بعض التصريحات الأميركية، تشي بأن قنوات التواصل بين واشنطن وحماس، تبدو "سالكة وآمنة" في الاتجاهين.
اللقاءات المباشرة رفيعة المستوى، باتت "سرا ذائعا"، من خلالها وعبرها، وبوجود الوسطاء، يجري تذليل العقبات، وتجسير الفجوات، ونقل الضمانات، وقد عرفنا مؤخرا، أنه جرى تبادل مشاعر العزاء والمواساة بين ويتكوف والحية، باعتبارهما عضوين في "نادي الآباء المكلومين"، بفقدان أبنائهم، وإن اختلفت ظروف الفقد وسياقاته.
فيض التصريحات من هذا النوع، يأتي عادة ممزوجا بالتهديد والوعيد، والتلويح بالتصفية والاستئصال، وتلكم من باب "اللزوميات" أو لزوم ما لا يلزم.
البراغماتية المتأصلة في الخطاب والسلوك الأميركيين، تجعل من تطور كهذا، أمرا محتملا دائما، وتنزع عنه طابع "المفاجأة". لقد فعلتها واشنطن على مر العقود والسنوات السابقة، مع أطراف عدة، حكومات و"لاعبين لادولاتيين"، لطالما ناصبتهم العداء. انتهت إلى الفشل حينا وإلى النجاح في كثير من الأحيان. لا خطوط حمراء تقف في وجه واشنطن، عندما يستشعر دبلوماسيوها وقادة أجهزتها الأمنية، الحاجة إلى اتخاذ قفزة للأمام.
والتاريخ الفلسطيني المعاصر، حافل بمثل هذه الاجتيازات للخطوط الحمراء. حركة فتح والمنظمة وفصائل العمل الوطني، مدرجة جميعها على قوائم الإرهاب الأميركية، لكن ذلك لم يمنع واشنطن من إجراء الاتصالات وإبرام الاتفاقات، وتعليق الكثير من الإجراءات العقابية، عندما تقتضي الحاجة، بمراسيم رئاسية تنفيذية، يجري تجديدها كل ستة أشهر، وتلكم هي قصة مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن على أية حال، قبل إغلاقه كليا بقرار من دونالد ترامب في ولايته الأولى.
إدراج هذا الفصيل أو تلك الحركة، في قوائم الإرهاب، لم يكن يوما مانعا يحول دون قيام الدبلوماسية الأميركية، ومن خلفها الدوائر الأمنية، باستجلاء المواقف وبحث الفرص والممكنات. حتى باتت هذه القوائم كـ"الباب الدوار- Rotating Door".
حدث ذلك مع طالبان كما أن حركة أنصار الله الحوثيين، سبق أن سجلت سابقة، في الدخول إلى هذه القوائم والخروج منها والعودة إليها مع تعاقب الإدارات الأميركية، بل ولجوء إدارة ترامب الأكثر تشددا حيالها، إلى التوقيع على اتفاق معها، يخرج السفن الأميركية من دائرة الاستهداف في باب المندب والبحر الأحمر، حتى مع استمرار استهداف السفن الإسرائيلية، وتلك المتجهة إلى ميناء إيلات.
أما فلسفة هذه المقاربة الأميركية، التي تكاد تكون فريدة من نوعها، فتعود إلى عاملين اثنين:
في الحالة الفلسطينية، تبدو الصورة أكثر تعقيدا. واشنطن ليس لديها يد طليقة لتفعل ما تشاء، هناك أثر العامل الإسرائيلي، وتأثير جماعات الضغط الموالية لتل أبيب في مراكز صنع القرار الأميركي، إذ حتى بوجود رئيس مثل دونالد ترامب في سدة البيت الأبيض، يطوق بحبال نفوذه، عنق بنيامين نتنياهو، فإن ثمة حسابات ومعايير، لا تستطيع إدارته تخطيها، أو على الأقل تخطيها بيسر وسلاسة، كما في ملفات إقليمية ودولية أخرى.
لقد رأينا حالة الخيبة التي أصابت إسرائيل عندما تركها ترامب، تواجه وحدها صواريخ الحوثيين ومسيراتهم، مبرما مع صنعاء اتفاقا لتحييد السفن الأميركية.
ورأينا صدمة في تل أبيب، انعكست على وجه نتنياهو في المؤتمر الصحفي المشترك في البيت الأبيض، عندما كشف ترامب عن محادثات جارية مع إيران، لم تمنع الطرفين من شن حرب الـ"12″ يوما ضدها، وبمشاركة أميركية غير مسبوقة. ورأينا تعليقات ذاهلة، على الأنباء التي تسربت عن بدء الاتصالات الأميركية مع حماس في الدوحة، في سياقات حرب السنتين.
في كل الأحوال، لم تعد الأنباء عن اتصالات أميركية- حمساوية، تثير الدهشة والاستغراب، فقد باتت من حقائق ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهي مفتوحة على شتى الاحتمالات، ومثقلة بمختلف الشروط والمطالب المقابلة، ومحاطة برقابة وتدخل كثيفين من الجانب الإسرائيلي.
