آخر الأخبار

"الضمير" التركي بقبضة الاحتلال.. تفاصيل حصرية عن الهجوم على أسطول الحرية

شارك

"نتعرض الآن لمحاولة قرصنة من القوارب العسكرية الصهيونية" رسالة على تطبيق واتساب أضاءت شاشة هاتفي في تمام الساعة 5:23 صباحا.

كان المرسل صديقي عبد الرحمن الدالاتي الموجود على متن سفينة الضمير (Concensc) التركية ضمن أسطول الحرية الذي يسعى لكسر الحصار والوصول إلى غزة في ظل الإبادة الإسرائيلية المستمرة لعامين. كان طاقم السفينة يراقب بالرادار اقتراب القوارب العسكرية من سفينتهم المحمّلة بطعام الأطفال والمساعدات الغذائية.

"حفظكم الله وسلمكم، قد وقع أجركم على الله" رددت على الرسالة بعد ساعتين من وصولها. لم يقرأها عبد الرحمن. كان الهاتف يغوص في بحر غزة، حسب تعليمات الطاقم التي وصلتنا قبل أيام "في حالة قرصنة قوات الاحتلال للسفينة على الركاب -البالغ عددهم 93 صحفيا وطبيبا وناشطا من مختلف الجنسيات- التخلص من هواتفهم وأجهزتهم بإلقائها في الماء".

مصدر الصورة من الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية فجر اليوم الأربعاء (الجزيرة)

صباح اليوم الأربعاء أعلنت اللجنة الدولية لكسر الحصار عن غزة تعرض أسطول الحرية المتجه إلى قطاع غزة لهجوم إسرائيلي.

"مع اقتراب القوارب العسكرية سيتم إنزال عسكري بالهليكوبتر. سنقوم بالاستسلام ورفع أيدينا التي جاءت لإطعام إخواننا في الهواء. في تلك اللحظة يفترض أن تروا كل ذلك عبر النقل الحي لكاميرات السفينة إلى أن يطفئها جنود الاحتلال" أرسل لنا عبد الرحمن قبل يومين سيناريو القرصنة الإسرائيلية لسفن المساعدات كما حصل مع أسطول الصمود وبعض قوارب أسطول الحرية.

"سيقتادون السفينة لميناء أسدود. وهناك تنتظرنا جولات طويلة من التحقيق" يضيف عبد الرحمن.

مثل حالات سابقة من القرصنة لسفن المساعدات واحتجاز الناشطين، ستُقدم سلطات الاحتلال الكثير من التعهدات والأوراق ليوقع عليها الناشطون تدين عملهم الإنساني. ولكن جميع الناشطين على السفينة اتفقوا على أنهم لن يوقعوا إلا على ورقة واحدة تحتوي على: التنازل عن حق العرض على القاضي والترحيل مباشرة.

إعلان

"في الغالب سيأخذوننا إلى سجن النقب، كما فعلوا بسلفنا من الناشطين في أسطول الصمود" قال لي عبد الرحمن. "هذا سجن بعيد وغريب! إذا لم يُطلقوا سراحي بعد 3 أيام، سأبدأ الإضراب عن الطعام".

لم أعد أستطيع التواصل مع عبد الرحمن الذي صار الآن في قبضة الاحتلال صحبة عشرات الناشطين الدوليين الذين لم تستطع دولهم حمايتهم من إسرائيل، لكني سأحكي لك قصة أسطول الحرية وسفينة الضمير، كما سمعتها من أحد أعضائها على مدى 25 يومًا.

يوم 24 سبتمبر/أيلول (قبل الحادثة بأسبوعين)

"هل أنت بخير؟" أرسلتُ لعبد الرحمن "أخبار هجوم مسيرات إسرائيلية على أسطولكم، أرجو أن تكون بخير" تأخر الردُ كثيرًا.

بعد 5 ساعات جاءني الرد من عبد الرحمن برسالة صوتية:

"استيقظتُ فجرا قرابة الساعة الرابعة كانت نوبتي في الحراسة قد حانت، إذ نقوم بورديات مراقبة متواصلة لننبّه القبطان ولنؤمن ركاب السفينة من أي اعتداء مفاجئ بالمسيّرات الإسرائيلية، ونتخذ كلّ الاحتياطات الممكنة حيث بلغنا من بعض السفن في الأيام الماضية أنهم لاحظوا ما يشبه «روبوتات مائية» طافية داخل المرافئ.. نحن الآن في الشواطئ الإيطالية، وبخاصّة قرب سواحل أوترانتو هناك نحو 10 قوارب تعرّضت لإلقاء قنابل صوتية بواسطة مسيرات بالقرب من جزيرة كريت في اليونان، على بعد يقارب 600 ميلٍ بحريّ عن غزة. سفينتنا لم تتعرض لأي هجوم، أرجو أن يستمر الأمر على هذا النحو".

