في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
يواجه حلف شمال الأطلسي (الناتو) تحدياً خطيراً يتمثل في نقص القوى البشرية، حيث لا يكفي الإنفاق الدفاعي وحده لتعزيز قدراته ما لم يترجم إلى جنود مدربين قادرين على تشغيل منظوماته الحديثة وردع التهديدات المتصاعدة.
هذا ما أكده أليكس واجنر، وهو مساعد سابق لوزير سلاح الجو الأميركي لشؤون القوى البشرية والاحتياط في إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن وأستاذ مشارك بجامعة سيراكيوز وزميل أول غير مقيم في المجلس الأطلسي، وكريستن تايلور المديرة المساعدة في المجلس الأطلسي التي تشرف على ملفات الدفاع والتعاون الصناعي والابتكار عبر الأطلسي، في تقرير نشرته مجلة "ناشونال إنتريست" الأميركية.
ويقول الباحثان إن الإنفاق الدفاعي المتزايد لحلف الناتو وحده لا يمكن أن يضمن أمن الحلف.
فللمرة الأولى في تاريخ الحلف الممتد على مدى 76 عاماً، انخرط أحد أعضائه في مواجهة تهديد روسي داخل مجاله الجوي، حيث أسقطت الدفاعات الجوية البولندية ثلاث طائرات مسيرة روسية، مع العثور لاحقاً على مزيد من الطائرات المسيرة التي جرى إسقاطها عبر الجبهة الشرقية للناتو. ويمثّل هذا الحادث اختباراً حقيقياً لصلابة الحلف خلال الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب. وبينما ستركز الأنظار في الأسابيع المقبلة بحق على تدعيم الدفاعات الجوية وسدّ الثغرات في القدرات، فإن حادثة بولندا تكشف عن هشاشة أعمق: النقص المتزايد في الأفراد العسكريين لدى الناتو.
ويقول الباحثان إن الحلف يفتقر حالياً إلى القوى البشرية اللازمة لتنفيذ خططه الدفاعية الإقليمية، فضلاً عن ردع التهديد الروسي المتنامي أو الوفاء بوعوده الطموحة التي أعلنها في قمة الناتو بشهر يونيو (حزيران). وتكاد جميع الدول الأعضاء تكافح لتجنيد عدد كاف من القوات والاحتفاظ بهم لردع جيش روسي لا يزال يعتمد على الأعداد الكبيرة، حتى بعد الخسائر الميدانية التي تكبدها. كما يفاقم التراجع الديموغرافي واتساع الفجوة بين المجتمع المدني والعسكري هذا التحدي.
وحتى لو أوفت الدول الأعضاء بالتعهد الجديد بإنفاق 5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، فقد يظل سد فجوات القوى البشرية أصعب من توقيع الشيكات الكبيرة. فحالياً، تنفق دول الناتو في المتوسط نحو 36 بالمئة من ميزانياتها الدفاعية على شؤون القوى البشرية، بينما تصل النسبة في دول مثل إيطاليا إلى نحو 60 بالمئة. ومع استعداد الحلفاء لاستثمار مبالغ غير مسبوقة في أمنهم الجماعي، لا بد أن يطوّروا في الوقت ذاته حلولاً مبتكرة لتجاوز تحديات التجنيد، وتوسيع قاعدة المواهب، وضمان أن تتوافق خططهم الدفاعية الطموحة مع استراتيجيات موازية لا تقل طموحاً في مجال القوى العاملة.
وتشكل الأزمة الديموغرافية في أوروبا تهديداً مباشراً للتجنيد العسكري. ففي عام 2022، انخفض عدد المواليد في الاتحاد الأوروبي إلى ما دون 4 ملايين للمرة الأولى منذ عام 1960. وفي الوقت نفسه، جعلت عقود السلام بعد الحرب الباردة الخدمة العسكرية غائبة إلى حد كبير عن حسابات المسارات المهنية للشباب الأوروبي. وفيما يلي نظرة عن كثب إلى ثلاثة أعضاء في الحلف تُظهر مدى التحدي، وفقاً للباحثين:
تظل طموحات برلين الدفاعية مقيدة أساساً بالمقاومة الثقافية للخدمة العسكرية. فبرغم الخطوات المهمة التي أُنجزت في مجال التخطيط العسكري وتوفير الموارد، قد لا يكون هناك ما يكفي من الألمان الراغبين في الانخراط لتشغيل قوة أكبر. فقد أعلنت ألمانيا نيتها زيادة عدد المجندين العسكريين بمقدار 30 ألفاً خلال ست سنوات لإنشاء "أقوى قوة مسلحة" في أوروبا. ومع ذلك، تبقى هذه الأرقام متواضعة للغاية بالنسبة لقدرات الدفاع الفعّالة للبلاد. وتشعر برلين بالفعل بآثار الاستنزاف، فهي ثاني أكبر مساهم بالأسلحة لأوكرانيا، كما تبدو مترددة في إرسال قوات إلى مهمة حفظ سلام في أوكرانيا بسبب القيود القائمة على صعيد القوى البشرية.
في عام 2024، أعلنت أوسلو خطة دفاعية طموحة تمتد لعشر سنوات لتعزيز وضعها الأمني، وتشمل 60 مليار دولار من الإنفاق الدفاعي الإضافي واكتساب قدرات جديدة. ولتأمين الموارد اللازمة لهذا التحول، تتخذ النرويج خطوات لزيادة حجم قواتها المسلحة بنسبة 50 بالمئة بحلول عام 2036. ومع ذلك، وبرغم برنامج الخدمة العسكرية الإلزامية الشامل الذي يحظى باحترام كبير والذي يتمتع بقدرة تنافسية، غالباً ما تكافح أوسلو لتحويل هؤلاء المجندين إلى أفراد يسلكون مسار الخدمة المهنية. وبما أن الخدمة الإلزامية لا تتجاوز 19 شهراً كحد أقصى، فإن معدلات التبدّل المرتفعة تؤثر سلباً على الخبرة والاستمرارية داخل المؤسسة العسكرية ككل. وتتفاقم هذه الاتجاهات بسبب صغر عدد سكان النرويج نسبياً، البالغ 5.6 مليون نسمة فقط. وإذا كانت دولة ما عاجزة الآن عن حشد العدد الكافي من الأفراد، فستتعرض بلا شك لضغوط أشد عند المشاركة في تعزيز الدفاعات المشتركة للناتو.
شأنها شأن برلين وأوسلو، تواجه روما بالفعل تحديات كبيرة على صعيد الأفراد العسكريين، ومن المرجح أن تكافح في المستقبل مع عملية التجنيد. ففي العام الماضي، أعلن رئيس هيئة الأركان الدفاعية أن القوات المسلحة الإيطالية البالغ عددها 165 ألف جندي "صغيرة الحجم بشكل مطلق"، وأن أي عدد أقل من 170 ألفا يُعتبر "أدنى من مستوى البقاء". غير أن تحدي الأفراد في إيطاليا يملك حلاً أسهل مقارنةً بألمانيا والنرويج، فمتوسط الرواتب للعسكريين لا يتناسب مع الرواتب التي يقدمها القطاع الخاص أو الوظائف الحكومية المدنية. كما أن تدنّي الرواتب، إلى جانب بُعد إيطاليا النسبي عن التهديد الروسي، يقلّلان من الدعم الشعبي، إذ لا يقول سوى 16 بالمئة من الإيطاليين إنهم مستعدون للقتال من أجل بلادهم.
ويقول الباحثان إن هذه التحديات ليست حكراً على أوروبا. فالولايات المتحدة تواجه ضغوطاً ديموغرافية مماثلة، وإن كانت لأسباب مختلفة، وقد اضطرت بالفعل إلى تكييف ممارساتها في التجنيد للحفاظ على مستويات قواتها. وتقدم هذه التجربة دروساً قد تساعد حلفاء الناتو على تحويل الإنفاق الدفاعي إلى قدرة عسكرية فعلية.
فخلال السنوات الـ15 المقبلة، من المتوقع أن ينخفض عدد خريجي المدارس الثانوية الأميركية بنحو 13 بالمئة (بحلول عام 2041). لكن المبادرات السابقة التي اتخذتها مؤسسات التعليم العالي لمواجهة انخفاض معدلات المواليد يمكن أن تشكّل نموذجاً للقوات المسلحة الأميركية وحلفائها على حد سواء. وقد يشمل ذلك توسيع الفرص الموجهة إلى الفئات غير الممثلة بالقدر الكافي، مثل النساء والأقليات والطلاب الدوليين.
إن النجاحات الأخيرة التي حققها الجيش الأميركي في مجال التجنيد توفر خارطة طريق لحلفاء الناتو. فبمواجهة ضغوط ديموغرافية مشابهة، تمكنت القوات الأميركية من تجاوز أهدافها في التجنيد لعام 2024 بفضل الاهتمام القيادي المركز، والمبادرات الجديدة مثل دورات الإعداد قبل المعسكر التدريبي، والتغييرات العملية في السياسات، كتخفيف القيود المفروضة على الوشوم، وتحديث معايير تركيب الجسم. ويمكن لحلفاء أوروبا أن يتبنوا مقاربات مماثلة مع معالجة تحدياتهم الخاصة، مثل المقاومة الثقافية للخدمة العسكرية في ألمانيا، ومستويات الرواتب غير التنافسية في إيطاليا.
ويقول الباحثان إن هذا هو الدرس الذي يجب على الناتو أن يستوعبه الآن. إن الالتزام التاريخي للحلف بإنفاق 5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع ضروري، لكنه غير كاف. فبدون وجود عدد كاف من الأفراد المدربين لتشغيل معداته المتطورة بشكل متزايد، لن يترجم التمويل الإضافي إلى قدرة ردع حقيقية.
ويختتم الباحثان بأن سد فجوة القوى البشرية سيتطلب من الحلفاء تبني استراتيجيات جريئة ومنسّقة لتوسيع قاعدة المواهب، وتحديث سياسات التجنيد، وتعزيز ثقافة تميز تجذب المزيد من الكفاءات وتُبقي على من هم في الخدمة بالفعل. فالناتو الذي يوازن بين استثماره المالي والكمية والنوعية المناسبة من رأس المال البشري سيكون أكثر قوة بكثير من حلف يحقق نصف المعادلة فقط.