يصعب استبعاد هذا السيناريو كلية، لكن الطريق إلى الاعتراف الأميركي بالحركة الفلسطينية المقاومة، سيكون بلا ريب، معبدا بالشروط والمطالب المسبقة، تبدأ بقبول إنهاء ظاهرة المقاومة نفسها، وتمر بالاعتراف بإسرائيل، وربما دولة يهودية خالصة، ولا تنتهي بإبداء الاستعداد لإنجاز كل ما يلزم "العيش المشترك"، وهي استحقاقات مطلوبة من الفلسطينيين وحدهم، فيما الإسرائيليون معفون منها، وتتصل بالتريبة والتعليم والثقافة السائدة، وصولا إلى إعادة قراءة المعتقد الديني ذاته.
وهي ذاتها الطريق التي سلكتها منظمة التحرير قبل قرابة الخمسين عاما، مع بدء لقاءات روبرت بوليترو، وياسر عبد ربه في تونس، والتي ستتوج لاحقا، بمسار مدريد- أوسلو، وتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني؛ ثمنا لزيارة بيل كلينتون وصحبه إلى غزة، وبقية القصة المعروفة.
لن تبقى حماس على حالها إن هي قبلت بـ"دفتر الشروط" الأميركية، وستصبح صورة عن حركة فتح في آخر طبعاتها، وسيكون ذلك بمثابة إقرار بهزيمة سياسية، فيما ميدان حرب السنتين، لم يشِ بهزيمة عسكرية للمقاومة.
هنا، وهنا بالذات، يتظهر معنى العبارة التي يرددها قادة الحركة والمقاومة: إسرائيل لن تأخذ بالمفاوضات، ما لم تقوَ على انتزاعه في الميدان، وعندما يقال إسرائيل، فإن الولايات المتحدة، دائما ما تكون في خلفية المشهد.
لكن ذلك، لم يمنع واشنطن كما في حالات أخرى، من الإقدام على تسجيل شكل من أشكال "الاعتراف الواقعي" بحركة حماس. في ظني أن هذا "الخيار"، يجري تظهيره بين الحين والآخر، في الممارسات والتصريحات والاتصالات الأميركية.
وأحسب أن الحركة تجد نفسها بحاجة لإبداء قدر من "المرونة" لجعل هذا الخيار ممكنا، ولمساعدة حلفائها العرب والإقليميين، على تحويل ما كان صعبا وغير متخيل، إلى أمر ممكن ومرجح. ألم يحدث ذلك في سوريا بعد 12 عاما من الحرب فيها وعليها، وبعد مسار من التكيف والتكييف، خضعت له هيئة تحرير الشام التي باتت إدارة انتقالية لسوريا ما بعد الأسد؟
في التجربة المتراكمة، فإن الأميركيين والغرب، يغفرون عندما يتعلق بإراقة دماء مواطنيهم، بيد أنهم أقل ميلا للغفران والتسامح، حين يتعلق بإراقة دماء إسرائيلية بفعل "مركبات النقص وعقد التاريخ".
لقد رأينا الغرب وواشنطن بخاصة، يتسامحون مع حركات وفصائل مختلفة غير حماس فكريا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، ولكنهم لا يبدون القدر ذاته من "المرونة" و"الاستجابة" عندما يتعلق الأمر بفصيل فلسطيني، انخرط في عمل مقاوم ضد الاحتلال، ومع ذلك، لا يبدو أن أبواب الاعتراف، الواقعي في أقل تقدير، قد أغلقت بإحكام.
ويعزز هذا الاحتمال، أن ثمة تقديرات أميركية وإسرائيلية، وغربية عموما، متخففة من الأغراض والأهواء، ومتجردة من الحسابات السياسية والشخصية الضيقة، ترى أن حماس بعد حرب السنتين، ما زالت فاعلا رئيسا على الساحة الفلسطينية، وأن السلطة في رام الله، على ما تحظى به من دعم وإسناد و"شبكات أمان"، ما زالت طرفا هشا وغير موثوق، وأن الاستقرار في المشهد الفلسطيني الداخلي، ربما يحتاج "إدماج" حركة حماس في مرحلة من مراحل المسار السياسي الذي ينطلق تحت عنوان؛ "اليوم التالي" وما بعده.
والحقيقة أننا نستشعر احتمالا كهذا، في حواراتنا مع الأوروبيين بخاصة، فهم من جهة لا يتوقفون عن التفكير بالصيغ والمقترحات "الإبداعية" التي تجعل ترجمة خيار كهذا، أمرا ممكنا.
وفي الانتقادات اللاذعة التي تنم عن ضعف ثقة بمستقبل السلطة والنظام السياسي الفلسطيني، وعن أفكار تأخذ بالحسبان، نتائج أي انتخابات فلسطينية مقبلة، وسيناريو عودة حماس إلى مقاعد الأغلبية، أو حتى مقاعد "الأقلية الوازنة" في أي مجلس تشريعي قادم.
ليس من مصلحة حماس، السير على السكة التي أودت بالعمود الفقري الأول للحركة الوطنية الفلسطينية، وليس من مصلحة شعبها، أن يلتحق العمود الفقري الثاني بذات المصائر التي انتهى إليها الأول. لكن ذلك، لا يمنع من إبداء قدر كافٍ من المرونة لانتزاع "اعتراف واقعي" والبناء على مندرجاته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.