آخر الأخبار

"فوبيا الهاتف".. لماذا يتجنب أبناء الجيل "زد" الرد على المكالمات؟

شارك

قد يبدو المشهد مألوفا في كثير من البيوت: مراهق أو مراهقة يحمل الهاتف في يده طوال الوقت، يتفاعل عبر التطبيقات، يضحك على المقاطع القصيرة، ويُجيب على عشرات الرسائل لكنه لا يرد حين يرن الهاتف.

مشهد يثير استغراب الأهل وربما قلقهم: كيف يمكن لشخص يعيش متصلا أن يرفض أبسط أشكال التواصل؟

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 وهم "الإجماع الزائف".. لماذا نعتقد أن الجميع يفكر مثلنا؟
* list 2 of 2 زمن الأزمات والحروب.. كيف تحمي نفسك من الأمراض النفسية؟ end of list

لكن خلف هذا السلوك، تختبئ تحولات عميقة في الطريقة التي يفكر ويتواصل بها هذا الجيل مع العالم.

لغة جديدة للتواصل

جيل "زد" (مواليد منتصف التسعينيات حتى مطلع الألفية الجديدة) لا يستخدم الهاتف كما يفعل الكبار. صحيح أن الأجهزة لا تفارق أيديهم، لكن المكالمة الصوتية لم تعد وسيلة التواصل الأساسية، بل استثناء يُستخدم فقط في الحالات الطارئة أو الضرورية.

أما التواصل اليومي، فمكانه الطبيعي الرسائل النصية، أو تسجيلات الصوت القصيرة، أو محادثات "سناب شات" و"واتساب" و"إنستغرام".

السبب لا يتعلق بالكسل أو اللامبالاة كما يظن البعض، بل بـ"الرغبة في التحكم". فالمكالمة تتطلب حضورا فوريا، واستجابة لحظية، وحديثا عفويا لا يمكن التراجع عنه. وفي عالم يعيش فيه المراهقون تحت ضغط الصورة والمقارنة والخوف من الحكم عليهم، يصبح الكلام المباشر عبئا نفسيا:

ماذا لو تلعثمت؟ ماذا لو قلت شيئا في غير موضعه؟

أما الرسائل النصية فتوفر لهم مساحة آمنة، يمكن كتابة الكلمات وتعديلها أو حذفها أو تأجيل الرد حتى يكونوا مستعدين. إنها وسيلة تمنحهم إحساسا بالسيطرة والطمأنينة في عالم سريع ومتطلب.

مصدر الصورة إحجام المراهقين عن المكالمات الهاتفية لا يتعلق بالكسل أو اللامبالاة بل بـ"الرغبة في التحكم" (شترستوك)

فوبيا الهاتف لدى الجيل "زد"

تقول الدكتورة سحر طلعت، أول معالج بيوديناميكي عربي مسجّل في مجلس المملكة المتحدة للعلاج النفسي والمتخصصة في علاج الصدمات النفسية، إن "ظاهرة الخوف من المكالمات الصوتية، أو ما يُعرف بفوبيا الرد على الهاتف، هي في جوهرها أحد أشكال الرهاب الاجتماعي، إذ يشعر المصاب بأن وجوده في موقف تواصلي مباشر يعرضه للحكم أو النقد من الآخرين، فيميل إلى العزلة وتقليص تواصله إلى الحد الأدنى".

إعلان

وتضيف: "مع الثورة الرقمية التي غيّرت شكل حياتنا، وجدت هذه الفوبيا بيئة مثالية للنمو. فقد منحت وسائل التواصل الناس فرصة التواصل الآمن دون حضور جسدي أو صوتي، من خلال نصوص يمكن مراجعتها وتحريرها قبل إرسالها، على عكس الكلمة المنطوقة التي لا يمكن التراجع عنها. لذلك يفضّل المصابون بالرهاب الاجتماعي الكتابة على الكلام خوفا من الخطأ أو الظهور في صورة غير ملائمة".

بين السيطرة والخوف من العفوية

وترى الدكتورة سحر أن جيل "زد" نشأ في بيئة رقمية جعلته أكثر حساسية تجاه صورته أمام الآخرين. فوسائل التواصل الاجتماعي خلقت واقعا دائم المقارنة، في المظهر، واللباس، وطريقة الكلام، والمستوى الاجتماعي؛ ما ولّد شعورا بالنقص والقلق المستمر، ودفع كثيرين إلى الاحتماء خلف الشاشات.