مصدر الصورة سفينة الضمير أسطول الحرية/عبد الرحمن الدالاتي (الجزيرة)

قبل 25 يومًا من اختطاف سفينة الضمير

مساء الـ13 من سبتمبر/أيلول 2025، كان عبد الرحمن الدالاتي يتناول وجبة غداء هادئة مع عائلته في بيته في حي الفاتح في إسطنبول، يشعر بإرهاق شديد وبداية مرض، حين رن هاتفه. نظر إلى هاتفه، لم يكن عبد الرحمن من النوع الذي يغلق هاتفه بعد ساعات العمل، هربًا من طلبات إضافية، ضغط على السماعة الخضراء، مستقبلًا صوت أحمد فاتح مادان أوغلو، مديره في العمل، يحمل خبرا سيقلب الأيام القادمة في حياته رأسا على عقب.

"السفينة ستغادر اليوم بشكل سري من ميناء إزمير وهم يحتاجون رجلا يجيد عدة لغات، وقد وقع الاختيار عليك"، قال المسؤول التركي بنبرة عاجلة. لم يكن الحديث عن أي سفينة عادية، بل عن سفينة "Concensc"، تلك التي تحولت إلى أيقونة في محاولات كسر الحصار البحري المفروض على غزة، فقد منعتها السلطات التركية من مغادرة ميناء حيدر باشا في كاديكوي لما يزيد على 6 شهور، وهي السفينة ذاتها التي قامت درون إسرائيلية بإسقاط قنبلة على متنها في شهر مايو/أيار من عام 2024 وهي ترسو في ميناء مالطا وتستعد للإبحار إلى غزة، مما تسبب بأضرار بالغة على متنها. ولذلك قد تفكّر عزيزي القارئ أن رحلة على سفينة تحمل هذا الماضي السيئ ليس بالعرض المغري.

لم يتردد عبد الرحمن لحظة واحدة. "لم يكن الأمر بحاجة للتفكير كثيرا بالنسبة لي"، يقول لي وهو يستذكر بداية رحلته. "في 10 دقائق حسمت القرار مع زوجتي، وخلال ساعة واحدة كان مستعدا للانطلاق نحو المجهول".

"منذ سنتين وسؤال العمل من أجل غزة يؤرقني، أردت أن أضع نفسي في خطر من أجل غزة، لأقاسمهم شيئا من حياتهم على ضفاف الموت، لم أكن أعرف أي شيء عن مسار الرحلة، ولا عن الطاقم، ولم أسأل أي سؤال، كل ما كان يشغلني أن أصل إلى أزمير في الموعد قبل إبحار السفينة"، قال لي عبد الرحمن عبر مكالمة فيديو قرب سواحل إيطاليا.

إعلان

طريق عوجاء

"في أزمير وقفنا عند كشك الجوازات لنأخذ وجبة من البيروقراطية التركية، ثم انتقلنا إلى الميناء لنستقل قاربًا يأخذنا إلى السفينة التي تنتظرنا في عرض البحر. لم أخبر والديّ بالمهمة حتى صعدت على السفينة، قلت لهم إنها ستكون رحلة مريحة ولن تطول".
على متن السفين، عرف عبد الرحمن أن عليه أن يعيد تعريف "رحلة مريحة" فالسفينة تتسع لنحو 160 راكبًا، والراكب هنا يعني الجالس، ولا شيء أكثر رفاهية من وضعية الجلوس. تتكون السفينة من طابقين وفي جوفها مكان مخصص للمبيت، ولكنه لا يتسع إلا لـ20 شخصا من طاقم السفينة. لا تحتاج مهاراتٍ رياضية لتستنتج أن كثيرًا من الركاب سيتحتّم عليهم النوم على سطح السفينة. لحسن حظ عبد الرحمن فقد علّمته سنوات التخييم والكشّافة، أن يتجهز لأسوأ الحالات حين يقرر المبيت خارج بيته، ولذلك اصطحب معه كيس نوم متنقلا، ولكن أسابيع من النوم على سطح سفينة متمايلة تتقاذفها الأمواج لم يكن شيئًا ينصح به الأطباء لشخص يعاني من الإجهاد والتعب.

"كان وقت دخولنا للسفينة بحدود الثامنة صباحا" قال لي عبد الرحمن، وأضاف "استقبلنا الطباخ بوجبة خفيفة عبارة عن بيض مقلي وبعض قطع الخبز بالإضافة لقطعتي جبن. كانت هذه هي أولى مراحل التعرف على الحياة هنا، المكان ليس مهيأ للنوم. قائمة الطعام تتقرر مما هو متاح وليس حسب ما تشتهي، وأوقات الطعام، في الوقت الذي يحدده الطباخ لا في وقت جوعك أو حاجتك، ومجموعة أخرى من المخاوف التي تعلم أنها قادمة لكنك تحاول التأخر في اكتشافها."

