ بروتوكولا معينا لتوثيق الجثامين التي يتمكنون من انتشالها ولم يتعرف عليهم أحد حتى الآن، مثل تحديد أماكن انتشالهم، وتصوير الجثامين، وتدوين العلامات الظاهرة عليهم، مثل طبيعة وألوان ملابسهم والمقتنيات التي بحوزتهم، ومنحهم رقما متسلسلا قبل مواراتهم الثرى.
ويعبّر مدير الطواقم الميدانية عن استيائه من اهتمام العالم بجثث 20 إسرائيليا في قطاع غزة "وتسخيره كل الإمكانات للبحث عنها واستخراجها، بينما يترك ما يقرب من 10 آلاف شهيد تحت الأنقاض، دون أن يوفّر أي من الآليات التي تسهل انتشالهم".
على مدار أكثر من 7 ساعات متواصلة من العمل، شارك ضابط الإنقاذ عبد الله عبد الرحمن في عملية انتشال جثمان الشهيدة غادة رباح، التي أعدمها الاحتلال الإسرائيلي قبل نحو شهر في منطقة تل الهوا جنوب غرب مدينة غزة .
وكانت الشهيدة غادة رباح قد أرسلت نداء استغاثة وهي على قيد الحياة، بعدما قصفت الطائرات الحربية منزلها، ولكن جيش الاحتلال منع طواقم الإنقاذ من الوصول إليها.
ويتحدث عبد الرحمن عن قسوة المشهد الذي تجتمع فيه لحظات ترقب ذوي الشهيدة ولهفتهم للوصول إليها تمهيدا لدفنها، وما يصطحب ذلك من خطورة على حياة فريق الإنقاذ، الذي يحفر بيديه دون أي أدوات سلامة، وهم يخشون أن تفشل جهودهم للوصول إلى الجثمان وأن يدخل ذوي الشهيدة بانتكاسة جديدة.
رغم صعوبة المهمة، تنفس عبد الرحمن وزملاؤه الصعداء بعدما وصلوا إلى جثمان غادة بعد شهر من استشهادها، لتهدأ أنفاس ذويها الذين خيم عليهم القلق خشية عدم الوصول إليها.
يقول عبد الرحمن للجزيرة نت "تخيل أن الهم الأكبر لذوي الشهداء يصبح الوصول إلى بقايا عظام أبنائهم لدفنها! كل هذه المآسي تسبب بها الاحتلال على مدار عامين، ولا تزال تفاصيل كثيرة من الألم حبيسة صدور أصحابها".
ويضيف "تخيل أن يبقى الأهالي ينتظرون ساعات طويلة بعد أشهر من فقدانهم أبناءهم، وفي النهاية لا يجدون إلا بعض العظام، أي ألم هذا الذي يمكن أن يتحمله بشر؟".
وتحفر طواقم الدفاع المدني بأيديهم دون أي معدات سلامة، وهو ما يجعلهم يخشون من تعرضهم لانهيارات أسمنتية مفاجئة، أو إصابتهم بأمراض قاتلة بسبب تعاملهم مع جثامين متحللة تخرج منها روائح كريهة، ورغم ذلك يصرون على مواصلة مهامهم الإنسانية.
وتمكنت طواقم الدفاع المدني من انتشال جثامين ما يقرب من 300 شهيد منذ الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وقال المتحدث باسم الدفاع المدني بغزة محمود بصل إن بعض جثامين الشهداء كان متحللا، وبعض الأجساد كانت أشلاء غير متكاملة.
وأوضح محمود بصل، في حديثه للجزيرة نت، أن بقايا الجثث والأشلاء جرى انتشالها من الطرقات ومن تحت أنقاض المباني والمنازل، بينما لا تزال مئات جثامين الشهداء تحت الأنقاض، ويصعب انتشالها لعدم توفر أجهزة ومعدات الإنقاذ الثقيلة، مؤكدا أن فرق الدفاع المدني تعمل على مدار الساعة في ظروف بالغة الصعوبة، وهي بحاجة ماسة إلى معدات متطورة وثقيلة لإنجاز المهام.
ولفت إلى أن عشرات المناشدات تصل الدفاع المدني يوميا من الأهالي الذين يطالبون بانتشال جثامين ذويهم من تحت الأنقاض، وفي سبيل ذلك سلمت إدارة الجهاز جميع المنظمات الدولية قوائم بالاحتياجات الطارئة والمتطلبات الفنية اللازمة لعمليات الانتشال.
وأكد محمود بصل أن الأمر يحتاج إلى قرار سياسي دولي عاجل، لتمكين طواقم الدفاع المدني من العمل والمساهمة في تخفيف المعاناة الإنسانية لأهالي قطاع غزة، لأن نحو 10 آلاف شهيد لا تزال جثامينهم تحت الأنقاض منذ سنتين، دون أي تحرك فعلي من المجتمع الدولي أو المنظمات الإنسانية لانتشالهم.