وتضيف أن الاتصال الهاتفي يتطلب تفاعلا لحظيا بين طرفين، بينما تمنح الرسائل النصية شعورا بالتحكم، إذ يمكن اختيار الوقت المناسب للرد وصياغة العبارات بدقة. هذا الإحساس بالسيطرة يمنح المراهقين شعورا بالأمان في عالم يرونه مليئا بالمخاطر والضغوط النفسية.

وتكشف الطبيبة عن حالات في عيادتها تصاب بالذعر لمجرد سماع رنين الهاتف، لأن المتصل قد يفاجئهم بشيء غير متوقع، فيختار الشخص تجاهل المكالمة والرد لاحقا برسالة.

لكنها تحذر من أن هذا السلوك، رغم أنه يمنح راحة مؤقتة، يعزز العزلة ويُضعف الروابط الإنسانية، ويجعل تصوراتنا عن الآخرين مشوّهة وغير واقعية.

كما ترى أن الاعتماد المفرط على الرسائل النصية في مواقف إنسانية مثل العزاء أو التهاني يحرمنا من دفء الصوت الإنساني والتفاعل الحقيقي الذي لا يمكن للرموز التعبيرية أن تعوّضه.

مصدر الصورة توفر الرسائل النصية للمراهقين مساحة آمنة يمكن كتابة الكلمات وتعديلها أو حذفها أو تأجيل الرد حتى يكونوا مستعدين (شترستوك)

نحو تواصل أهدأ وأكثر وعيا

وتضيف الدكتورة سحر أن الرسائل النصية، رغم سهولتها، تحمل مساحة واسعة لسوء الفهم، لأننا نكتبها وفق مشاعرنا الخاصة لا وفق إحساس المتلقي.

أما المكالمة الصوتية، فهي تتيح وضوح النبرة وتبادل المشاعر والتصحيح الفوري.

وتوجّه نصيحة إلى الأهالي قائلة: "إذا كان أبناؤكم يتجنبون المكالمات، فلا داعي للضغط أو القلق. فالأمر انعكاس طبيعي لعصر سريع التغيّر، وليس ضعفا في الشخصية. المهم هو مساعدتهم على إيجاد التوازن وإعادة إحياء التواصل الإنساني تدريجيا".

وتنصح من يعاني من الخوف من المكالمات بالبدء بخطوات بسيطة: مكالمة قصيرة مع شخص مريح، مع ممارسة تمارين التنفس والهدوء والانتباه للجسد قبل الرد، لأن الإحساس بالجسد يمنح ثباتا نفسيا في لحظات التوتر.

وتختم "في زمن السرعة والتشتيت، علينا أن نتذكّر أن الصوت البشري يذكّرنا بأننا بشر قبل أن نكون مستخدمين لتطبيقات. فالحضور الإنساني لا يمكن أن يُستبدل بإشعار أو رسالة".

"حقّ الصمت" في زمن التواصل

في عالمٍ بات فيه الجميع "متاحين دائما"، أصبح الصمت نوعا من المقاومة. كثير من المراهقين يعتبرون عدم الرد على المكالمات خيارا مقصودا وحقا في الحفاظ على الخصوصية.

تقول زهرة شلبي، فتاة في الـ16 من عمرها: "أحيانا أترك الهاتف على الوضع الصامت فقط لأحصل على بعض السلام".

إعلان

لم يعد تجاهل المكالمة يعتبر قلة ذوق كما في الماضي، بل صار وسيلة لوضع حدود شخصية في زمنٍ تتداخل فيه الحدود بين الراحة والانشغال.

فالهاتف، الذي وُجد أساسا للتواصل، تحوّل إلى أداة لإدارة المسافة بين الذات والآخرين.

قواعد و"آداب" رقمية جديدة

ما يبدو للكبار جفاء أو قلة اهتمام، هو بالنسبة للمراهقين قواعد لياقة رقمية جديدة. الاتصال المفاجئ بات يُعتبر اقتحاما للخصوصية، بينما إرسال رسالة قبل الاتصال صار علامة احترام.

هذه القواعد غير مكتوبة، لكنها مفهومة بينهم بوضوح:


* قبل الاتصال، يرسل أحدهم "هل عندك وقت للمكالمة؟"، وإن لم يتلقّ ردا، يؤجّل الاتصال ببساطة.
* لقد تغيّر معنى الأدب والاهتمام: فبدل الإلحاح، أصبح الصبر واحترام المساحة شكلا جديدا من اللطف والوعي.
* ما يطلبه هذا الجيل ليس أن يتحدث أقل، بل أن يتواصل بشكل أصدق وأكثر هدوءا.

في عالمٍ يفيض بالإشعارات والتنبيهات والمكالمات غير المنتهية، ربما تكون المسافة والصمت والاختيار الواعي هي لغتهم الجديدة للحفاظ على إنسانيتهم.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا