في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
الخرطوم- "ولدتُ هنا ودرست هنا وأعمل هنا وجذوري هنا وسأموت هنا"، بهذه الكلمات يعبّر السبعيني جورج نظير فاخوري، عن تمسكه بمدينة شندي شمال الخرطوم التي وفد إليها أجداده الأقباط من جنوب مصر قبل مئات السنين.
تتعدد الروايات حول أول دخول للأقباط إلى السودان ، لكن الرواية الأرجح تقول إن ذلك كان في القرن الرابع الميلادي، عندما انتشرت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في دولة النوبة شمالا.
بحسب الباحث والمؤرخ القبطي سمير هابيل، كانت أول هجرة للأقباط إلى مدينة شندي عام 1880 من منطقة نقادة بمحافظة قنا في صعيد مصر، واستقر جزء منهم بمدينة شندي عام 1932، وكانت الهجرة بغرض التجارة والعمل بالنسيج.
وأبرز الأسر التي استقرت في المدينة هي: يوسف أبسخرون، وفاخوري سيدهم، وميلاد سلامة، وعطا الله بيباوي، وصادق يوسف، وحبيب يوسف، ونبيه قلادة، وأديب فاخوري، ونظير فاخوري، وحزقيال توفيق، وأصبح الأقباط يشكلون جزءا أساسيا من تاريخ المدينة ومن نسيجها الاجتماعي.
"عندما دخلت قوات الدعم السريع مدينة مدني، أصاب الكثيرين الخوف والهلع، لكن نحن أقباط شندي لم نغادر المدينة، هذا بلدنا وجذورنا هنا، وما يصيب الناس سيصيبنا"، يقول فاخوري، الذي عمل بسلك التعليم سابقا والتاجر حاليا، للجزيرة نت.
ويضيف أن أبويه ولدا في شندي وظلا فيها حتى غادرا الحياة، وأنه تلقى كل مراحله التعليمية في المدينة حتى أصبح معلما بالمرحلة الابتدائية، وأن عمله في حقل التعليم خلق له علاقات واسعة جدا مع المسلمين.
ويؤكد أنه لم يشعر بأي تمييز طيلة حياته. ويقول إن عمه أديب فاخوري كان يقوم بصيانة مكبرات الصوت والإضاءة في المسجد الكبير بسوق شندي، ويتبرع بمكبرات الصوت خلال صلوات الأعياد للمسلمين، ودون أي مقابل.
ويوضح فاخوري أن الأقباط مثل غيرهم من السودانيين تأثروا بالحرب وخاصة من كانوا يقيمون بالخرطوم، حيث فقدوا ممتلكاتهم وسُرقت سياراتهم ودمرت منازلهم بواسطة قوات الدعم السريع ، وغادر كثير منهم العاصمة إلى الولايات، وبعضهم إلى مصر لكن بشكل مؤقت، والآن بدؤوا العودة للمناطق التي حررها الجيش السوداني ، وخاصة مدينة أم درمان .
وتعرض الأقباط لانتهاكات واسعة بسبب احتجاز قوات الدعم السريع عددا من رجال الدين، ومن ثم اقتحام الكنائس في الخرطوم وأم درمان، كما استُهدفوا على أساس المعتقد، وفق ما وثقه الجناة بمقاطع مصورة بُثت على منصات التواصل الاجتماعي.
سمير هابيل (70 عاما) الذي قدم والده إلى مدينة شندي عام 1940 أسس هو وشقيقه الراحل لطفي مكتبة العهد الجديد عام 1963، وهي أقدم مكتبة في المدينة وما زالت تعمل حتى الآن، ويقول سمير وهو مهتم بالتوثيق للأقباط، للجزيرة نت، إن المكتبة كانت تمثل ملتقى ثقافيا كبيرا لكل مثقفي المدينة.
ولد سمير في شندي ولم يغادرها، لأن حياته ارتبطت بها، كما يقول، إضافة للعلاقات الاجتماعية المميزة مع المسلمين، ويؤكد أن أسرته انصهرت مع مجتمع المدينة ولم يشعروا كمسيحيين بأي تمييز.
ويعبّر عن حزنه الشديد لاستمرار الحرب بالسودان لأكثر من عامين، ويرى أنه لا كاسب من الحرب، ويقول "السودانيون يستحقون العيش بسلام".
الراحل حزقيال توفيق كان علما بارزا للأقباط في شندي، ويُعتبر محله التجاري من المعالم البارزة، وكانت وفاته وتشييعه استفتاء لمكانة الرجل وعلاقاته الواسعة بالمدينة، ومعظم مشيّعيه كانوا من المسلمين.
وتقول ابنته مريم حزقيال، للجزيرة نت، إنها عند وفاة والدها وجدت الدعم والمساندة من المسلمين لمواصلة العمل التجاري، ومن كل المصارف والمؤسسات الحكومية لما كان يتمتع به والدها من سمعة طيبة، وتضيف أن هذا السند الذي وجدته ساعدها في مواصلة عمل والدها ومن ثم تأسيس مستوصف حزقيال الخاص تخليدا لذكراه.
وتشير مريم -التي تشغل أيضا منصب المدير العام للمستوصف- إلى أنها لم تشعر طيلة حياتها بدءا من المدرسة وحتى التخرج من الجامعة بأي فروق أو تمييز، وكل صديقاتها من الطالبات المسلمات.
وتضيف أن المناوشات التي كان يقوم بها الدعم السريع بمنطقة حجر العسل جنوب شندي، أصابت الكثيرين بالخوف، لكنها لم تفكر بمغادرة المدينة، فكل حياتها وعملها ارتبط بها، إضافة إلى أنها كانت على ثقة بأن الجيش السوداني لن يسمح بدخول الدعم السريع إلى شندي.
وشاهدت مريم -كما تقول- فداحة الحرب أكثر في المستوصف، عبر وصول حالات لأطفال وسيدات مصابين بالرصاص من الخرطوم في ظروف بالغة التعقيد.
ويشكل الأقباط أكبر طائفة مسيحية في السودان، وينتمون إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لكن لا يوجد رقم دقيق عن نسبتهم من سكان السودان وعددهم، بينما أكثر الروايات تداولا تقول إنهم يمثلون نحو 1.5% من السكان، ولا يتجاوز عددهم نحو المليون ونصف.
ولعب الأقباط دورا سياسيا وثقافيا واجتماعيا وتعليميا في تاريخ السودان الحديث، إذ أنشؤوا أول مدرسة أهلية للبنات عام 1902، ثم المكتبة القبطية في 1908، وهي حافلة بأهم الكتب التاريخية، والمخطوطات، وكانت تقام فيها المسرحيات والندوات.
وأسهم الأقباط في الحياة السياسية السودانية منذ فجر الحركة الوطنية، ويؤرَخ لدخولهم الحياة السياسية في عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري ، الذي عيّن موريس سدرة وزيرا للصحة، ووديع حبشي وزيرا للزراعة، وانتُخبت تريزا شاكر نائبة في البرلمان في عهد الرئيس المعزول عمر البشير .
كما تقلدت رجاء نيكولا عبد المسيح منصب عضو بمجلس السيادة في السلطة الانتقالية التي تشكلت بعد ثورة ديسمبر/كانون الأول، وهو أرفع منصب دستوري يتقلده قبطي في السودان.
وعُرف أقباط السودان بأنهم طائفة مسالمة ولم يسجل في تاريخها أي حادث للعنف؛ لذلك من خلال إفادات أقباط شندي للجزيرة نت فهم ينشدون السلام ويأملون أن تتوقف الحرب التي دخلت عامها الثالث.