لم تتجه السفينة من شواطئ أزمير مباشرة إلى غزة، فالسلطات التركية تريد أن يتفرق دم سفينتها بين الدول، فتقرر أن تبحر السفينة إلى تونس ثم تلتحق بأسطول الصمود من هناك.

تاريخ القوافل البحرية التركية حافل بمحاولات أُحبطت تحت ضغط دبلوماسي. من سفينة "أكدنيز" التي عُرقل انطلاقها أكثر من 15 مرة، إلى انسحابات دول منحت أعلامها لسفن مشاركة ثم تراجعت قبل الإبحار. الضغط الإسرائيلي يلاحق حتى أصغر السفن، يحاصرها كما يحاصر غزة.

عندما سألته عن تاريخ هذه القوافل التي تهدف إلى كسر الحصار عن غزة، قام عبد الرحمن من مكانه ليحضر قميصا أسود وزعته عليهم المؤسسة الراعية للأسطول، رُسم على صدره شعار فلسطين، وعلى ظهره مسرد لمحاولات المؤسسة كسر الحصار المفروض على غزة عن طريق قوافل بحرية. القميص بدا وكأنه وثيقة مختصرة لتاريخ طويل من النضال والصمود.

مصدر الصورة سفينة الضمير أسطول الحرية/عبد الرحمن الدالاتي (الجزيرة)

لقد بدأت هذه الفكرة من عام 2008، ولكن المحاولة الأشهر كانت في 2010 في سفينة "مافي مرمرة" التي سجلت أول اعتداء مسلح من قوات الاحتلال على سفينة تركية لأول مرة"، حيث قتل الجنود الإسرائيليون 10 ناشطين أتراك كانوا يحاولون إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة.

رحلة شاقة

"حدثني عن أصعب يوم مرّ بك، في هذه الرحلة" سألته..

"أصعب يوم، كان اليوم الثالث من الرحلة حيث توقف المحركان في عرض البحر، كان شعورًا مزعجًا، تخيل أنك في قلب البحر والأمواج تعبث بقاربك، ولا يوجد في الأفق أي يابسة، أسوأ ما في الأمر شعور الغثيان الذي ينتاب الركاب بسبب حركة السفينة"، يتذكر عبد الرحمن تلك اللحظات المرعبة. "دام تعطلنا أكثر من 24 ساعة، قبل أن يتمكن طاقم السفينة من إصلاح محرك واحد. وبدأت سفينتنا تعرج برجل واحدة في وسط البحر متجهة إلى إيطاليا حيث كانت أقرب ميناء من موقع التعطل". بعد أن رست سفينة الضمير Concensc في إيطاليا لبعض الوقت انطلقت صحبة 50 مركبًا كانت هي أكبر مركب فيها.

رغم كل الصعوبات، لم ينس عبد الرحمن أن يشاركني بعض اللحظات السعيدة . "الناس تلوح لنا طول الوقت، في أول أيام الإضراب في إيطاليا تضامنا مع غزة، كان المارّة على الشواطئ الإيطالية يلوحون لنا، ويصرخون "تشاو بالستاين"(= مرحبا فلسطين). يقولونها بالإيطالية. تلك المشاهد البسيطة، عندما يتوقف أناس عاديون على الشواطئ الإيطالية ويلوحون بحماسة وتضامن لسفينة متجهة إلى غزة، تبقي شيئًا من الأمل في الضمير البشري، الذي ظننا مرة أننا فقدناه والعالم يتفرج على إبادة شعب تُنقل له بتقنية 4k على شاشات الأخبار.

إعلان

لكن لماذا تتوقفون في إيطاليا؟ سألته

بسخرية سوداء أجابني عبد الرحمن تحمل سفينتنا 12 فنيا، و12 إعلاميا ومن المقرر أن نحمل معنا 100 من الأوروبيين من موانئ إيطاليا لنحتمي بهم، فالدم المسلم أقلّ كلفة حسب البورصة الإسرائيلية".

ثم يضحك ضحكة مرة قائلا: "هؤلاء الأوروبيون الذين ربما ننجو من الموت ببركتهم. الدم العربي رخيص".

مصدر الصورة من الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية فجر اليوم (الجزيرة)

قبل أسابيع، كنت في مشفى في أسكودار أهنئ عبد الرحمن بمولوده الثاني محمود، الذي لم يكمل شهرين بعد. قلتُ له كيف أقنعت زوجتك بهذا القرار وتركتها مع الصغيرين. كيف يمكن لرجل أن يترك عائلته ويتوجه إلى رحلة قد تكون رحلة اللاعودة؟

"لم أحتج لإقناعها، كانت تشاطرني الهم، نحن كعائلة لابد أن نضحي لأجل مساعدة إخوتنا الغزيين. كنا نظن أن الرحلة ستمتد لأسبوع كسائر مهمات العمل التي كنت أسافر فيها. لكن يبدو أن الرحلة ستطول لأكثر من شهر".

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا