من أحياء سويتو الفقيرة في جنوب أفريقيا إلى مناصب قيادية في الرئاسة، ثم إلى دور ناقد داخلي مؤثر، تمثّل سيرة القسّ فرانك تشيكانيه رحلة أمة بأكملها، بما فيها من تناقضات وانتصارات وإخفاقات.
اليوم يقود هذا الرجل، الذي نجا من محاولة اغتيال بالسم وكان من مهندسي الديمقراطية في جنوب أفريقيا، حملة لمقاطعة إسرائيل ، مؤكدا أن "حقوق الفلسطينيين منتهكة منذ أكثر من 70 عاما، لهذا ندعمهم".
في حوار خاص مع الجزيرة نت، يكشف تشيكانيه، المدير العام السابق في مكتب الرئيس وأمين مجلس الوزراء حتى عام 2008، قصة حياة وهبها لقضية العدالة: من تأسيس أحد أوسع التحالفات المناهضة للعنصرية في تاريخ البلاد، إلى قيادة النضال ضد الفساد داخل حزبه اليوم.
لفهم قصة تشيكانيه، يلزم أولا فهم نظام الأبارتايد الذي شكّل حياته وحياة ملايين الجنوب أفريقيين. "الأبارتايد" كلمة أفريكانية تعني "الانفصال"، وكان نظاما عنصريا مؤسّسيا حكم جنوب أفريقيا من 1948 إلى 1994. قُسّم السكان إلى 4 فئات عرقية صارمة: البيض، السود، الملوّنين (ذوي الأصول المختلطة)، والهنود.
رغم أن البيض كانوا يشكّلون نحو 12% من السكان (حوالي 40 مليون نسمة آنذاك)، فقد سيطروا على 87% من الأراضي ومعظم المناصب السياسية والاقتصادية. في المقابل حُرم السود (نحو 75% من السكان) من حقوق أساسية كالتصويت وحرية التنقل والتعليم الجيد والرعاية الصحية المناسبة.
كان نظام "البانتوستانات" (الأوطان الأم) جزءا رئيسيا من هذا الظلم، إذ أُجبر السود على العيش في مناطق معزولة لا تتجاوز 13% من مساحة البلاد، ومُنعوا من تملّك الأراضي في المناطق البيضاء. وقد افتقرت هذه المناطق للبنية التحتية والخدمات، مما عمّق الفجوات الاقتصادية والاجتماعية.
في هذا السياق القمعي، وُلد فرانك تشيكانيه في الثالث من يناير/كانون الثاني 1951 في حي أورلاندو ويست بسويتو، وهي منطقة فقيرة قرب جوهانسبرغ خُصّصت لإسكان العمال السود تحت نظام الأبارتايد. نشأ في عائلة متديّنة، كان والده قسّا في "كنيسة الإيمان الرسولي" (خمسينية بروتستانتية) ركّزت على الروحانية والعدالة الاجتماعية، وكانت ملاذا للسود في مواجهة تمييز بارز داخل بعض الكنائس التقليدية التي أيّدت الأبارتايد.
وفي سن الثامنة ألقى تشيكانيه أول عظة له. لكن الحدث الذي غيّر حياته من طفل متديّن إلى مناضل سياسي وقع وهو في سن الـ15، إذ احتاجت خالته، القادمة من بوشبك ريدج على بُعد نحو 400 كيلومتر، إلى العلاج في مستشفى باراغواناث، فوصلت إلى منزل العائلة في العاشرة مساء. يقول: "عند الثانية صباحا وصلت الشرطة لاعتقال خالتي لأنها لا تملك تصريحا للوُجود في سويتو. تخيّل: بلدة للسود لكنها تحت سيطرة البيض، وتحتاج إذنا لزيارة أقاربك!". أدرك حينها أن نظاما يتحكّم بحركة الناس حتى في مرضهم، وأنه نظام شرير يناقض قيمه الدينية.
يقول "لم يبدأ نضالي من السياسة كما يحدث لمن وُلدوا في عائلات سياسية، بل من الإيمان. نشأتُ كمسيحي أؤمن أن الله إله عدالة. إن لم يكن إله عدالة فليس إلها. وإذا انحاز لشعب ضد آخر أو دعم التمييز فلا يمكن أن يكون الله".
كما كانت "قوانين المرور" التي ألزمت السود بحمل "كتاب المرور" أداة رئيسية للقمع، ومن ضُبط من دونه تعرّض للاعتقال أو الغرامة أو السجن. ترسّخت لدى تشيكانيه قناعة بأن الأبارتايد ليس مجرد نظام سياسي، بل منظومة عنصرية استعمارية تجرد السود من كرامتهم، وأنه يجب اقتلاعها.
عام 1972 التحق تشيكانيه بجامعة الشمال لدراسة العلوم والرياضيات، ضمن "تعليم البانتو" المنفصل والأقل جودة والمصمَّم لإبقاء السود في أدوار دنيا. غير أن هذه الجامعات تحوّلت، خلافا لمراد مصمّميها، إلى بؤر للنشاط السياسي والفكري، وازدهرت فيها "حركة الوعي الأسود" التي أسّسها ستيف بيكو عبر "منظمة طلاب جنوب أفريقيا السود" "إس إيه إس أو"(SASO) عام 1968.
وكانت فلسفة الوعي الأسود ثورة نفسية وثقافية قبل أن تكون سياسية، دعت إلى رفض عقدة النقص وغرس الاعتزاز بالهوية الأفريقية والثقافة والتراث، مؤكّدة أن التحرر النفسي يسبق التحرر السياسي والاقتصادي.
يصف تشيكانيه أثرها "عزّزت قناعتي الدينية بأنني مخلوقٌ على صورة الله، ولا يحق لأحد إذلالي. التحرّر يبدأ من العقل". كما ساعدته على قراءة التاريخ العالمي بوصفه سياقا للاستعمار والعبودية والهيمنة، مما يفسّر جذور الظلم الراهن.
وقد دفع روّاد هذه الفلسفة ثمنا باهظا، إذ تُوفي ستيف بيكو في الحجز الشرطي تحت التعذيب في 12 سبتمبر/أيلول 1977 عن 30 عاما، وبات رمزا عالميا للمقاومة.
لعبت الكنائس أدوارا متباينة إبّان الأبارتايد، دعمت الكنيسة الإصلاحية الهولندية النظام بتبريرات دينية، بينما ارتفعت أصوات "نبوية" شجاعة ضد الظلم، من بينها ديزموند توتو (نوبل للسلام 1984) وآلان بويساك وآخرون. يقول تشيكانيه "في التسعينيات استطعنا حشد المجتمعات المسيحية، وكان هذا مهما لأن نحو 80% من السكان مسيحيون". ويؤكد أن النضال جمع مختلف الأديان "عملنا مع مسلمين ويهود وكل من آمن بالعدالة. وقفنا معا وتعرّضنا للتعذيب معا".
مع تصاعد القمع وإعلان حالة الطوارئ في الثمانينيات، تأسّست "الجبهة الديمقراطية المتحدة" "يو دي إف" (UDF) في 20 أغسطس/آب 1983 كشبكة جمعت أكثر من 600 منظمة، نقابات، هيئات دينية، منظمات طلابية، ومجموعات مجتمعية. كان تشيكانيه من قياداتها البارزين.
ويقول "كنتُ في زنزانة تضم 15 شخصا، أساتذة، ومسلمين، وهندوس، ومسيحيين… استطعنا التعبئة معا كأغلبية ضد النظام". ويضيف "بلغنا تنظيما دقيقا حتى على مستوى لجان الشوارع، فتحدّينا نظاما امتلك قوة عسكرية وترسانة متقدّمة، ومع ذلك سقط".
