دير البلح- يمسك الطفل إحسان بريشته الصغيرة كأنه يمسك بآخر خيط للحياة، لم يتجاوز السابعة بعد، لكنه يجلس في أحد مراكز النزوح بمدينة دير البلح ليرسم بحرا واسعا وأسماكا تسبح فيه، يبتسم بخجل ويقول "أرسم البحر دائما لأنني أتذكر أخي الذي كنت أذهب معه للصيد.. فقدته خلال الحرب وفي كل مرة أرسم البحر كأني أراه من جديد".
هذه الجملة القصيرة تختزل مأساة آلاف الأطفال في قطاع غزة الذين حاصرتهم الحرب وسلبتهم الأمان، لكنها أيضا تكشف كيف تتحول الألوان إلى علاج، وكيف يولد من الركام مشروع اسمه "قلب غزة – HeART of Gaza"، يرمم الأرواح المنهكة ويمنح الأطفال نافذة للأمل.
مدير المشروع محمد تمراز، يؤكد بأن الفكرة بدأت حين أرسل لوحة رسمتها ابنة أخته لطفلة بلا رأس إلى صديقة له في أيرلندا، فأصابتها الدهشة وقالت "ليس طبيعيا أن يرسم طفل في السابعة شيئا كهذا".
يقول تمراز للجزيرة نت "أدركت وقتها حجم الألم الذي يحمله الأطفال، وبدأنا بتنظيم جلسات فنية صغيرة في أماكن النزوح والأحياء المتضررة، لنمنحهم مساحة آمنة يبوحون فيها عما بداخلهم، ولنجعل من الألوان أداة مواجهة غير مباشرة مع الحرب، فاللوحة ليست مجرد تسلية، إنها دفتر يوميات ووسيلة علاجية تُخفف من ثقل الصدمة".
وهكذا انطلقت الورش الفنية في مدارس ومراكز إيواء مؤقتة، حيث يجلس الأطفال على مقاعد متواضعة، يرسمون بفرش بسيطة وألوان قليلة، لكن ما يخطّونه يتجاوز حدود الورق، إنه مقاومة ناعمة في وجه الحرب.
الورش لا تعلّم الرسم فحسب، بل تمنح حرية التعبير، وتشجع الأطفال على الهروب من صور الدمار إلى عوالم بديلة.
الطفلة سوار (10 سنوات) تقول "الفن بالنسبة لي طريقة لأقول ما لا أستطيع قوله بالكلمات، أحيانًا أرسم الخراب من حولنا، لكن غالبًا أهرب إلى موضوعات أخرى. أشعر أن لوحاتي مقاومتي الخاصة".
وإلى جانب سوار، يجلس عمر (9 أعوام) يرسم بيتا صغيرا بشباك مفتوح، حين يسأله المتطوعون "ماذا ترسم؟" يجيب بصوت خافت "أريد بيتا لا ينهار فوقنا، أريد نافذة تطل على البحر".
تلك اللوحات، وإن بدت طفولية، لكنها تحمل أعمق الشهادات على حياة مهددة، كما تعكس جانبا من واقع آلاف الأطفال الذين يعيشون تحت وطأة الحرب، وتكشف أيضا كيف تحولت الرسومات إلى وسيلة للتعبير عن مخاوف دفينة وآمال مؤجلة.
كثير من الأهالي لاحظوا أثر الورش على أبنائهم، إذ صار بعضهم أقل خوفا وبدأوا يطلبون أوراقا وألوانا في البيت، ورغم الأثر الإيجابي للمشروع لكن الصعوبات لا تنتهي، أبرزها نقص الأدوات بسبب إغلاق المعابر.
يروي تمراز معاناته في البحث عن أدوات الرسم قائلا "أتنقل بين المحلات لأجد أقلامًا وأوراقًا، أحيانًا لا نحصل إلا على بدائل رديئة، لكننا نصرّ على الاستمرار، فالأمل يستحق كل هذا العناء".
ورغم أن المشروع يعتمد على جهود فردية ومبادرات تطوعية بلا دعم رسمي، إلا أنه يواصل التوسع الأطفال يَتركون على جدران الورش لوحات تحولت إلى ذاكرة حيّة، بعضها يحمل تواقيع صغار رحلوا تحت القصف.
يقول تمراز "لا نريد كلمات شفقة فقط، نريد أن يحمل العالم رسومات هؤلاء الأطفال ويعرضها في معارض رقمية أو صالات فنية، نريده أن يُنظر إليهم كأشخاص بأسماء وأحلام، لا كأرقام في نشرات الأخبار".
ويضيف المشروع يسعى لمد جسر إنساني من قلب غزة إلى بقية العالم، فالفن هنا ليس ترفا، بل أداة للبقاء، وصرخة بأن الأرواح الصغيرة ما زالت قادرة على تحويل الخوف إلى لون، واليأس إلى لوحة، والخراب إلى مساحة للبوح.
في نهاية إحدى الورش، نهض الطفل عمر ليعرض لوحته أمام زملائه والتي تُظهر بيتًا يطل على البحر، صفق زملاؤه، وابتسمت والدته للمرة الأولى منذ شهور، مشهد صغير لكنه يلخص جوهر المشروع "الألوان لا تعيد ما فُقد، لكنها تمنح الأطفال نافذة على الأمل، وتذكيرا بأن الحياة ما زالت ممكنة رغم الحرب".
هكذا، يواصل مشروع قلب غزة -الذي ولد من قلب المأساة- نسج الحكايات بالألوان ليعيد للأطفال جزءا من أرواحهم المسلوبة، فهنا الفرشاة ليست أداة رسم فحسب، بل سلاح مقاومة ناعم يصرخ في وجه الخراب "ما زال فينا حياة، وما زال فينا أمل".