بسبب دوره القيادي في "الجبهة الديمقراطية المتحدة" أصبح تشيكانيه هدفا للأمن. ففي عام 1989 دسّ عملاء مادة "الباراأوكسون" شديدة السميّة في ملابسه الداخلية لتُمتص عبر الجلد وتبدو الوفاة طبيعية. نجا تشيكانيه واستمر في نضاله. وفي 2006 زاره وزير الشرطة السابق أدريان فلوك، الذي أمر بالتسميم، معتذرا وطلب غسل قدميه رمزا للتوبة. يقول تشيكانيه "إيماني علّمني ألا أُؤسَر للكراهية، أسامحهم كي لا أكون سجينا لمعذّبيّ".
بعد أول انتخابات ديمقراطية عام 1994، تولّى نيلسون مانديلا الرئاسة وتابو مبيكي نيابة الرئاسة. عُيّن تشيكانيه مديرا عاما في مكتب نائب الرئيس، ثم أصبح المدير العام في مكتب الرئيس وأمين مجلس الوزراء عند تولّي مبيكي الرئاسة عام 1999، واستمر حتى 2008. وكان الانتقال من منطق المقاومة إلى منطق بناء الدولة تحديا كبيرا يتطلّب مهارات مختلفة لمعالجة إرث طويل من اللامساواة.
في عام 2008، اضطر مبيكي للاستقالة بعد خسارته رئاسة المؤتمر الوطني الأفريقي أمام جاكوب زوما في مؤتمر بولوكواني 2007 وسط انقسامات داخلية. ويرفض تشيكانيه وصف ما حدث بـ"السقوط"، ويعدّه صراعا حزبيا لا حكما شعبيا على الأداء، ويقول "حتى المنظمات الثورية قد تُخترق وتُضعف من الداخل".
يواصل تشيكانيه معركته اليوم كرئيس للجنة النزاهة في المؤتمر الوطني الأفريقي، مركّزا على مكافحة الفساد الذي تفاقم خلال حقبة جاكوب زوما وما ارتبط بها من اتهامات "الاستيلاء على الدولة".
ويقول "هناك من اخترقوا الحركة والحكومة أو أُفسدوا، سمحوا لعناصر إجرامية بالتوغّل". ويحذّر بمثال هايتي: دولةٌ حرّرت نفسها مبكرا لكن التدخّلات الخارجية والفساد الداخلي قاداها إلى الانهيار. ومع ذلك يبقى متفائلا "جنوب أفريقيا ستُنقَذ. نخوض معركة حقيقية لتغيير ديناميات القوة".
غدا تشيكانيه من المدافعين البارزين عن القضية الفلسطينية، مقارنا الاحتلال الإسرائيلي بنظام الأبارتايد. يقول "حقوق الفلسطينيين مُنتهكة، حُرموا تقرير مصيرهم ويعيشون تحت الاحتلال منذ أكثر من سبعين عاما، لذلك ندعمهم". ويرفض مساواة نقد الاحتلال بمعاداة السامية "لسنا ضد اليهود، نحن ضد نظام قمعي. الظلم ظلم أيّا كان فاعله".
يختتم تشيكانيه مستندا إلى شعار المؤتمر الوطني الأفريقي "حياة أفضل للجميع"، ويضيف"ما زلنا نطمح لجنوب أفريقيا أفضل، ولأفريقيا والعالم بأسره. لم نبلغ الهدف بعد". ويرى أن الظلم العنصري والاجتماعي ظاهرة عالمية تمسّ الملوّنين والفقراء في كل مكان. أمّا طموحه الشخصي فمتواضع "أريد أن أغادر هذا العالم وقد أدّيتُ المهمة التي وُجدتُ لها: خدمة الناس".
من سويتو إلى قصور الحكم، ومن الزنازين إلى المنابر العالمية، تبقى سيرة فرانك تشيكانيه شاهدا على أن إسقاط نظام ظالم ليس نهاية الطريق، بل بدايته، طريق يتطلّب يقظة دائمة وتفانيا لمواجهة كل أشكال الظلم، من الفساد الداخلي إلى القمع أينما كان.